خطبة الجمعة
د / عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد سابقا ولئن كانت الصلوات هي الوظيفة الأولى للمساجد، فإنَّ الوظيفة الثانية هي تعليم الناس أمور دينهم، وإرشادهم إلى طاعة ربهم، واتباع رسولهم صلى الله عليه وسلم، ومن أبرز الوسائل في ذلك: خطبة الجمعة. يقول ابن القيم - رحمه الله-: "وكذلك كانت خُطَبُه -صلى الله عليه وسلم- ، إنما هي تقرير لأصول الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورًا مشتركة بين الخلائق، وهي كالنوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيمانًا بالله، ولا توحيدًا له .. إلى أن قال: ومن تأمل خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الدين والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه". ومن فقه الخطبة: الإيجاز والاختصار: فمن السنة أن يقصر الخطيب الخطبة، لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : « إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنّة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصُروا الخطبة وإن من البيان لسحرا » (1) . مهمة الإمام والخطيب ومسئوليتهما : (ج) العلم بالسنة: وقال الإمام الأوزاعي - رحمه الله-: "اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم". 3- مسئوليته في تقدير المصلحة العامة، فالخطبة إنما تقال في مجتمع .. ولهذا المجتمع مصالح عامة وحيوية، ومن هنا يجب أن تتقيد الخطبة بهذه المصلحة وتقدرها، بمعنى ألا يرد في الخطبة معنى، أو مفهوم، أو عبارة تضر بهذه المصلحة العامة. ولئن تعين على خطيب الجمعة أن ينهض بهذه المسئوليات جميعًا، فإن إمام المسجد مخاطب ومعني بهذه المسئوليات والمهام كذلك، وعليه أن يؤديها بإخلاص وجد واستمرار.
فمن دلائل العظمة والخلود والواقعية في التشريع الإسلامي: أن جعل الله للمسلمين منبرًا أسبوعيًا منتظمًا يتزودون منه بما يمسكهم بأصولهم، ويربطهم بعزائم الدين وأمهات المسائل.
والمنبر المعني هو: خطبة الجمعة.
إن هذه الخطبة أمر جليل الشأن، ينبغي فقهه على وجهه الصحيح، ابتغاء الاقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وابتغاء توسيع نطاق النفع العام.
فمن فقه خطبة الجمعة: التركيز على الأصول والثوابت والأركان، فقد « أخذت أم هشام بنت حارثة - رضي الله عنها - { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } عن لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، من كثرة ما يقرأ هذه السورة على المنبر في خطبة الجمعة » (1)
و"ق" من السور المكية التي انتظمت الأصول الإيمانية العقدية: كالإيمان بالله، والآيات الكونية الدالة على وجوده، ووحدانيته، والبعث، والاعتبار. بما وقع للأمم المكذبة المعاندة.
_________
(1) حديث أم هشام بنت حارثة أخرجه مسلم (873) في كتاب الجمعة، باب قراءة القرآن على المنبر في الخطبة .
ولا شك أن في ذلك حكمة بالغة، فإن الاهتمام بالأصول والثوابت من شأنه أن يجمع الأمة على ما ينبغي أن تجتمع عليه من محبة الله وطاعته، والتآخي والتعاون، وأن يجعل المصلين يخرجون بفائدة علمية محققة.
إن الجمعة مأخوذة من الجمع والاجتماع، وهذا لا يكون أو لا يزيد إلا بالربط بالثوابت والأصول.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: « كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا » (2) .
إن خطبة الجمعة ليست مجالًا لاستعراض البلاغة، ولا لاستعراض المعلومات.. والتطويل ذريعة للخطأ، وذريعة للملل المانع من التفاعل والاستيعاب والفهم. ويفهم - من مفهوم المخالفة - أن الذي يطيل الخطبة قليل الفقه.
وبالاطلاع على نماذج من خطب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - مثلا - وجدنا جل خطبه لا تزيد الواحدة منها على صفحة، وبضع صفحة، أي نحو (600) ستمائة كلمة تقريبًا .. والمعدل الوقتي المتوسط لإلقاء هذه الكلمات هو 15 دقيقة على الأكثر.
