إمام المسجد وتعزيز الوسطية

 

  الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم، وبارك على النبي الأمين، سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد :

فإذا كان المسجد هو السفينة التي تهدي المؤمنين إلى طريق الصواب، فإن هذه السفينة تحتاج إلى منارة ترشدها وتهديها طريقها، والطريق الواضح هنا هو طريق الوسطية، يقول تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة: 143]، وتحتاج هذه الأية إلى إمام يعزز وسطية الدين الذى نزل بها.

وإذا كان الإسلام قد رفع من قيمة المساجد باعتبارها بيوت الرحمن التي يسكن الكل إليها فعن عبد الله بن عمر: أن رجلا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – أي البقاع خير، وأي البقاع شر؟ قال : {خير البقاع المساجد، وشر البقاع الأسواق}، وعن ابن عباس: قال :" المساجد بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الأرض".

فإنه أيضًا رفع قيمة الإمامة في الإسلام فالأئمة هم حماة الدين وحراس العقيدة من الفتن التي أصبحت تتربص بالمسلمين ليل نهار، ولو تكن منزلة الإمام عظيمة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم- قاول: "إن الله، وملائكته، وأهل السماوات، وأهل الأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير".

ومن حظ الأئمة أن المصطفى صلى الله عليه وسلم دعا لهم فيقول: {الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤمنين}.

لذلك إذا كان لإمام المسجد وظيفة فإن هذه الوظيفة الشاقة تتطلب صفات معينة وهي:

صفات الإمام المسلم

الشروط الشرعية:الذكورية وهى شرط لصحة الإمامة، ورد في المغني :" وأما المرأة فلا يصح أن يأتم بها الرجل بحال ، في فرض ولا نافلة في قول عامة الفقهاء، ثم استدل بقوله صلى الله عليه وسلم :” لا تؤمن امرأة رجلا ، ولا فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان ، أو يخاف سوطه أو سيفه".

الصفات الإيمانية

ويجب على الإمام أن يكون حافظًاللقرآن الكريم كله أوجله، وحفظ قدر طيب من السنة، والإلمام بعلوم القرآن، والسنة، والتفسير، والسيرة وفقه الإيمان، وفقه الأحكام، والإطلاع على التاريخ  ومعرفة ما يدور في واقع الأمة، وأبرز قضاياها، والتحديات المعاصرة الفكرية، والسياسية والسلوكية التي تواجه شباب المسلمين، ذلك أن من شأن خطيب الجمعة توجيه الناس، وتبصيرهم بأمور دينهم ودنياهم، وغرس الالتزام بالإسلام في حياة الناس، عقيدة، وعبادة، وخلقا وسلوكا، وهذا يحتاج إلى ما أشرنا إليه من الصفات، وإلا ضعف أداؤه لهذا العمل.

الصفات الخلقية

ينبغى أن تتوافر فى الإمام عدة صفات خلقية لابد منها، أولها الصدق، عملا بقول الله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة: 119].

وثانيهاا الأمانة، لقول الله تعالي: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(الأحزاب- 72)، أيضاً عدم مخالفة فعله لقوله، وهذه قضية أساسية لابد أن يلتزم بها كل من يتصدى للإمامة أو يتقدم للإمامة فى الصلاة، فلا يعقل أن يؤم القوم وهو يقرأ فى القرآن الكريم ما يدعو الناس إلى الالتزام بمكارم الأخلاق ثم يخالف هو ما يقرأه فى صلاته، وبناء على ذلك فينبغى عليه ألا يفعل إلا كل ما هو خير، فلا يغش ولا يدلس أو يكذب فى عمله، ثم يتقدم لإمامة الناس، لأنه يخالف ما يقرأ فى القرآن الكريم، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (ثلاثة لا تقبل منهم الصلاة وعدَّ منهم من أمّ قوماً وهم له كارهون)، والناس لا تكره الإمام الذى يتقدم للصلاة إلا إذا كان سلوكه يخالف قوله.

الوسطية في الإسلام

مأخوذة من الوسَط الذي هو بمعنى: العدل أو الخيار، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة:143).

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: “إنما حوَّلناكم إلى قِبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم؛ لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسَط هاهنا: الخِيار والأجْوَد، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي خيرُها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها.

ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (الحج: 78).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُدعَى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُدعَى قومه فيقال لهم: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، قال فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة:143)، قال: والوسط العدل فتُدعَون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم» أخرجه البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.

وقال ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران:110)، روى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم تُوفُون سبعين أمة، أنتم خيرها وأنتم أكرم على الله عز وجل»، وهو حديث مشهور، وقد حسَّنه الترمذي، ويُروَى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه.

وقال عند قوله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (الحج:78): “أي: إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً، عدولاً خِياراً، مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الناس”.

 

نهى الله تعالى عن الغلو والتشدد في الدين، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في أكثر من موضع؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ"(ابن ماجه: 3029).

