مشاهد الحج

 مشاهد الحج

الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي 

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على مَن بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد؛ فإن الأعمال الصالحة تُكَمِّل الإيمان وتزيده، ولا يمكن أن يتم، ولا أن يرسخ، ولا أن يثبت في النفوس إلا بها؛ إذ بها تُذاق حلاوة الإيمان، وبها ترتفع درجاته في قلب الإنسان، والحج من أكثر هذه الأعمال تأثيرًا في الإيمان، فإن كثيرًا من أعماله تعبديَّة لا تَعلليةٌ، ولا يدرك الشخص حِكَمَها، ولكنها تنبهه على الموت وما بعده، فيزداد إيمانه بذلك ويتأكد، فما كان تَعلُّليًّا من الأعمال قد يفعله الشخص بدافع المصلحة المترتبة عليه، أما ما كان تعَبديًّا محضًا فإنما يفعله الشخص من منطلق التسليم والاستسلام لأمر الله، ولا يخفى ما بين التسليم والإيمان من قوة الصلة، قال الله - تعالى -: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].

بداية الحج:

فبداية الحج هي الخروج من الأوطان والبلدان، وسلوك هذه الفجاج العميقة، ثم بعد ذلك يغتسل الشخص كما تُغسلُ الجنازة، ثم يلبس إحرامه كما يدرج في أكفانه، ثم يصلي كما يصلي المقرَّب للقتل، ثم يتهيأ بالتلبية لإجابة بارئه ومولاه، ويتذكر بذلك إجابته إذا دعاه حين الموت، فإن الله - سبحانه وتعالى - يرسل ملك الموت ليقبض الأرواح، فتستجيب الأرواح دون تقدم ولا تأخر، كما قال الله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61، 62]، فيتذكر الإنسان هنا إجابة هذه النفس لبارئها إذا دعاها، بتلبيتها دعاء الله الذي أمر به خليله في قوله:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، ويتجرد الشخص من مهامه كلها، ومن أمور الدنيا كلها، حتى مِن ملابسه؛ ابتغاء مرضاة مولاه - سبحانه وتعالى - وبذلك يتم الإقبال عليه.

وأول ما ينادي بالتلبية يتذكر أن الناس في جواب الله - تعالى - لهم بهذه التلبية ينقسمون إلى قسمين:

القسم الأول: الذين كتب الله لهم الحجَّ المبرور، الذي ليس له جزاء إلا الجنة[1]، وأراد أن يباهيَ بهم ملائكته، واختارهم ليكونوا من وفده الذي يَفِدُ إليه في هذه السنة، وهؤلاء مشرفون بحجهم؛ فهم ضيوف الرحمن المكرمون، وقد حُكِم لهم بقبول حجهم في بداية تلبيتهم، ولذلك إذا لبى أحدهم ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، حجُّك مبرور؛ زادك حلال، وراحلتك حلال.

القسم الآخر: الذين يَرُدُّ اللهُ عليهم عملَهم ولا يتقبله - أجارني الله وإياكم - فيكون حظهم من حجهم التعبَ والنصب، وإفساد الوقت والساعات الطويلة، وترك الأعمال في فترة زمنية مهمة، إذا نادى أحدهم: "لبيك"، يُناديه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك؛ زادك حرام، وراحلتك حرام؛ حجك غير مبرور، وسعيك غير مشكور، فيردُّ الله عليه حجَّه ولا يتقبَّله[2]؛ ولذلك روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلاً كان عنده، فرأى كثرة الحجيج الملبِّين، فقال: ما أكثرَ الحجاجَ! فقال ابن عمر: بل ما أقل الحجاج، قال ما أكثر الركب([3]). أما الحجاج بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة فقليل؛ لأن الحج معناه القصد ولذلك يقول الشاعر:

         

وَأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ جُمُوعًا كَثِيرَةً        يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا[4]



يحجون معناه: يقصدون، فالحج معناه القصد، ولا يقبل الله - تعالى - قصدًا أَشرك فيه الشخصُ معه غيرَه.

كما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في "صحيح مسلم" فيما يرويه عن ربه - عز وجل - أنه قال: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عَمِلَ عملاً أشرك فيه معي غيري، تركتُه وشِركَه))[5].

فكثير يُشرك مع الله - تعالى - غيرَه في عمله، برياء، أو سمعةٍ، أو غير ذلك، فلا يتقبل الله حجَّه ويَردُّه، وينسب للإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -:

إِذَا حَجَجْتَ بِمَالٍ أَصْلُهُ  سُحُتٌ        فَمَا حَجَجْتَ وَلَكِنْ حَجَّتِ العِيرُ[6]
لاَ   يَقْبَلُ   اللَّهُ   إِلاَّ   كُلَّ   طَيِّبَةٍ        مَا كُلُّ مَنْ حَجَّ بَيْتَ  اللَّهِ  مَبْرُورُ[7]



فقلة هم المبرورون الذين يُتقبل منهم حجهم، ويؤثِّر في إيمانهم ويزيده.