ولا يصلح الاحتجاج - لطول الخطبة - بأن خطباء اليوم يواجهون مشكلات كثيرة، فإن ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب كانا يواجهان مشكلات كثيرة أيضًا.
_________
(1) حديث عمار بن ياسر أخرجه مسلم (869) في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(2) حديث جابر بن سمرة أخرجه مسلم (866) في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة.
والحديث عن المسجد، لا ينفك عن الحديث عن إمام المسجد، وخطيب الجمعة، وقد تتحد هاتان الصفتان في شخص واحد، وقد يكون إمام المسجد غير خطيب الجمعة.
وفي الحالين، هناك مسئوليات لخطب الجمعة وواجبات، وهي كالتالي:
1- مسئوليته العلمية والثقافية، إذ ليس يستطيع كل أحد أن يرقى المنبر، ويخطب خطبة الجمعة ؛ بل يرقاه من يوفي بحقه.
والعلم والثقافة أول هذه الحقوق:
(أ ) العلم بالله تعالى:
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (1)
{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (2) .
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا }{ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } . (3)
(ب ) العلم بالكتاب:
{ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } (4) .
_________
(1) سورة فاطر آية: 28.
(2) سورة محمد آية:19.
(3) سورة الفرقان الآيتان:58 ، 59.
(4) سورة الرعد آية: 19.
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (1) .
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } (2) .
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } (3) .
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (4) .
(د) العلم بأقوال السلف في فهم الكتاب والسنة .
قال الإمام أحمد - رحمه الله - "أصول السنة عندنا: التمسك. بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم .. والسنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم .. والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن".
_________
(1) سورة الحشر آية: 7.
(2) سورة الأحزاب آية: 21.
(3) سورة آل عمران الآيتان: 31 ، 32.
(4) سورة النور آية : 63.
(هـ) العلم بالأحوال العامة، فإن القول في الواقع بلا علم ذريعة إلى ضلال عريض، وفساد كبير، وكانت طريقة السلف الصالح: أن يفهم الواقعة، ثم ينزل عليها النص الهادي إلى التي هي أقوم.. وكل ذلك مشروط بالمناط الرئيسي لخطبة الجمعة .. وهو المناط الذي تبينت معالمه في فقرة خطبة الجمعة .. وإلا فليس كل موضوع - بإطلاق- يناقش في منبر الجمعة.
2- مسئوليته في الاستيثاق والتثبت من الوقائع والأحداث والأخبار.
فليس من خصائص المؤمن - بله الخطيب - أن يكون ناشرًا للأقاويل والشائعات والأخبار غير الموثقة:
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (1) .
{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . (2)
_________
(1) سورة الحجرات آية: 6.
(2) سورة النساء آية : 83.
4- مسئوليته في التفاعل مع المجتمع والدولة .. فالمسجد جزء من المجتمع والدولة، بهما قام، وفي كنفهما يعيش، ولذا يتعين على الخطيب أن يكون متفاعلًا مع الدولة والمجتمع، وأن يتكامل جهده مع الجهود الأخرى في التوجيهات العامة، والمقاصد الأساسية، والنظم الحافظة .. ومع مؤسسات التعليم والتثقيف والتوعية والتوجيه بوجه أخص.
5- مسئوليته في إحياء القيم العامة، والفضائل العظيمة مثل: الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والإنفاق في سبيل الله، والتكافل، والعطف على الضعيف، والأرملة، واليتيم، والمسكين، والاستقامة والوفاء بالعقود والعهود وطاعة ولاة الأمر، والإخلاص والصدق، والتعاون على البر والتقوى، والرحمة، والحياء، وحب العلم، والتآخي، والتواصي بالحق والصبر .. وغير ذلك من القيم والفضائل التي هي لباب الدين، بعد توحيد الله تعالى.
إن تجديد الإحساس والشعور والوعي بأعظم غاية في الإسلام، وهي: عبادة الله وحده لا شريك له، ومزيدًا من اجتلاء المفهوم الحقيقي لخطبة الجمعة، وفق السنة، وطريقة السلف الصالح، مسئولية الخطيب والإمام.
التعليقات