الخشوع في الصلاة .. فضله والوسائل المعينة عليه

الخشوع هو روح الصلاة ولبها والغاية منها، وما خشع عبد في صلاته إلا أثمرت ثمرات رائعة في حياته، وإذا حقق المسلم الخشوع استشعر لذة الصلاة، واستكثر منها، وتعلق قلبه بالمساجد، يشكو بثه وهمه لربه، ويفرده بالعبودية والمحبة والخضوع.. فقبل الله منه، وكتب له أجر صلاته.

 أما إذا فقد العبد الخشوع في صلاته، وقعت صلاته جسدًا بلا روح، وحركات جوفاء لا يذكر الله فيها إلا قليلاً، وإذا فقد المصلي خشوعه لم يلتذ بصلاته ولم يتفكر في كلام ربه الذي يتلوه أو يُتلى عليه، ولم يستشعر الاطمئنان بذكر الله، ولم يفرح بصلاته؛ ولعلها لم تزده من الله إلا بعدًا، نسأل الله السلامة والعافية.

الخشوع.. معانيه وحكمه:

الخشوع في اللغة: هو الخضوع والسكون. قال: {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}[طه : 108] أي: سكنت. والخشوع في الاصطلاح: هو قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل. قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "أصل الخشوع لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذا صلحت صلح الجسد كله.. ألا وهي القلب.." رواه البخاري ومسلم.  [الخشوع لابن رجب، ص17].

فالخشوع محله القلب ولسانه المعبّر هو الجوارح، وهو في الصلاة: حضور القلب وسكون الأطراف.

ولذا لا ينبغي أن يستهين مسلم بقضية الخشوع في الصلاة، فالخشوع واجب على كل مصلٍّ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويدل على وجوب الخشوع قول الله جل وعلا، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}(المؤمنون:1-2)". [انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 22/254].

فضل الخشوع في الصلاة:

مدح الله الخاشعين، ووصفهم بأنهم في صلاتهم أفضل من غيرهم، فقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}(البقرة: 45)، وذكر ربنا سبحانه الخاشعين في صلاتهم والخاشعات ضمن عباده الصالحين، فقال سبحانه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ... أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

وتتجلي في الخشوع في الصلاة معاني الانكسار بين يدي الله سبحانه، وإظهار الضعف والفقر والذل والمسكنة بين يديه سبحانه, ومرد ذلك لأن الله جل جلاله إنما خلقنا للعبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وأفضل العبادات ما تحقق فيها معاني الفقر والانكسار والذل لله تعالى، ولا يتحقق ذلك المعنى في الصلاة إلا بالخشوع. وقد مدح الله جل وعلا الخاشعين في آيات كثيرة: فقال تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109]، وقال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء : 90].

وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم الخشوع في الصلاة وأثنى على الخاشعين، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيركع ركعتين، يُقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة، وغُفر له" [صحيح الجامع للألباني رقم: 5802].

وقال صلى الله عليه وسلم: "خمسُ صلواتٍ افترضهنَّ اللهُ تعالىَ، من أحسنَ وضوءهُنَّ، وصلاهنَّ لوقتهنَّ، وأتمَّ ركُوعهنَّ وخشوعهُنَّ كانَ له علَى الله عهدٌ أنْ يغفِرَ لهُ"(أخرجه أبو داود).

وقال- صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِن امرئٍ تحضُرهُ صلاةٌ مكتوبةٌ فأحسنَ وضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلا كانتْ كفارةً لما قبلهَا من الذنوبِ ما لم يؤتِ كبيرة، وذلكَ الدهرَ كلَّه" (أخرجه مسلم)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة: "...خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي..." (رواه مسلم).