طريق الأنبياء:

وإذا تجاوز نقطة البداية، تذكَّر الشخص في مسيره إلى البيت الحرام أنه يسلك طريق الأنبياء، فما من نبيٍّ بعد إبراهيم - عليه السلام - إلاَّ حجَّ هذا البيت[8]، وهذه النقطة نبَّه عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق ذهابه إلى الحَجِّ مرتين، كما في حديث ابن عباس في "صحيح مسلم": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مرَّ بفجِّ الروحاء سأل: ((أيُّ وادٍ هذا؟))، قالوا: وادي الأزرق، فقال: ((كأني أنظر إلى موسى واضعًا إصبعيه في أذنيه، له جُؤَار إلى الله - تعالى – بالتلبية، مارًّا بهذا الوادي"، ثم مر بثنية، فقال: ((أي ثنية هذه؟))، فقالوا: هَرْشَى أو لِفْت[9]، فقال: ((كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراءَ، خطامُ ناقته ليفُ خُلْبَةٍ، وعليه جبة من صوف، مَارًّا بهذا الوادي ملبيًا))[10]، فبيَّن هنا إلى أن سالك طريق الحج، عليه أن يَذكُر أنه حلقة من سلسلة طويلة، فيها رسل الله وخيرته من خلقه وأصفياؤه، فهم جميعًا لبوا نداء الله، وحجوا هذا البيت، وأنت تسلك آثارهم، وتريد عند الله ما يريدون، فلذلك عليك أن تلتزم بهديهم وسنتهم؛ لأنك تريد مرافقتهم في مرضاة الله - تعالى - وفيما رغبوا فيه، فأنتم أتيتم إجابةً لنداء الله، فكما جاء الأنبياء تأتي أنت، تسلك طريقهم، وتترسَّم خطاهم، وتبتغي عند الله ما كانوا يبتغون.

فإذا رأيت كثرة القاصدين الوافدين معك من كل مكان، كان هذا أيضًا داعيًا لتقوية الإيمان؛ لأن هؤلاء لا يمكن أن يجمعهم في صعيد واحد إلاَّ مُلْكُ ديان السموات والأرض، ولذلك يقولون في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لكَ لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، فيحمدون الله - عز وجل - على أن حملهم، ويسر لهم وسهل، وبلغهم.

ثم يقرُّون أيضًا بهذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم من الإيمان، ومما يسر مما دون ذلك، ثم يقرون لله بهذا الملك الذي يجمع أهل مشارق الأرض ومغاربها، وجنوبها وشمالها، لا تمر في طريق إلاَّ رأيت عجبًا، تجد عن يمينك حجاج أمريكا، وعن يسارك حجاج اليابان، وبين يديك حجاج فرنسا، ومن خلفك حجاج أستراليا، وهكذا...

فيجتمع أهل هذه المشارق والمغارب في هذا الصعيد يلبُّون هذه الدعوة، التي لو كانت من أحد من ملوك الأرض، لما استطاع أن يجمع هذا الجمع، ولا قريبًا منه، ولا أقل من ذلك.

ثم إذا رأيتهم جميعًا يلبون بتلبية واحدة، ويقومون بشعائر موحدة، ويقصدون بيتًا واحدًا، ومشاعر موحدة، أيقنت ببقاء هذا الدِّين وخلوِدِه، وصلاحيته للتطبيق المستمر في كل زمان ومكان، وأنه الدين الحق، وأنه مهما تعالت الصيحات المناوئة له فإنها من صولات الباطل، وإن للباطل صولةً فيضمحل، وإن الحق يعلو ولا يُعلى عليه؛ لذلك تعلم أن الناس لا بد أن يعودوا إلى هذا المنهج، الذي وصلوا به إلى ما وصلوا إليه، مهما ابتعدوا عنه، ومهما تفرقوا واختلفوا، فلا بد أن يعودوا إلى هذا المنهج الصحيح، ولذلك فإن تلبيتهم ومجيئهم، يبذلون أموالهم وأوقاتهم، ويتعرضون للكثير من الأوبئة والأمراض وغيرها، ويَصِلون إلى هذه الأماكن المقدسة، وما زالت تجمعهم نفس الشعائر، في نفس المشاعر، بنفس الزي، بنفس الكلمات التي يرددونها، تذكرهم بأنهم أمة واحدة: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].

فيه آيات بينات:

ثم إذا وصلت إلى مكة، وقطعت التلبية، ودخلت المسجد الحرام - تذكرتَ الآيات البينات التي فيه، فهن من العجب العجاب، فمنها هذا البيت الحرام العتيق، الذي هو أول بيت وضع للناس، من هنا انطلقت حضارة العالم كله.

فإذا نظرت إلى البيت العتيق، قلتَ: من هنا بدأت الإنسانية، الإنسانية كلها، فأول بيتٍ وُضع للناس هو هذا البيت.

فتنظر إلى انتشار الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وما سُخر لهم من الأرزاق، وما نُشر في مناكب الأرض من الخيرات، وبدايتهم من هذه الغرفة الواحدة، التي هي بداية الحضارة في الأرض كلها: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].

ترى أنه مبارك كما وصفه الله بذلك، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلم الحجر الأسود[11]، وقد روي أنه قال: ((إنه يبعث وله لسانٌ وعينان، يشهد لمن استلمه بحق))[12]، وقال فيه ابن عباس: "الحجر الأسود يمين الرحمن في الأرض، فمَن قبَّله فكأنما قبَّل يمين الرحمن"[13].

حرمًا آمنًا:

وكذلك من العجائب فيه، أن هذا البيت العتيق عتيقٌ في الدنيا والآخرة، عتيق في الآخرة، فهو مشرفٌ عند الله - تعالى - معظَّم، وعتيق في الدنيا فلا تصل إليه سلطات السلاطين، فهو دائمًا بمنأى عن هذه الأمور؛ لأن الله - تعالى - جعله للناس كافة، كما قال - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].

