ليلة القدر وآدابها
محمد عبده يماني
هذه الليلة ليلة عظيمة ومباركة وغير عادية فهي ليلة خير من ألف شهر والعمل فيها يعدل عمل ألف شهر، وذلك عطاء الكريم الذي لاينقص ماعنده على كثرة العطاء، ولكن من الخطأ أن نظن أنها ليلة ننتظرها لننال بها الخير في الدنيا، ونسأل الله تعالى بها العاجلة، ومع الأسف فإن كثيرا من الناس ينتظرون هذه الليلة لينالوا بها عرضا من الدنيا قريب، ويركزون للحصول على مكاسب دنيويه، وعقد صفقات تجارية ونحو ذلك من مطالب دنيوية لا تساوي عند الله جناح بعوضة!!.
إنها ليلة عظيمة لأمر عظيم، نسأل الله عز وجل فيها ما فيه من خير الدنيا والآخرة، وصلاح المعاش والمعاد، فإن الدنيا طريق إلى الآخرة، وإن الدار الآخرة لهي الحياة التي تستحق أن يكرس لها الجهد، وتشحذ لها الهمم، ولذلك دعونا نتحدث عن آداب هذه الليلة وكيف نستعد لها، وكيف نتحراها، وماذا نقول فيها، وبماذا ندعو عند رؤيتها:
1/إن أول أداب هذه الليلة هو الإستعداد لها بالتوبة الصالحة والمسارعة إلى الخيرات والكف عن المحرمات والشهوات، فأول ما يجب على طلاب ليلة القدر أن يبدؤوا شهر الصوم بالتوبة إلى الله والندم على الذنوب والمعاصي، والإقلاع عنها، والعزم على عدم العودة إليها، ومحاسبة النفس على الحقوق التي في الذمة من أموال الناس، وردها إلى أصحابها إذا كان عند التائب منها شىء، وأداء الزكاة المشروعة، وفي مقدمة كل ذلك التوحيد لله عز وجل واخلاص العبادة له دون شريك، لأن الله عز وجل أغنى الأغنياء عن الشركاء ولا يقبل أي عبادة يخالطها شرك من قريب أو بعيد.
2/أداء الزكاة المفروضة: وإيصالها إلى أصحابها من المستحقين من الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والعاجزين، فإن من حبس الزكاة عن مستحقيها يكون آكلاً لأموالهم وحقوقهم والتي شرعها الله تعالي لهم بقوله {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} والذي يمنع زكاة ماله سواء كانت قليلة أوكثيرة يكون آكلاً لأموال هؤلاء الضعفاء والمحرومين، فكيف يرجو أن تناله رحمة الله وهو آكل لحقوق هؤلاء، ومعطلا لركن من أركان الإسلام.
3/ومن آداب ليلة القدر أن يراقب الصائم ربه في صومه فيكف عن إيذاء الناس بلسانه ويده وسائر أعماله وأحواله، وأن يحبس نفسه عن محارم الله، فلا يرفث، ولا يصخب ولا يغضب، وأن يعفو عمن أساء إليه، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، وأن يترك الكذب والفحش والتكبر وقول الزور، فإن من لم يدع الكذب وقول الزور فليس لله حاجة في أن يدع طاعه وشرابه كما جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
4/أن يتقرب إلى الله عزوجل بأنواع القربات، والتى من أهمها في هذا الشهر الكريم قيام رمضان وهي صلاة التراويح، وأن يجتهد في أدائها في المسجد مع الجماعة.
5/أن يصل رحمه ويتفقد قراباته ويزورهم ويهدي إليهم، ويعطي فقيرهم ويساعد ضعيفهم وأول ما يجب عليه من صلة أرحامه بر والديه والإحسان إليهما بخدمتهما والدعاء لهما وإكرامها والإهداء إليهما إن كانا على قيد الحياة، فإن كانا ميتين تصدق عنهما وأكثر من الدعاء لهما ولوالديهما ثم يأتي ذلك صلة إخوته وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته وسائر اقربائه، فإن كان قد وقع بينه وبين أحد منهم شىء فليبادر إلى مصالحت، وليعفو عن مسيئهم، وإن كان هو المسئ فليعتذر إلى من أساء إليه ويطلب مسامحته.
