تحويل القبلة بين التمحيص والتمييز

ما كان الله ليذر الناس بدون ابتلاء واختبار، بل إن مجيئهم إلى الدنيا كان لونًا من الاختبار والابتلاء، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ  الْغَفُورُ} (الملك:2).

وقد مر الناس –ولا يزالون- بالامتحان تلو الآخر، وخصوصًا أهل الإيمان، ومرت بكتائب الإيمان مواقف ابتلاء يشيب منها الولدان، ومن هذه المواقف حادثة تحويل القبلة، فقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، فقال السفهاء من الناس- كما حكى القرآن الكريم-: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}. فجاءت الإجابة الشافية في القرآن في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (البقرة:145).

فكان حدث تحويل القبلة لحِكَم وغايات؛ من أجلّها التعرية والكشف عن كوامن النفوس، وخبايا القلوب؛ حيث أخرج الكل وأعرب قولاً وفعلاً عما بداخله، فرفعت الطائفة المؤمنة لواء السمع والطاعة الذي لم يسقط يومًا واحدًا من حياتهم، فعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-، قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ؛ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة".[1]

وأعلن اليهود عداءهم وكذلك المشركون، وردد المنافقون الأقاويل طعنًا في الدين والمؤمنين.

يقول ابن القيم -ذاكرًا موقف الناس من تحويل القبلة، والحكمة والغاية من هذا الحدث-: "وكان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس، ثم تحويلها إلى الكعبة، حِكَم عظيمة ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين.

فأما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا وقالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرة عليهم.

 وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا لأنه الحق.

وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله، ولو كان نبيًّا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء.[2]

وأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجه، إن كانت الأولى حقًّا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق، فقد كان على باطل، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس، وكانت كما قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} (البقرة: 143). (زاد المعاد3/59).

ومن رحمة الله أنه إذا ابتلى عباده بأمر أن يهيئهم لتحمل الأمر؛ حيث لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فقد مهَّد وجهَّز الله النفوس لاستقبال الحدث، فذكر لهم مشروعية النسخ، وأنه رحمة بالعباد، ثم كشف دسائس اليهود والنصارى وطبيعة كلّ منهما، وحذّر المسلمين من اتباع تلك الطوائف المتناحرة، وأن هؤلاء القوم على اختلاف كبير حتى مع أنفسهم، فكيف يتفقون مع المسلمين والإسلام.

يقول ابن القيم: "ولما كان أمر القبلة وشأنها عظيمًا وطَّأ - سبحانه - قبلها أمر النسخ وقدرته عليه، وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ثم عقَّب ذلك بالتوبيخ لمن تعنّت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَنْقَد له، ثم ذكر بعده اختلاف اليهود والنصارى، وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شيء، وحذّر عباده المؤمنين من موافقتهم واتباع أهوائهم.. ثم أعلمه أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، وأنه إن فعل - وقد أعاذه الله من ذلك - فما له من الله من ولي ولا نصير .. وجعل هذا كله توطئة ومقدمة بين يدي تحويل القبلة، ومع هذا كله فقد كبُر ذلك على الناس إلا من هدى الله منهم، وأكد سبحانه هذا الأمر مرة بعد مرة بعد ثالثة، وأمر به رسوله حيثما كان، ومن حيث خرج، وأخبر أن الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هو الذي هداهم إلى هذه القبلة، وأنها هي القبلة التي تليق بهم وهم أهلها؛ لأنها أوسط القِبل وأفضلها، وهم أوسط الأمم وخيارهم، فاختار أفضل القبل لأفضل الأمم، كما اختار لهم أفضل الرسل وأفضل الكتب، وأخرجهم في خير القرون، وخصهم بأفضل الشرائع، ومنحهم خير الأخلاق، وأسكنهم خير الأرض، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل، وموقفهم في القيامة خير المواقف، فهم على تلّ عالٍ، والناس تحتهم، فسبحان من يختص برحمته من يشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم". (زاد المعاد3/59).

وهناك حِكَم وغايات ودروس وعِبَر كثيرة لحادثة تحويل القبلة، منها:

 لفت الأنظار إلى العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177]، فإن الله- سبحانه وتعالى-  لا ينظر إلى الصور والأجساد والأموال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، فعن أبى هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".[3]

كما أن لحادثة تحويل القبلة أبعادًا كثيرة: منها السياسي، ومنها العسكري، ومنها الديني البحت، ومنها التاريخي.

 فبُعدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبُعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبُعدها العسكري أنها مهَّدت لفتح مكة وإنهاء الوضع الشاذ في المسجد الحرام؛ حيث أصبح مركز التوحيد مركزًا لعبادة الأصنام، وبُعدها الديني أنّها ربطت القلب بالحنيفية، وميّزت الأمة الإسلامية عن غيرها، والعبادة في الإسلام عن العبادة في بقية الأديان.[4]



[1] ) أخرجه البخاري - كتاب الصلاة- باب ما جاء في القبلة.

[2] ) وهكذا الآيات الكريمة في حادثة تحويل القبلة وغيرها تربي الصحابة، وتصوغ الشخصية المسلمة القوية التي لا ترضى إلا بالإسلام دينًا، والتي تعرفت على طبيعة اليهود من خلال القرآن الكريم، وبدأت تتعمق في ثناياها طبيعتهم الحقيقية، وانتهت إلى الصورة الكلية النهائية التي تربوا عليها من خلال القرآن الكريم والتربية النبوية قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (سورة البقرة، آية:120).(انظر: التربية القيادية (2/442).

[3] ) أخرجه مسلم- كتاب - البر والصلة والآدب- باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله.

[4] ) انظر: الأساس في السنّة 1/440.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.