أول علم يُرْفَع من الأرض:

تأمل معي هذا الحديث والأثر الذي رواه عوف بن مالك قال: «بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فنظر في السماء ثم قال: هذا أوان العلم أن يُرفع ، فقال له رجل من الأنصار يُقال له زياد بن لبيد: أيُرفع العلم يا رسول الله وفينا كتاب الله، وقد علَّمناه أبناءنا ونساءنا؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنتُ لأظنُّك من أفقه أهل المدينة، ثم ذكر ضلالة أهل الكتابين وعندهما ما عندهما من كتاب الله عز وجل، فلقي جُبير بنُ نفير شداد بنَ أوس بالمصلى فحدَّثه بهذا الحديث عن عوف بن مالك، فقال: صدق عوف، ثم قال: وهل تدري ما رفع العلم؟ قال: قلت: لا أدري، قال: ذهاب أوعيته، قال: وهل تدري أي العلم أول ان يرفع؟ قال: قلت: لا أدري، قال: الخشوع في الصلاة، حتى لا تكاد ترى خاشعاً» رواه أحمد (6/26 ـ 27)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في «المشكاة» (1/81).

ولذا حرص السلف الصالح على الخشوع في صلاتهم، وضربوا أروعَ الأمثلةِ في الخُشُوعِ، في سكُونٍ وإثباتِ ودموعٍ، فهذَا ابنُ الزبيرِ إذاَ قامَ في الصلاةِ، كأنَّهُ عُودٌ من الخشوعِ، وكانَ يسجُد فتنزلُ العصافيُر علَى ظهرِه لا تحسبُه إلا جذعَ حائطٍ.

وكانَ عليُّ بنُ الحسينِ إذاَ توضأَ اصفرَّ لونُه، فقِيلَ لهُ: ما هذَا الذيِ يعتادُكَ عندَ الوضوءِ؟ فقالَ رحمهُ اللهُ:" أتدرُونَ بينَ يديْ مَنْ أريدُ أنْ أقومَ ".

ارتباط ثواب الصلاة بالخشوع فيها:

حذر النبي صلى الله عليه وسلم من فقدان الخشوع، ومن لهو المسلم عن صلاته وانشغاله فيها عمن يقف بين يديه، وبيّن صلى الله عليه وسلم أن فقد الخشوع أو نقصه يؤثر بالسلب على أجر الصلاة، غعَنْ عَمَّار بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :«إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلاَّ عُشْرُ صَلاَتِهِ ، تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا». [سنن أَبي داود ( 796 ) وحسنه الألباني]، ويرتبط الأجر بالخشوع في الصلاة، فكلما نقص الخشوع نقص أجر المصلي.

وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :«إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلاَّ عُشْرُهَا تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا». [مسند أحمد (18914)، وصححه الأرناءوط].

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَوَّلُ شَيْءٍ يُرْفَعُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّة الْخُشُوع ، حَتَّى لاَ يُرَى فِيهَا خَاشِعاً» [صححه الألباني في صحيح الجامع: 2569]، ولو دخل أحد مساجد المسلمين اليوم يكاد ألا يرى خاشعًا إلا من رحم الله عز وجل، فهذا يعدل ثيابه، وذاك يختلس النظر في الساعة، وثالث يخرج جواله بعد رنينه بزعم غلقه فيسترق النظر ليعلم المتصل، ومن ثم يفقد المصلي خشوعه ويضيع شيء كبير من أجل صلاته.

الوسائل المعينة على تحقيق الخشوع:

سبق التأكيد على أن الخشوع ثمرة لصلاح القلب، واستقامة الجوارح، ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة الله جل وعلا، والإيمان به، وبملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، ومعرفة شرع الله تعالى، والعمل بأوامره سبحانه، ومعرفة نهيه واجتنابه، والإيمان برسول الله صلى الله وسلم ومحبته واتباعه، ثم اقتران ذلك كله بالإخلاص في العبادة لله تبارك وتعالى، فمن قام بهذا خشع في صلاته.

ومما يعين المسلم على تحقيق الخشوع في صلاته ما يلي:

1- معرفة الله: وهي أهم الأسباب وأعظمها، وبها ينور القلب ويتقد الفكر وتستقيم الجوارح، فمعرفة أسماء الله وصفاته تولد في النفس استحضار عظمة الله ودوام مراقبته ومعيته. ولذلك قال الله جل وعلا: "فاعلم أنه لا إله إلا الله".