ولذلك تقول امرأةٌ في الجاهلية لولدها:

أَبُنَيَّ  لاَ  تَظْلِمْ   بِمَكَّةَ        لاَ  الصَّغِيرَ  وَلاَ  الكَبِيرْ
أَبُنَيَّ     قَدْ     جَرَّبْتُهَا        فَوَجَدْتُ ظَالِمَهَا  يَبُورْ
اللَّهُ      آمَنَهَا      وَمَا        بُنِيتْ بِسَاحَتِهَا القُصُورْ
وَلَقَدْ     غَزَاهَا     تُبَّعٌ        فَكَسَا   بَنِيَّتَهَا   الحَرِيرْ[14]



فتجد أن هذا التعظيم الذي هو في قلوب الناس لهذه الكعبة المشرفة - ليس بسبب أن دولة من الدول أرادت تعظيم هذا المكان، أو أرادت أن تجعله موقعًا سياحيًّا تدعو الناس إليه؛ بل هو تعظيمٌ من عند الله - تعالى - فطر الناس عليه، وهو تعظيم قديم غير جديد، فهو منذ خُلِقت السموات والأرض؛ ولذلك حين حُفر في داخل الكعبة المشرفة لبنائها، وُجد حجرٌ فيها مكتوب عليه: "أنا الله ذو بكة، خلقتها أو حرمتها يوم خلقت السموات والأرض"[15].

وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خطبة بعد يوم الفتح: ((إن مكة حرَّمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يَحلُّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا: إن الله قد أذِنَ لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادتْ حُرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب))[16]، وعندما دخلها بالسلاح ألصق ذقنه بصدره؛ حياءً من الله - سبحانه وتعالى - أن يدخل مكة بالسلاح[17]، وهو يدخلها لإبطال الباطل، وإحقاق الحق، ومع هذا فهو لهذا الاحترام يلصق ذقنه بصدره؛ حياءً من الله - سبحانه وتعالى - لدخوله بلده الحرام بالسلاح.

العبادة لله وحده:

وأيضًا تشاهد أن هذا البيت من عتقه في الدنيا، أن الله - عز وجل - لم يأذن للبشر -إذنًا كونيًّا - بعبادة هذا البيت، فالبشر عندما تنتكس فطرتهم يعبدون كل شيء، يعبدون الأحجار، والأشجار، وغير ذلك، وكل معظَّم لديهم يغالون في تعظيمه حتى يعبدونه من دون الله، وإذا لم يجدوا حجرًا جمع أحدهم ترابًا، ثم احتلب عليه شاةً، فإذا يبس عبَدَه من دون الله، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما وصف عن نفسه في الجاهلية، يتخذ صنمًا من التمر، فإذا جاع أكله وعمل صنمًا آخر، وهكذا؛ لكنهم مع هذا كله، حال اللهُ بينهم وبين أن يعبدوا البيت العتيق؛ لأن الله شرفه وعظمه، فلم يكن لِيُعبدَ من دون الله، ومع هذا فإنهم جعلوا عليه الأصنام، فحين هاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، كان على البيت ثلاثمائة وستون صنمًا.

وكذلك تجد هذا الحجر، الذي هو آيةٌ من آيات الله، أُنزل من الجنة، وما زال من عهد آدمَ إلى وقتنا هذا موجودًا، تمرُّ عليه قرون الدنيا المتطاولة وهو باقٍ في مكانه، وقد أخرجه القرامطة إلى الأحساء، ومكث عندهم عشرين سنة، وعندما نقلوه من مكة نقلوه على خمسين بعيرًا؛ يحملونه في الصباح على بعير، فإذا جاء وقت الزوال مات البعير، فيحملونه على آخر وهكذا، فمات تحته خمسون بعيرًا من مكة إلى الأحساء، فلما انتزعه منهم الخليفة العباسي، أعاده من الأحساء إلى مكة على بعير واحدٍ هزيل، فحمله حتى أوصله إلى مكانه.

 

مقام إبراهيم:

وتجد أيضًا هذا المقام - مقام إبراهيم - الذي فيه موطئ قدميه عندما كان يبني الكعبة، فيصعد به الحجر كلما تطاول البنيان، كأنه سلمٌ كهربائي، ومن عصر إبراهيم إلى عصرنا هذا وهو موجود هنا، ولذلك يقول فيه أبو طالب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

وَثَوْرٍ  وَمَنْ  أَرْسَى   ثَبِيرًا   مَكَانَهُ        وَسَاعٍ  لِيَرْقَى  فِي  حِرَاءَ  وَنَازِلِ
وَمَوْطِئِ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةً        عَلَى  قَدَمَيْهِ   حَافِيًا   غَيْرَ   نَاعِلِ[18] 



فما زال موطئ إبراهيم على قدميه حافيًا غير ناعل إلى وقتنا هذا كما هو.

وكذلك نجد من هذه الآيات البينات، هذا الأمن والأمان الذي فطر الله عليه النفوس في هذا المكان، فالنفوس مطمئنة إلى أمانها، ومرتاحةٌ في هذا المكان راحةً لا تجدها فيما سواه، وهكذا الأمن والطمأنينة أمرٌ مشاهدٌ، حتى عند غير العاقل، كما قالت المرأة في أبياتها التي ذكرنا بعضها:

 

وَاللَّهُ   آمَنَ    طَيْرَهَا        وَالعُصْمُ تَأْمَنُ فِي ثَبِيرْ



وكذلك فإن هذه الطيور التي تعيش في هذا الحرم تأمن الناس، وتألفهم من عصر الجاهلية إلى عصرنا هذا؛ ولذلك قال فيها النابغة الذبياني في عصر الجاهلية:

 

بِالمُؤْمِنِ العَائِذَاتِ الطَّيْرَ تَمْسَحُهَا        رُكْبَانُ مَكَّةَ  بَيْنَ  الغِيلِ  وَالسَّعَدِ[19]



فهذه العائذات عائذات الطير من العصر الجاهلي، وهي تألف هذا الحرم، ويمر بها الناس ويمسحونها ولا يؤذونها، وهي تألفهم وتستقر في هذا المكان؛ دليلاً على هذا الأمن الذي وضعه الله فيه.