وإنما انطلق هذا النهي من مصدر التشريع، ولم يكن في يوم من الأيام من مطالب البعض مثلًا بعد مخالطة شعوب أخرى أو الاطلاع على ثقافاتهم مثلما يحلو للبعض أن يروج أحيانًا عن جهل أو حسن نية أو سوء نية في سعيهم لما يسمى الإسلام الحديث

إن فهم الإسلام كما أُنزِل من مصدر تشريعه يقتضي اللين وحُسن الخلق والدعوة إلى الله تعالى بلين ورفق والعلم بأنه لو شاء الله تعالى لهدى الناس جميعًا، وأنه لا إكراه في الدين، وإن على الداعي التبليغ فقط، وعلى الرسول البلاغ، أما الاستجابة فهي من عند الله تعالى، ومن هنا وجب على المسلمين ألا يتشددوا ولا يغالوا .. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}(هود: ١١٨)، وقد قال الله تعالى في رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران: 159)، في إشارة إلى نبذ الفظاظة والتشدد في الدعوة والتعامل مع الآخرين .

وفي إطار الحديث عن التشدد في الدين .. يجب أن نَحُدَّ حدودًا ومفهومًا لهذا التشدد .. فليس التمسك بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وشعائر الإسلام تشددًا .. وليست الغيرة على الدين وحبه من التشدد .

إنما الإتيان بما ليس في الدين وممارسته وفهم سقيم لبعض النصوص وتطبيقها دون معرفة أحوالها أو التمسك ببعض العادات التي ليست من صحيح الدين والإصرار عليها والتمسك برأي متحفظ أو متشدد فيما فيه آراء موثوقة تقتضي التيسير على الناس في حياتهم.. هذا هو التشدد المنهي عنه.

وإن الإسلام في مجمله هو دين يدعو إلى الاجتهاد والتجديد .. يقاوم الجمود ويؤمن بمواكبة التطور والشريعة لا تَضِيْقُ بجديد ولا تَعجِز عن إيجاد حلٍّ للمشكلة وإنما العجز في عقول بعض المسلمين .. الذين ظن بعضهم أن التشريع والاجتهاد يقف عند زمن معين .. طالما كان هذا الاجتهاد في أمور غير قاطعة الثبوت وفي إطار الخطوط العريضة للإسلام ..

وفي النهاية عليك أن تعلم أن فهم الإسلام الصحيح هو أنه إسلام يتسم بالوسطية في كل شيء .. يجعلها من خصائص أمته الأساسية حيث يقول الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}(البقرة: 143)، يمثل التوازن الإيجابي في كل المجالات اعتقادية وعملية ومادية ومعنوية ..

وعليه فإن ما يفعله بعض أبنائه من تشدد في بعض المسائل ماهو إلا خروج عن هذه القاعدة التي أقرها الله تعالى لهذا الدين ولأتباعه

أهمية التزام الإمام الوسطية

الإمام إذا التزم الوسطية فإنه بذلك يعبر عن صفة الإسلام من دون الأديان، ولأجل ذلك كان الإسلام أعظم الأديان السماوية أتْباعاً وكانت لأتباعه الصدَارة في الشهادة على الأمم كما مرّ، قال عليه الصلاة والسلام: «فأرجو أن أكون أكثرهم -أي: الأنبياء- تابعًا يوم القيامة» (متفق عليه).

والمسلمون لذلك هم ثُلُثَا أهل الجنة.. عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة عشرون ومائة صفٍّ، ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم» أخرجه الترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم، وذكر الألباني أنه صحيح، وقال الحاكم والذهبي والأرناؤوط: إنه صحيح على شرط مسلم.

ويجب أن يعلم الأئمة أن الوسطية ليست سائبة المعيار، بل معيارها في غاية الانضباط، في داخل الأُمّة ذاتـها، لأن الفِرَق الضالة التي تدّعي وَصْلًا بالأمة الوسط تبلُغ اثنتين وسبعين فِرقة، وكلّها في النار، والفِرقة الناجية هي الثالثة والسبعون، وهي التي تُمثِّل الوسطية، لِأَنـها التي مدَحها النبي صلى الله عليه وسلّم، وذكَر أنها الجماعة، أي معظم الأمة، لِأن الفِرَق الأخرى، وإن كان عددها فوق السبعين، إلا أنّ أتْباعها قلّة يسيرة بالنسبة لمجموع الأمة، والجماعة أو الفرقة الناجية هي التي تمثِّل ثُلُثي أهل الجنة كما سبق، وحديث الافتراق هذا رواه أحمد وأبو داود الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم، وقد صححه الحاكم والذهبي وابن تيمية، وحسّنه الترمذي وابن حجر، وذكر العراقي أن أسانيده جياد، وصحّحه البوصيري و الألباني والأرناؤوط.




 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.