وقفات قبل الرحيل.. وصايا في ختام رمضان

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبعد:

فينبغي للعبد المسلم أن يقف مع أيام الله تبارك وتعالى، ليتعظ بها ويعتبر بمرورها، فالأيام تمر سريعًا والأعمار تنقضي، فبينما نحن منذ أيام ننتظر قدوم رمضان، إذ بنا نستعد لوداعه!!

 ومع قدوم رمضان ورحيله، ينبغي لكل واحد منا أن يتدبر ويتفكر مع نفسه في هذه الدروس والعبر السريعة والمهمة:

 

1- الانتباه لسرعة مرور الأيام والحذر من الدنيا

إن عمر الإنسان هو كنزه الحقيقي ورأس ماله، وإن تضييعه والتفريط في ساعاته وأيامه لمن الغبن والخسار الذي يقع فيه كثير من الناس، وصدق رسول الله حيث قال: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» [رواه البخاري 6412].

لذلك فمن الأمور المهمة التي ينبغي أن يقف معها العبد مع رحيل رمضان وصية النبي لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. [رواه البخاري 6416].

 فالنبي يوصي عبد الله بن عمر وهو من آخر الصحابة موتًا، يوصي شابًّا في العشرين من العمر بقصر الأمل والحذر من الدنيا.

إن من ملامح ختام رمضان ورحيله أن يتذكر الإنسان خواتيم الأعمال وخواتيم الأعمار، وألا يغفل عما يحمل من الآثام والأوزار، فكل شيء عند الله بأجل مسمى ومقدار، والعاقل من انتبه وأخذ أهبته، واستعد لسفر طويل، وإقامة طويلة في القبور، فيعمل لهذا اليوم ولا تشغله الدنيا بغرورها.

 

2- الجمع بين الإحسان والخوف

إن من تأمل أحوال الأنبياء والصحابة والصالحين وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، فهم جمعوا بين الإحسان والخوف، ونحن جمعنا بين الإساءة والأمن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يحسنون في أعمالهم، ويتقون الله ما استطاعوا وهم مع ذلك لا يُعجبون بعمل، ولا يُفتنون بثناء الناس ولا محمدة الخلق.

قال ابن القيّم رحمه الله «إذا أراد الله تعالى بعبد خيرًا سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه، والإخبار بها من لسانه، وشغَله برؤية ذنبه؛ فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة؛ فإن ما تُقبِّل من الأعمال رُفع من القلب رؤيته، ومن اللسان ذكره» [طريق الهجرتين ص 270].

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد العاقل لا يرتكن على عمل ضعيف لا يدري أقبله الله منه أم لا، وإنما العبد الموفق من يعمل ويعبد ويجد ويعتمد بعد كل ذلك على الطمع فيما عند الله، فلا يُدِلّ بعمل ولا يستولي عليه العجب، بل يتواضع لربه لعله يقبل منه، ويخفض جناحه لعل الله يمُن بالقبول، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها أن النَّبِيِّ قَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ. قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ. [رواه البخاري 6467].

وثبت عن أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنه أنها قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قَالَ: لاَ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، أَوْ لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُ. [رواه أحمد  25746 وحسنه الألباني].

فهذه أم المؤمنين تظن أن الخائف ذا القلب الوجل هو إنسان أتى من الموبقات والكبائر ما يُسخط الله عليه، ومثله يحق له الخوف، بل يجب، فصحّح لها النبي – صلى الله عليه وسلم-الفهم وأرشدها إلى أن المتقين من عباد الله يجمعون مع الإحسان خوف عدم القبول.

وإليك مثال من تواضع السلف الصالح، فقد روى البخاري في صحيحه في سياق موت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو حديث طويل وفيه « وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ فَقَائِلٌ يَقُولُ لاَ بَأْسَ، وَقَائِلٌ يَقُولُ أَخَافُ عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ، فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ؛ فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَجَاءَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ فَقَالَ أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَكَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَقَدَمٍ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ ثُمَّ شَهَادَةٌ قَالَ وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي» [رواه البخاري 3700].