وجوب حج البيت:

وكذلك من هذه الآيات البينات، أن الله أوجب حجه على الناس، فيأتونه في كل سنة، فيقام فيه الموسم، فيأتي الناس من مشارق الأرض ومغاربها.

هذه الآيات البينات هي التي بينها الله في قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97].

ولذلك جاء في الخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد الحرام، فرأى البيت العتيق، قال: ((اللهم زِد هذا البيتَ تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابة وبرًّا، اللهم زد مَن شرَّفه وكرَّمه وعظَّمه، ممن حجه أو اعتمره، تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابةً وبرًّا))[20].

ولا شك أن المؤمن الذي يقفو أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا علم أنه طاف سبعة أشواط بهذا البيت، وكل الأنبياء من قبله، وأنه كان يمسح هذا الركن اليماني بيده، ويقبل نفس الحجر الأسود الذي تقبله أو تلمسه بيدك، وهو الذي لمسه آدم، ومَن بعده مِن الأنبياء إلى رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لاشك أن هذا مما يزيد الإيمان.

الصفا والمروة:

وكذلك إذا ذهب الشخص إلى الصفا والمروة، فإنه يتذكر أنهما من شعائر الله، وشعائرُ الله معناها: التي أشعر الله فيها بحكم وعظمها، والله قال فيهما: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اقترب من الصفا: ((أبدأ بما بدأ الله به))[21].

فإذا صعدتَها تذكَّرتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان محصورًا عليها في أربعين شخصًا، هم المؤمنون على وجه الأرض، في دار الأرقم، وأن الله وعَدَهم أن يبلغ هذا الدينُ ما بلغ الليل والنهار، وأن ينتشر حتى تخرج الظعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخاف أحدًا إلا الله.

مستضعفون في الأرض:

وفي حديث خباب بن الأرت في الصحيح، أنه جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بُردَهُ في ظل الكعبة، فقال: "يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض، فيجعل فيها فيه، فيُجاء بالمنشار، فيُوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عَظمٍ وعصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه؛ ولكنكم تستعجلون))[22].

فيذكر الشخص هذا الحصارَ الذي كان مضروبًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وهم نفرٌ قليل، مختفون بأمرهم، لا يستطيعون الظهور إلى الناس، ولا أن يطلع على أمورهم أحدٌ، وهم في دار واحدة تحصرهم جميعًا، لا يتجاوزون أربعين نفسًا، ثم امتنَّ الله عليهم بالإظهار والنصرة والانتشار، حيث قال الله – تعالى -: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].

فتذكر هذه النعمة كما أمرك الله بذلك، فتقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده))[23].

أنجز وعده: وهو قوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27].

وقد حقق الله هذا الوعد لرسوله وللمؤمنين، وأنت داخل في جملة الموعودين بذلك، فلما وصلت إلى هذا المكان حقق الله لك وعده وأنجزه، فلذلك تحمده على ذلك، فتقول: لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده.

ونصر عبده: أي نصر اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - فلم ينصره الناس، ولذلك قال - تعالى -: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

وكذلك تقول: وهزم الأحزاب وحده:

فتذكر أن الذين كانوا يعادون هذه الدعوة، ويقفون في وجهها، من صناديد قريش، ومن سواهم - لم تبقَ لهم باقيةٌ على هذه الأرض، ولا يُعلم مكانُ أحد منهم؛ إلا أنه عن يسار من دخل النار - نعوذ بالله - أما محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين كانوا مستضعفين، فهم الذين كتب الله البقاء لدعوتهم، وأيدهم بنصره، وأعلى منزلتهم في الأولين والآخرين، ونصرهم هذا النصر المبين، فلذلك تُثني على الله - سبحانه وتعالى - بهذا فتقول: "وهزم الأحزاب وحده".

ثم إذا ذهبت إلى المروة تذكرت أن الصفا والمروة كان عليهما صنمان؛ كان على الصفا صنم اسمه إساف، وكان على المروة صنم اسمه نائلة[24]، وكان الناس يترددون بينهما في الجاهلية ويعظمونهما، فلما كسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذين الصنمين بعد الفتح، تحرج أصحابه من الطواف بهما (الصفا والمروة)؛ فردَّ الله عليهم هذا التحرج بقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158].

وادي منى:

ثم إذا ذهبت إلى منى، رأيتَ هذا الوادي المبارك الضيق، الذي كان فيه إبراهيم خليل الله، وكان يطرد الشيطان ويرجمه بالحجارة[25]، وفيه كانت قصة الذبيح، وفيه منزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الخيف، حيث نزل ونظم الناس تنظيمًا عجيبًا، فجعل في مقدمة المسجد المهاجرين والأنصار؛ إشعارًا للناس بمنزلتهم في الإسلام؛ لئلا ينازعوهم، ثم جعل وراءهم مُسلمة الفتح، ثم وراءهم الأعراب، فجعلهم في مؤخرة المسجد، وترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما عُرض عليه أن يُبنَى له بيت بمنى؛ يستظل فيه من الشمس، قال: ((لا، إنما منى مُناخ مَن سبق إليها))[26].

وتجد هذا التواضع العجيب من سيد خلق الله، وأكرمهم على الله، وهو يمتنع أن يبنى له بيتٌ في منى؛ يستظل فيه من الشمس، ويصلي في مكان هذا المسجد إلى غير جدار، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: وتمر الأتان بين يدي بعض الصف وهو في صلاته[27]، فكل هذا يشعرك أن هذا الدين دين الفطرة، وأنه مَن تواضع لله رفعه الله[28]، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يُعزَّه الله بمعايير المادة الدنيوية، وإنما أعزَّه بمعيار نصر الله - سبحانه وتعالى - ورَفْعه الذي رفعه به وأعلى منزلته.

