ليلة النصف من شعبان بين المشروع والممنوع

أعطى النبي – صلى الله عليه وسلم- شهر شعبان اهتمامًا خاصًّا؛ وذلك لأنه البوابة المباشرة للدخول على رمضان، فكان يكثر من الصيام والتعبد بأنواع العبادات المختلفة، ورسم لنفسه- صلى الله عليه وسلم- وللأمة كلها  منهجًا معتدلاً في فقه التعامل مع الزمن، فقد كان – صلى الله عليه وسلم- له خطة يومية في العبادة؛ فهو قائم بين الناس بالعمل الصالح والدعوة إلى الله، والحرص الشديد على إنقاذ العالم كله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وقائم بالليل بين يدي الله؛ يحيي ليله بالصلاة والدعاء، والاستغفار وقراءة القرآن.. وغير ذلك من الأعمال..

وله خطة أسبوعية يتخللها صيام الاثنين والخميس.. وخطة شهرية وهي صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وخطة سنوية وهي الإكثار من صيام شعبان والأعمال الصالحة في هذا الشهر استعدادًا لرمضان ولليلة القدر..

ولا يعني هذا التنظيم البديع والمحكم لعبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان هناك انفصال بين الخطط اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية، بل أعماله تتداخل مع بعضها، وتتكامل بمعنى أن حياته كلها في كل يوم وساعة ولحظة تتراوح بين أداء حقوق الله وحقوق العباد، وهذا هو المنهج المشروع الذي أسَّس له الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأوصى به أمته، فعن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا. فقال: كُلْ. قال: فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل.

 فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدق سلمان".[1]

وكما أوصى – صلى الله عليه وسلم- أمته بما يجب عليهم تجاه ربهم وأنفسهم وأهليهم والناس جميعًا -وهذا هو المنهج المشروع-؛ حذر من مخالفة هذا المنهج، وعدّ أصحابه من أبعد الناس عنه -صلى الله عليه وسلم-، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". [2]

وبتطبيق منهج (إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا)، ومنهج (من رغب عن سنتي فليس مني) يستطيع العبد المسلم أن يعرف ما هو مشروع  فنفعله، ونحرص عليه، وما هو ممنوع فنجتنبه ونحذر منه، وكذلك التعامل بهذا المنهج مع كل الأمور، ومنها الأزمنة والشهور والأيام، ومن هنا نبين ما هو مشروع في ليلة النصف من شعبان وما هو ممنوع.

إحياء ليلة النصف من شعبان :

ذهب جمهور الفقهاء إلى ندب إحياء ليلة النصف من شعبان[3]؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه ... كذا ... كذا ... حتى يطلع الفجر.[4]

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يطلع ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن".[5]

وبيَّن الغزالي في الإحياء كيفية خاصة لإحيائها، وقد أنكر الشافعية تلك الكيفية، واعتبروها بدعة قبيحة.[6]

 وقال الثوري: هذه الصلاة بدعة موضوعة قبيحة منكرة.[7]

 

الاجتماع لإحياء ليلة النصف من شعبان:

أجمع جمهور الفقهاء على كراهة الاجتماع لإحياء ليلة النصف من شعبان، ونص على ذلك الحنفية والمالكية، وصرحوا بأن الاجتماع عليها بدعة وعلى الأئمة المنع منه.[8] وهو قول عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة. وذهب الأوزاعي إلى كراهة الاجتماع لها في المساجد للصلاة؛ لأن الاجتماع على إحياء هذه الليلة لم يُنقل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من أصحابه. وذهب خالد بن معدان ولقمان بن عامر وإسحاق بن راهويه إلى استحباب إحيائها في جماعة.[9]

وهنا ننبه إلى أن تخصيص ليلة النصف بعبادة معينة، أو الاجتماع من أجل إحياء هذه الليلة لا بد لهذا التخصيص من دليل، وليلة النصف من شعبان كغيرها من الليال، غير أنها مُيّزت بأن الله يطلع على خلقه فيغفر لهم جميعًا إلا المشرك والمشاحن، فطهّر قلبك وجوارحك من الشرك الأكبر والأصغر، وطهّر علاقتك بالناس، فهذا هو الأولى.