6/أن يعتكف في العشر الأواخر من هذا الشهر إن أمكنه ذلك ، فإن حال بينه وبين إعتكاف العشر حائل، فليعتكف ما إستطاع: يوما أو يومين أو ثلاثة أو مايستطيع، يلزم خلال ذلك المسجد ولا يخرج منه إلا لضرورة.
7/وأن يقرأ القرآن بتدبر وعناية فاذا مر بآية رحمة سأل الله الرحمة، وإذا مر بآية عذاب إستعاذ بالله من ذلك، وأن يقصد بقراءته العمل بما فيه من أوامر وزواجر واحلال حلاله، وتحريم حرامه، والأخذ بأحسن ما يدعو إليه هذا القرآن.
8/أن يكثر من ذكر الله عز وجل بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، والإستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر صيغ الذكر المشروعة لأن الله عز وجل قد أمرنا بذلك ودعانا إليه في الآيات الكثيرة، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بذلك أيضا وبين لنا فضائل ذكر الله بالأحاديث المتكاثرة.
9/الإستعداد لهذه الليالي بالنوم الكافي خلال النهار، وأن يصيب في الليل ساعتين أو ثلاثا تكون عونا له على القيام الا ليلة القدر فانه يجتهد ما استطاع ان يقومها كلها فان عجز فلينم ساعة أو ساعتين ثم يستأنف القيام.
10/أن يكثر في هذه الليلة من الدعاء والتضرع الى الله وأن يسأله الرحمة والمغفرة وأن يسأله حاجاته الدنيوية والأخروية، وأن يلح في الدعاء، ويدعو كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهمَّ إنَّك عفُوٌّ كريمٌ تُحِبُّ العفْوَ، فاعْفُ عنِّي" وأن يدعو وهو حاضر القلب مع الله عز وجل، وأن يدعو لنفسه ولوالديه ولأهله وأولاده، ولإخوانه وأصدقائه، وأن يدعو لعموم المسلمين، وخاصة المرضى والمهمومين، والمكروبين، وأن يدعو لأموات المسلمين بالرحمة والمغفرة والجنة، وأن يدعو وهو مستيقن من الإجابة، لأن الله عز وجل يستجيب الدعاء ممن دعاه مطلقا، ويستجيب الدعاء من الصائمين خاصة، وشهر الصيام هو شهر إجابة الدعاء، وقد جاء في الحديث قوله صلى الله علبه وسلم: "أتاكم رمضانُ شهرُ بركةٍ يغشاكم اللهُ فيه فيُنزِلُ الرَّحمةَ ويحُطُّ الخطايا ويستجيبُ فيه الدُّعاءَ ينظرُ اللهُ تعالَى إلى تنافُسِكم فيه ويُباهي بكم ملائكتَه فأروا اللهَ من أنفسِكم خيرًا فإنَّ الشَّقِيَّ من حُرم فيه رحمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ". فإذا كان العشر الأخير الذي فيه ليلة القدر، كانت الإجابة أرجى، فإذا كانت الليلة التي هي ليلة القدر كانت الرحمة الواسعة التي تعم جميع المسلمين إن شاء الله، وينال من برها وخيرها كل القائمين فيها الذين يدعون الله عز وجل لأمور دنياهم وآخرتهم، فإن الله عز وجل هو أرحم الراحمين وهو الغني الكريم، يعطي بغير حساب، ويرحم جميع العباد، وحاشا لله ان يخيب داعيا قد انكسر قلبه لله وتذلل لجلاله ودمعت عينه من خشيته.
إن ليلة القدر هي ليلة الرحمة المرسلة من الله تعالى على عباده الصائمين القائمين العاكفين الراكعين الساجدين، وهي رحمة يرسلها الله تعالى تعظيما لهذا القرآن، ولليلة التي أنزل فيها القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وفيها بدأ القرآن يتنزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور وقد بين الله عز وجل انها ليلة مباركة خاصة بأمة القرآن، فقال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ{.
نسأل الله أن يكرمنا بإحياء هذه الليلة ويتقبل منا صيامنا وصلاتنا وجميع أعمالنا، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم إنه سميع مجيب.
التعليقات