إلى عرفات:

ثم عندما تنطلق إلى عرفات، تستشعر أن هذا الوادي الذي يسمى بطن نعمان، وهو وادي عرفات - هو الذي مسح الله فيه ظهرَ آدم بيده الكريمة، فأخرج منه ذريَّة، فقال: أي ربِّ، من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ثم مسحه مرةً أخرى، فأخرج منه ذرية، فقال: أي ربَّ، من هؤلاء؟ فقال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون[29]، ثم دعاهم أجمعين فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى جميعًا، هذا في عالم الذرِّ، أما المؤمنون فقد بقوا على هذا العهد الذي أشهدوا الله عليه، فما زالوا يجددون العهد في كل سنة يتوافدون إلى هذا المكان؛ ليعلنوا أنهم يقرون لله - تعالى - أنه ربهم، يتذكرون أنه خاطبهم في هذا المكان بقوله: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]؛ فلذلك يجددون هذا العهد مع الله، وهو العهد الذي تجدده أنت في كل صباح ومساء، بما أمرك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سيد الاستغفار: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت))[30] الحديث، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت: هو هذا العهد القديم الذي كان في عالم الذر، الذي قال الله فيه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].

ثم تتذكر هذا الموقف العظيم، الذي هو أعظم يوم في السنة، ولم يمر على الشيطان يومٌ في السنة أخزى فيه منه، ولا على العباد يومٌ أكثر مغفورًا لهم فيه من هذا اليوم.

والناس فيه يستقبلون عثراتهم، ويبكون ويتوجهون إلى الله بقلوب خاشعة، وفيهم المقبولون ومن سواهم، وفيهم مَن يرجع كما أتى أو شرًّا مما أتى.

تتذكر وقوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، وما خاطبهم به، وتتذكر تجلي الباري - سبحانه وتعالى - ليباهي بعباده ملائكتَه، فيقول: ((هؤلاء عبادي، أتَوني شعثًا غُبرًا، أشهدكم أني قد غفرت لهم))[31].

تتذكر هذا الوادي المبارك والذكريات فيه كثيرة: من خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة فيه، عندما خطب خطبة الحج، وفي آخرها أمر بلالاً فأذَّن ثم أقام، فصلى الظهر ركعتين، ثم أمره فأقام فصلى العصر ركعتين، ثم ابتدأ الموقف، وتتذكر حال أصحابه معه في ذلك اليوم وهم يحيطون به من كل جانب، وما كان يأمر به جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - أن يستنصت الناسَ؛ حتى يسمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما انطلق بعد غروب الشمس يهدئهم، ويأمرهم أن ينصرفوا بهدوء وسكينة؛ لأنهم في عبادة لله - سبحانه وتعالى - هي من أعظم القُرب.

المشعر الحرام:

ثم إذا وصلت إلى المشعر الحرام مزدلفة، وأنت كنت في مشعر حلال (فعرفة هي المشعرُ الحلال؛ لأنها خارج حدود الحرم، ومزدلفة هي المشعر الحرام؛ لأنها داخل حدود الحرم) فتذكرت مبيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بها، ووقوفه الموقف الذي ستقفه أنت بعد طلوع الفجر، تكبِّر الله - سبحانه وتعالى - على ما هداك وما وفقك إليه من الحج، وتذكر أن أهل الجاهلية كانوا يذكرون آباءهم، ويتفاخرون بأنسابهم في هذا المكان، فتذكر الله أكثرَ مما كانوا يذكرون آباءهم.

وبذلك يقوى منسوبُ الإيمان لديك، حتى إذا أفضتَ إلى منى، وأسرعت في بطن مُحَسِّر (وهو وادي النار) - تذكرتَ أيضًا أنه هو الذي انتقم الله فيه من أصحاب الفيل، الذين كانوا يريدون هدم البيت العتيق: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 3 - 5]، وجاءت هذه الطيور من جهة البحر الأحمر، وكل طائر منها يحمل ثلاثة أحجار، فيرمي ثلاثة رجالٍ فيهلكون، حتى قضى على آخرهم، ومات الفيل في هذا المكان، فتسرع في هذا المكان؛ لأنه مكان غضب، ومخالفة للمشركين والنصارى الذين كانوا يقفون فيه.

ثم تصل إلى مِنًى بحمد الله، فإذا وصلتَ إليها، ورميت جمرة العقبة - تذكرتَ موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها، وأنك تسلك أثره، وهذا الموقف الذي قال فيه ابن مسعود: "هذا موقف الذي أنزلت عليه سورة البقرة"[32]، يقصد موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

العودة من رحلة الآخرة:

ثم بعد ذلك إذا بدأتَ التحلل، تذكر نعمة الله - تعالى - عليك؛ لأنك أتيحت لك فرصة جديدة بعد هذه الرحلة إلى الآخرة، التي تذكرك بالموت بكل ما فيه وبالمحشر؛ حيث جمع الناس في هذا المكان الضيق في عرفات، ورأيت أنواع البشرية وأجناسهم يجتمعون من كل فج عميق، وتذكرت أن الله - سبحانه وتعالى - لا يعجزه حشرُهم جميعًا في الساهرة؛ إذ أرانا من قدرته أنه حشر هذه الخلائق، التي لا حصر لها، والتي يعجب الشخص إذا رآها كالسيول الهادرة في هذه الأماكن الضيقة، فرأيت هذا العجب العجاب، وتذكرت به النشأة الآخرة، وأن الله سيناديهم فيخرجون من الأجداث سراعًا، ويجتمعون جميعًا في الساهرة، حينما يناديهم المنادي: أيها الناس، هلموا إلى ربكم، فيخرجون سراعًا يلتقي أولهم مع آخرهم، وينسَوْن كم لبثوا في قبورهم، فإذا اجتمعوا جميعًا في الساهرة أُتي بجهنم تُقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف مَلَك، فتحيط بالناس من كل جانب، وتدنو الشمس حتى تصير كالميل على رؤوسهم، ويشتد العرق حتى يُلجِم أقوامًا، ويصل إلى تراقي آخرين، وإلى ثدي آخرين، ودون ذلك، ويطول هذا الموقف حتى يكون كألف سنةٍ مما تعدون، ويبحث الناس فيه عن المخرج ولا يجدون المخرج إلاَّ إلى الأنبياء، ويختارون أولي العزم منهم، فيمرون بهم مرورهم الذي أخبرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم في الآخر تكون المنزلة والرفعة لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - الذي هو الشافع المشفعن وهذا هو المقام المحمود الذي ادخره الله له.

تذكر ماذا ستكون عليه في ذلك اليوم، الذي ينظر الشخص من أمامه فلا يرى إلا عملَه، وينظر من خلفه فلا يرى إلا عمله، وينظر أيمن منه فلا يرى إلا عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلاّ عمله، وتذكر هذا الموقف العظيم الذي تعلن فيه النتائج، وينادي الله - سبحانه وتعالى - آدمَ بصوت، فيقول: ((أخرج بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك يوم تذهل كلُّ مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى؛ ولكن عذاب الله شديد))[33]، ذلك الوقت الذي تعلن فيه النتائج على رؤوس الأشهاد، فينادى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59].

فيُفصل بين الناس فيه، ويحال بينهم، ويضرب فيه بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره مِن قِبَله العذاب.

تتذكر مرورك وعبورك على الصراط، الذي هو جسرٌ منصوب على متن جهنم، يمر الناس عليه، وهو أحدُّ من السيف، وأرقُّ من الشعر، وعليه كلاليبُ كشَوْك السَّعْدَانِ، يمر الناس عليه بحسب أعمالهم؛ فمنهم مَن يمر كالبرق الخاطف، ومنهم مَن يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدْوًا، ومنهم من يزحف على مقعدته؛ فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومخدوشٌ مرسل، ومكردسٌ في نار جهنم.

تتذكر عبورك على هذا الصراط، وأنه جسر حقيقي، وأنك اليوم تسير على جسر معنوي، وهو المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وأنه بقدر ثباتك على هذا الصراط الدنيوي، يكون ثباتك على الصراط الأخروي.

فاختر لنفسك وأنت ترى هذا بعيني رأسك، ترى أنك الآن تسير على صراطٍ، أنت متحكمٌ فيه، وأنت منه في سعة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

تسير في صراط موافقٍ للفطرة، ليس فيه كلاليب كشوك السعدان؛ بل كل أموره ميسرة ولله الحمد، كل أموره موافقة لمرضاة الله، ولفطرة ابن آدم التي فطره الله عليها، وكلها لمصلحة ابن آدم، وأنت تسير عليه، واعلم أنه على قدر استقامتك عليه ستكون استقامتك على ذلك الصراط الأخروي، الذي وصفناه بأوصاف مناقضة لهذه، فهو بهذا الضيق، والشدة، والحدة، وعليه هذه الكلاليب، التي هي كشوك السعدان.

ربما كانت حجتك الأخيرة:

ثم تتذكر أن هؤلاء القوم الذين يجتمعون في هذا الحج، سيتفرقون تفرقًا لا لقاء بعده، فيا رُبَّ واقفٍ بعرفة لن يقف بعدها بعرفة أبدًا، ويا رُبَّ حاج في هذه السنة لا يأتي عليه هذا اليومُ إلاّ وهو تحت التراب، ولا تدري لعلك تكون منهم؛ فلذلك حاول أن تنتهز الفرصة التي نلتَها، فإن يوم القيامة ليس فيه اهتبال للغرض؛ بل إن كان أحد يوم القيامة يتمنى أن يعود إلى الدنيا؛ لعله يغير شيئًا مما كان يعمله، فالمحسن يندم على ألاَّ يكون زاد، والمسيءُ يندم على أصل إساءته، كل الناس سيندمون يوم القيامة، ويتمنَّون الرجعة إلى هذه الدنيا، التي هي دار عملٍ ولا جزاء، وهم يعلمون أنهم في الآخرة، التي هي دار جزاءٍ ولا عمل، ويتمنون لحظةً واحدةً يعودون فيها إلى هذه الدنيا؛ لعلهم يحسنون صُنعًا، وبذلك أخبرنا الله - تعالى -: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:10، 11].

وكذلك قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100].

فلذلك حاول أن تكون هذه الفرصة فرصةً ذهبية بالنسبة إليك، تُقدِّم فيها لنفسك، وتقرض الله قرضًا حسنًا، وتتقي النار بأي شيءٍ، حتى ولو بكلمةٍ طيبة، وَحاول أن تجعل من بقية عمرك علاجًا لما سلف منه، فأنت تعلم ما قصرتَ فيه في جنب الله، وتتذكر ما فرطت فيه، وتعلم أن الله يناديك فيقول:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 53 - 56].

فإذا نفرتَ من مِنًى كان على يمينك الشعب الذي خلف الجمرة، وهو الذي وقعت فيه بيعة العقبة، حيث نظَّمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم – الأنصار، وجعَل عليهم اثني عشر نقيبًا، فكان ذلك أول لبنةٍ وضعت لبناء دولة الإسلام الكبرى، ولا شك أن تذكُّر هذه البيعة، ومشاهدة مكانها - مما يحرك مَشاعر الإيمان، وينفض عنها الغبار.