 

الصيام في النصف الثاني من شعبان:

اختلف الفقهاء في حكم الصيام في النصف الثاني من شهر شعبان، فذهب جمهور العلماء إلى جواز صيام النصف من شعبان وما بعده، لحديث عمران بن حصين – رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "يا فلان أما صمت سَرَر هذا الشهر؟ قال الرجل: لا يا رسول الله، قال: فإذا أفطرت فصم يومين من سَرَر شعبان".[10]، وهذا على قول من فسَّر (السَّرَر) بالوسط.

وذهب الحنابلة إلى كراهية صيام النصف من شعبان؛ لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ".[11]، وحرَّمه الشافعية؛ لحديث النهي عن صيام النصف؛ ولأنه ربما أضعف الصائم عن صيام رمضان.

والراجح: جواز صيام النصف من شعبان، وما بعده؛ إلا يوم الشك، إلا مَن كان مِن عادته الصيام.

 ويمكن مناقشة أدلة المانعين بالآتي:

أولاً: هذا الحديث مداره على العلاء بن عبد الرحمن، فلم يروه غيره، والعلاء هذا ضعَّفه ابن معين بقوله مرة: ليس حديثه بحجة، وبقوله أخرى: إنه ضعيف، وبقوله ثالثة: ليس بذاك، لم يزل الناس يَتَوَقُّونَ حديثه. وقال أبو حاتم: صالح، روى عنه الثقات، ولكنه أنكر من حديثه أشياء. وقال أبو زرعة: ليس هو بالقوي. وقال أبو داود: أنكروا على العلاء صيام شعبان. ووثقه في المقابل ابن حبان والنسائي وأحمد، فهو مختلَف فيه، وقد ضعّف الحديثَ أحمدُ ويحيى بن معين بقولهما: إنه حديث منكر، كما ضعَّفه البيهقي والطحاوي وعبد الرحمن بن مهدي.

ثانيًا: هذا الحديث يعارض الأحاديث الكثيرة الصحيحة القائلة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان، وأنه كان يصل شعبان برمضان.

فمثل هذا الحديث الذي احتجوا به على المنع لم يتفقوا على توثيقه، وجاء مخالفًا ومعارضًا للأحاديث الكثيرة الصحيحة؛ فإن حكمه الرد وعدم الاحتجاج به. وبذلك يثبت حكم جواز الصيام تطوعًا في النصف الثاني من شعبان، كنصفه الأول سواء بسواء، وهو قول الجمهور.

أما قول الجمهور: "ولا يكره إلا صوم يوم الشك"؛ فإن المقصود منه اليوم الذي يُشك فيه، هل هو آخر يوم من شعبان، أم هو أول يوم من رمضان.


[1] ) أخرجه البخاري -كتاب الصوم- باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له.

[2] )  أخرجه البخاري-كتاب النكاح -باب الترغيب في النكاح ، ومسلم -كتاب النكاح -باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه -.

[3] ) البحر الرائق 2 / 56 ، وحاشية ابن عابدين 1 / 460 ومراقي الفلاح ص 219 ، وشرح الإحياء للزبيدي 3 / 425 ، ومواهب الجليل 1 / 74 ، والخرشي 1 / 366 ، والفروع 1 / 440.

[4] ) حديث ( إذا كانت ليلة النصف ..."، رواه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان كلاهما عن علي. قال في الزوائد: إسناده ضعيف، وفيه ابن أبي سبرة قال فيه أحمد وابن معين: يضع الحديث ( الفتح الكبير 1 / 148 ومحمد فؤاد عبد الباقي في تحقيقه لابن ماجه 1 / 444 ).

[5] ) سنن ابن ماجه- كتاب إقامة الصلاة والسنة - باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان-، قال الألباني في السلسلة الصحيحة  3 / 135 :"حديث صحيح ، رُوي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضًا وهم معاذ بن جبل وأبو ثعلبة الخشني وعبد الله بن عمرو وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة و أبو بكر الصديق وعوف بن مالك وعائشة ".

[6] ) انظر: إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 3 / 423.

[7] ) المرجع السابق.

[8] ) مواهب الجليل 1 / 74 ، والخرشي 1 / 366.

[9] ) مراقي الفلاح ص 219 – 220.

[10] ) حديث: "يا فلان أما صمت سرر هذا الشهر"  أخرجه البخاري ( الفتح 4 / 230 - ط السلفية)، ومسلم ( 2 / 818 - ط الحلبي ) والسياق للبخاري .

[11] ) رواه ابن ماجه والنسائي وأبو داود والترمذي وابن حبان وأحمد والدارمي. وصححه ابن حزم والترمذي وابن عبد البر.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.