فانظر -رحمني الله وإياك- إلى هذا الجيل جيل الصحابة، يُمدَح عمر رضي الله عنه بأعمال حقيقية عملها، وهو أولى بتلك البشارات في سكرات الموت ليحسن ظنه بربه، ولكنه يأبى في مَثَلٍ عجيب، ويتمنى وهو الصادق البارّ أن يخرج منها كفافًا، وأحدنا الآن لصلاة ركعات وصيام أيام يظن نفسه في أعلى الدرجات وأرفع المنازل، فتواضعوا يا أهل الخير وانظروا في صفحات أعمال السلف الصالح تعرفوا قيمة أنفسكم، وتصيروا إلى حال أحسن من حالكم بتوفيق الله تبارك وتعالى.

وقال ابن القيم رحمه الله في وصف الصالحين وأعمالهم «فإن العبد الصادق لا يرى نفسه إلا مقصرًا، والموجب له لهذه الرؤية استعظام مطلوبه، واستصغار نفسه ومعرفته بعيوبها، وقلة زاده في عينه، فمن عرف الله وعرف نفسه، لم يرَ نفسه إلا بعين النقصان» [مدارج السالكين 2/ 282].

3- أبرز علامات القبول

إن أبيَن علامةٍ على القبول هي استمرارُ العبد على الخير والعمل الصالح بعد رمضان قال بعضهم: "ثوابُ الحسنةِ الحسنةُ بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها كان ذلك علامة على قبول الحسنةِ الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها".

ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها، وأحسنُ منها الحسنةُ بعد الحسنة تعقبها وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها، فلا ترجع أخي إلى المعصية بعد رمضان، واصبر عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان، واصبر لله تعالى يعوضك خيرًا.

وتلك قاعدة سنّها رسول الله بقوله «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» متفق عليه، قالت عائشة رضي الله عنها «وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه» [رواه البخاري 43].

إن حاجة العبد لعبادة الله أكيدة، وهو لا يستغني عن ربه طرفة عين، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «وفي القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إلا فوزه بحصول الغنى بحب الله الذي إن حصل للعبد؛ حصل له كل شيء، وإن فاته؛ فاته كل شيء، فكما أنه سبحانه الغني على الحقيقة، ولا غني سواه، فالغنى به وبحبه هو الغنى في الحقيقة، ولا غنى بغيره ألبتة، فمن لم يستغن به عما سواه؛ تقطعت نفسه حسرات، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح، والله المستعان. [طريق الهجرتين ص 62].

إن استدامة الطاعة والمداومة على الأعمال الصالحة لهي في الحقيقة من عوامل الثبات على دين الله وشرعه.

4- بماذا نختم شهر رمضان الكريم؟

أمر الله عباده أن يختموا أعمالهم العظيمة بالاستغفار والتوبة، فبعد كل صلاة استغفارٌ، فعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا، وَقَالَ «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ» قَالَ الْوَلِيدُ فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ كَيْفَ الاِسْتِغْفَارُ؟ قَالَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. [رواه مسلم 591].

والحاج بعد نزوله من عرفة يلزم الاستغفار قال الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة: 199].

بل إن الله تبارك وتعالى أمر النبي أن يختم عمره المبارك بالاستغفار، فقال جل وعلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر]، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؛ ويَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ. متفق عليه.

 

وإن العبد ليتحسر على تفريطه، فبالأمس كنا ننتظر رمضان، وها نحن الآن نودعه، وهكذا تمضي الأعمار، وإنما العبد جملة من أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضه هذا رمضان يمضي، كما كان بالأمس يأتي، فسبحان من قلّب الليل والنهار، وأجرى الدهور والأعوام، وفي ذلك معتبر للمعتبرين، وموعظة للمتقين

هذا رمضان تطوى صحائفه بأعمال العباد، ولا تنشر إلا يوم القيامة والحساب، ولا ندري أندرك رمضان المقبل أم لا؟ فالله المستعان

وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة صدقة الفطر فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرقّع ما تخرّق من الصيام باللغو والرفث.

أسأل الله العلي القدير أن يتقبلنا بقبول حسن وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، والحمد لله رب العالمين.

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.