فإذا لم تتعجَّل، واستطعت أن تمر بمُحَصَّب بني كنانة، حيث تحالفوا على حرب الله ورسوله، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر الناس أنه نازل به، وصلى فيه أربعة أوقات.

فإذا نزلت فيه تذكرت ما باءتْ به مؤامراتُ أعداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من الفشل الذريع، وما حققه الله لرسوله من النصر المبين، فتذكرت قول الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 38 - 40].

اصبر:

وفي الأخير إذا دفع الناس من الحج وانصرفوا، فإن الشخص سيتذكر أن كثيرًا من الناس، الذين ربما صبر على أذاهم، وربما كافأهم بالأذى - نعوذ بالله - قد افترق معهم فرقة لا اجتماع بعدها أبدًا، وكان أهل الجاهلية يعرفون ذلك، ولذلك يقول امرؤ القيس:

وَلِلَّهِ  عَيْنَا  مَنْ  رَأَى  مِنْ  تَفَرُّقٍ        أَشَتَّ وأَنْأَى مِنْ فِرَاقِ المُحَصَّبِ
فَرِيقَانِ مِنْهُمْ جَازِعٌ  بَطْنَ  نَخْلَةٍ        وَآخَرُ مِنْهُمْ سَالِكٌ  فَجَّ  كَبْكَبِ[34]



فهذا من العجائب العجيبة، فإنك تبيت هذه الليالي - ليالي منى - في جمع غفير من الناس، يحيطون بك عن يمين وشمال، وربما أزعجوك، وربما ضايقوك في سيرك، أو في استقرارك، أو في غير ذلك؛ لكنك بعد ثلاث ليالٍ لن تلتقي معهم بعد هذا الوقت أبدًا، فهذا من عجائب ما في هذه الدنيا، وتجد في كل سنة من المواعظ - غير ما ذكرناه - الشيءَ الكثير، ففي سنتنا هذه (1417هـ) شاهدنا هذا الحريق المروع الفظيع، الذي حال بين المرء وأقاربه، يفر فيه الرجل عن أهله، وعن أخيه، يفترقان ولا يلتقيان، إلا بعد مدة طويلة، أو لا يلتقيان إلى الأبد، أتى هذا الحريق على الأخضر واليابس في ساعات معدودة، وهو من مستصغر الشرر، وتتذكر بذلك نار جهنم، تتذكر: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37].

ترى هذه الدنيا كيف تتغيَّر إلى حطام وركام أسود، بعد أن يمحقها الله - تعالى - وتذكر المثلَ الذي ضربه لها في قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]، وقول الله – تعالى -:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 24 - 25].

تتذكر أن كثيرًا من الناس عندما أمَّنوا سكنهم، ووجدوا فيه ما كانوا يرغبون فيه، من المكيفات، والفرش، والأضواء، والتهيئة - اطمأنوا إلى مكانهم، وأيقنوا أنهم وجدوا بغيتهم، وحصلوا على راحتهم المنشودة، ولكنه في لحظات قليلة يفقد كل هذا، فيصير ركامًا أسودَ قد احترق، أو لعبت به النار يمينًا وشمالاً، وأنت تتذكر هنا أن المقابل هو الجنة الباقية الخالدة: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]، يقول الله فيها: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ ماَ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16، 17].

ويقول فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه - عز وجل - أنه قال: ((أعددتُ لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر))[35].

فتجعل همَّك ذلك الخلودَ الباقي الدائم، ولا تتعلق نفسُك بزخارف هذه الدنيا وشهواتها وما فيها؛ لأنك قد شاهدت فَناءها، وشاهدت لعب النار فيها، ومصيرها وما آلت إليه خلال دقائق معدودة، فمَن رأى أثر النار حتى في الفولاذ والحديد، ورأى هذه المكيفات التي كانت معدة لتمام الراحة والهدوء والطمأنينة، عادت ركامًا أسودَ غير نافع، يتأذى منه رائيه، ورأى آثار النار عليها - يتذكر أن جسده لا يقوى على النار، لا يقوى على نار الدنيا، فكيف بنار الآخرة؟ كل هذا مما يزيد منسوبَ الإيمان لديه، ويتيح له فرصة لعله يتقرب إلى الله فيها.

وفي الختام أسأله - سبحانه - أن يجعلنا أجمعين ممن يعقلون أمثال هذا القرآن، ويفهمون ما ضربت له هذه الأمثال؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

نفعنا الله بما علمنا، وعلمنا ما ينفعنا، وتقبل حجنا.


ــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]   ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))؛ "صحيح البخاري": ح1773، و"صحيح مسلم" ج4، ص107، ومعنى أنه ليس له جزاء إلا الجنة: أنه لا يقتصر على تكفير الذنوب؛ بل لابد أن يبلغ بصاحبه الجنة.

[2]   هذا اللفظ جزء من حديث أخرجه البزار في "مسنده"، كما في "كشف الأستار" (2/6) برقم (1079) من طريق سليمان بن داود، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال البزار عقبه: "الضعف بيِّن على أحاديث سليمان، ولا يتابعه عليها أحد، وهو ليس بالقوي".