فالعلم اليقين بلا إله إلا الله، يثمر في القلب طاعة الله وتوقيره والذل والانكسار له في كل اللحظات، ويعلم المؤمن الحياء من الله لإيقانه بوجوده ومعيته وقربه وسمعه وبصره. قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[الحديد:4].

فمتى ما عود المسلم نفسه مراقبة الله في أحواله كلها أورثه الله خشيته ووهبه الخشوع في الصلاة.

2- تعظيم قدر الصلاة: وإنما يحصل تعظيم قدرها، إذا عظم المسلم قدر ربه وجلال وجهه وعظيم سلطانه واستحضر في قلبه وفكره إقبال الله عليه وهو في الصلاة، فعلم بذلك أنه واقف بين يدي الله، وأن وجه الله منصوب لوجهه، ويا له من مشهد رهيب، حق للجوارح فيه أن تخشع وللقلب فيه أن يخضع، وللعين فيه أن تدمع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صليتم فلا تتلفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في الصلاة ما لم يلتفت" [رواه مسلم].

3- تدبر القرآن في الصلاة: إن تدبر القرآن من أعظم أسباب الخشوع في الصلاة, وذلك لما تشتمل عليه الآيات من الوعد والوعيد وأحوال الموت ويوم القيامة وأحوال أهل الجنة والنار وأخبار الأنبياء الرسل وما ابتلوا به من قومهم من الطرد والتنكيل والتعذيب والقتل وأخبار المكذبين بالرسل وما أصابهم من العذاب والنكال،وكل هذه القضايا تسبح بخلدك أخي الكريم فتهيج في قلبك نور الإيمان وصدق التوكل وتزيدك خشوعاً على خشوع وكيف لا وقد قال الله جل وعلا: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر : 21] . ولذلك استنكر الله جل علا على الغافلين عن التدبر غفلتهم فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد : 24] وقال تعالي أيضاً:{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء : 82].

ويتعين التدبر في سورة الفاتحة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى :قسمت الصلاة بيني عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ،فإذا قال العبد {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة : 2]، قال تعالى :حمدني عبدي .وإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة : 4] قال مجدني عبدي. وإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة : 5] قال:هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال:{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة : 7- 6]، قال: هذا لعبدي ولعبد ما سأل" [رواه مسلم] [للاستزادة انظر مقالاً بعنوان: كيف تخشع في الصلاة؟ منشور على موقع صيد الفوائد].

4- ترك الدنيا على أعتاب المساجد:

إن من أعرض عن الدنيا وتركها على أبواب المساجد، واشتغل بما هو مقبل عليه من الإقبال على الله رب العالمين مالك الدنيا والآخرة، والتنعم بذكره، خشع في صلاته وأقبل فيها على ربه، وخرج منها بزيادة في إيمانه، وقبول لعمله، وبرضا ربه. ومن استسلم لدنيا تشغله في صلاته فقد خسر وفرط.

وفي الختام.. إِنَّ الخشوعَ فِي الصلاةِ وحضورَ القلبِ فيهَا هُو روحُ الصلاةِ ولبُّهَا، فإذَا وقفَ العبدُ بينَ يَدَيْ خالِقه واستقرَّ فِي جنانِ عظمةِ اللهِ وجلالِه، وفرَّغَ قلبَه عن الصوارفِ عن اللهِ، وتخفَّفَ من مشاغِل الدنيَا، وقدرَ الأمرَ حقَّ قدِره، خَشعَ فِي صلاتهِ وأقبلَ عليهَا واستحقَ المدِيحَ القرآنَّي وكانتْ صلاتُه لهُ راحةً قلبيةً وطمأنينةً نفسيةً وقرةَ عينٍ حقيقية.

نسأل الله أن يرزقنا الخشوع في الصلاة، وأن يتقبل منا صالح الأعمال.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.