وأورده المحب الطبري في "القرى لقاصد أم القرى"، ص (43، 44) والمرتضى الزبيدي في "الإتحاف" (4/431) وعزياه إلى أبي ذر الهروي في "منسكه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وسكتا عليه، وله شاهد من طريقين عن أسلم مولى عمر، عن عمر - رضي الله عنه - بنحوه مختصرًا، أخرجهما ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" (1/111، 112) برقم (34، 35) وشاهد آخر عن أبي سليمان الداراني بلاغًا، ذكره المحب الطبري في "القرى"، ص (44)، وعزاه إلى ابن الجوزي دون ذكر مصنَّف معين، وهذا يدل على أن للحديث أصلاً عامًّا، تؤيده النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

[3]   راجع: "هداية السالك"، لابن جماعة، ج1، ص146.

[4]   أورده القرطبي في "تفسيره" (2/8) ونسبه إلى المُخبَّل السَّعدي.

[5]   "صحيح مسلم": ج8، ص322.

[6]   السُّحُت بإتباع الحاء للسين: السُّحْت؛ أي الحرام.

[7]   راجع: "هداية السالك"، لابن جماعة: ج1، ص137.

[8]   إشارة إلى حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند ابن ماجه، ص (980) رقم (2939).

[9]   "لِفْت" ثنية تقع بين مكة والمدينة، واختلف في ضبط الفاء؛ فسكنت وفتحت، ومنهم من كسر اللام مع السكون، انظر: "النهاية" (4/259) مادة: لفت.

[10]   "صحيح مسلم": ج1، ص152 ح166، و"سنن ابن ماجه": ح3891، و"مسند أحمد": ج1، ص216.

[11]   راجع: حديث عمر في "صحيح البخاري"، ح:1597.

[12]   أخرجه الترمذي: ج3، ص294 وحسنه، وابن حبان "الموارد": ص248، والحاكم: ج1، ص457 وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه عبدالرزاق في "المصنف": ج5، ص23.

[13]   جاء هذا موقوفًا على ابن عباس عند الأزرقي: ج1، ص323، وجاء مرفوعًا عن ابن عباس وجابر وأنس وأبي هريرة، وكلها ضعيفة، انظر: "سنن ابن ماجه"، ح:295 و"فيض القدير": ج3، ص409-410، وصحح ابن تيمية وقفه.

[14]   راجع: "سيرة ابن هشام": ج4، ص22.

[15]   أخرجه الأرزقي في "تاريخ مكة": ج1، ص78 - 80 من عدة طرق.

[16]   "صحيح البخاري"، ج:104، ومسلم ح:1354.

[17]   راجع: "سيرة ابن هشام": ج4، ص34.

[18]   راجع البيتين في قصيدة أبي طالب الطويلة في شأن الحصار، وهي في "سيرة ابن هشام": ج1، ص(273) ط: السقا وزميله.

[19]   البيت من معلقة النابغة الذبياني، راجع: "شرح القصائد العشر"، للخطيب التبريزي ص (461) ش - فخر الدين قباوة.

[20]   أخرجه الشافعي في "المسند": ص(125) وفي "الأم" (2/169) عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج مرفوعًا، ومن طريقه أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (3/73) وقال: هذا منقطع، وله شاهد مرسل عن سفيان الثوري، عن أبي سعيد الشامي، عن مكحول.

[21]   أخرجه مالك في "الموطأ": ج1، ص372، ومسلم في "الصحيح"، ج4، ص40 في حديث جابر.

[22]   راجع: "صحيح البخاري" حديث: 3612.

[23]   أخرجه مسلم في الصحيح: ج4، ص40 في حديث جابر في حجة الوداع.

[24]   وقد ذكر أبو طالب هذين الصنمين في قصيدته، فسمى نائلة (نائلاً)، وذلك في قوله:

وَحَيْثُ يُنِيخُ  الأَشْعَرُونَ  رِكَابَهُمْ        بِمفْضَى السُّيُولِ مِنْ إِسَافٍ وَنَائِلِ

انظر: "السيرة النبوية"، لابن هشام (1/83).

[25]   أخرج ذلك البيهقي في "السنن الكبرى": ج5، ص154.

[26]   أخرجه أبو داود برقم (219)، والترمذي برقم (881) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه برقم (3006)، وأحمد (6/207) عن عائشة - رضي الله عنها.

[27]   أخرجه البخاري، ح:76، ومسلم ح: 504.

[28]   في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة: ((ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) برقم (2588).

[29]   ورد الحديث من طريق مرفوعًا وموقوفًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه أحمد في "مسنده" (4/267) برقم: (2455) وابن جرير في "تفسيره" (9/110-111) والحاكم في "المستدرك" (1/27) و(2/544) وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/518) برقم (441)، وأخرجه من وجه آخر مالك (2/898، 899)، ومن طريقه أخرجه أبو داود برقم (4703)، والترمذي برقم (3075)، والنسائي في "تفسيره" برقم (210)، وأحمد في "مسنده" برقم (311)، وابن حبان في "صحيحه" كما في "الإحسان" برقم (6166) وغيرهم، وانظر: "فيض القدير" (2/363).

[30]   أخرجه البخاري من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - ح:6306.

[31]   أخرجه مسلم في "الصحيح": ج3، ص107، والنسائي: ج5، ص251، 252، وأخرج الحديث بتمامه ابن حبان في "صحيحه - الموارد": 240 – 248، وحسنه الهيثمي في "مجمع الزوائد" ج3، ص3.

[32]   "صحيح البخاري": 1747.

[33]   "صحيح البخاري": 3348.

[34]   البيتان من قصيدة امرئ القيس التي مطلعها:

 

خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي عَلَى أُمِّ جُنْدَبِ        نُقَضِّ  لُبَانَاتِ  الفُؤَادِ  المُعَذَّبِ

انظر: "ديوانه" ص: (74 - 85) ت: حسن السندوبي.

[35]   "صحيح البخاري": 4433.




التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.