مواقيت زمانية ومكانية
المواقيت: جمع ميقات، وهو ما حُدِّدَ ووُقِّتَ للعبادة: من زمان، ومكان. والتوقيت التحديد، وهو في الاصطلاح موضع العبادة وزمانها، ومن حكمة الله سبحانه في تشريعه تنويع العبادات والفرائض، أن جعل منها ما وقته طويل واسع، ومنها ما وقته ضيق قصير، ومنها ما يتعلق بالبدن، ومنها ما يتعلق بالمال، ومنها ما يتعلق بهما جميعاً، ولعل حكمة ذلك ألا يمل العباد من عبادة واحدة، وليعلم الله تعالى من يخضع لأمره ويسمع ويطيع ممن يخالف ويعصي ويعاند.
ومن أمهات تلك العبادات: حج بيت الله الحرام، الذي جعل الشارع الحكيم له مواقيت مكانية وزمانية، والمقصود في هذا المبحث ما حدد الشارع للإحرام من المكان والزمان.
المواقيت الزمانية
أولاً: اعلم أيها الحبيب أن الأصل في تحديد المواقيت الزمانية لفريضة الحج هو كتاب الله تعالى، وذلك كما جاء في سورة البقرة حيث يقول تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] "أي وقت أعمال الحج أشهر معلومات، والعلماء مجمعون على أن المراد بأشهر الحج شوال، وذو القعدة، واختلفوا في ذي الحجة هل هو بكماله من أشهر الحج، أو عشر منه؟.
وكذلك فهم مجمعون على أن من لم يحرم بالحج حتى طلع عليه فجر يوم النحر "اليوم العاشر" لم يصح حجه.
ثانياً: أنه لا يجوز أن يؤخر شيئاً من أعمال الحج عن الأشهر الثلاثة إلا لضرورة، وإلا فالواجب ألا يخرج ذو الحجة وعليه شيء من أعمال الحج؛ إلا طواف الوداع؛ لأن طواف الوداع منفصل عن الحج، فهو لمن أراد الخروج من مكة؛ وإن طال لبثه فيها.
وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يؤخر حلق رأسه إلى أن يدخل المحرم، ولا يجوز أن يؤخر طواف الإفاضة إلى أن يدخل المحرم، لكن إذا كان لعذر فلا بأس. فعذر الحلق أو التقصير مثلاً: أن يكون في رأسه جروح لا يتمكن معها من الحلق أو التقصير، فله أن يؤخر حتى يبرأ، وعذر الطواف أن تصاب المرأة بنفاس كأن يأتيها وهي واقفة في عرفة، والنفاس عادة يبقى أربعين يوماً، فهذه سوف يخرج شهر ذي الحجة ولم تطف طواف الإفاضة؛ فلا بأس؛ لأن تأخيرها للطواف لعذر[1] .
ميقات العمرة
أما العمرة فليس لها ميقات زماني ، حيث إنها تفعل في أي يوم من أيام السنة ، فيُحرم بها المعتمر متى شاء، ولا يختص إحرامها بوقت، لكنها في رمضان تعدل حجة في فضلها ، وكذلك العمرة في أشهر الحج أفضل من غيرها حيث اعتمر الرسول صلى الله عليه وسلم أربع عمرات كلها في ذي القعدة .
المواقيت المكانية
أما المواقيت المكانية فالمقصود بها تلك الأماكن التي حدَّدها الشارع الحكيم ليُحرم منها الحاج أو المعتمر، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت وحددها كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هنَّ لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة" رواه البخاري ومسلم، ويبقى ميقات أهل العراق وخراسان وما وراءها وهو ذات عرق لما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل العراق ذات عرق" رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود .
وتفصيل هذه المواقيت هي:
1 - ذو الحليفة : وهو ميقات أهل المدينة ومن أتى من طريقهم، والمسافة بينها وبين المسجد النبوي 13 كيلو، ومنها إلى مكة 420 كيلو.
2 - الجحفة: وهي ميقات أهل الشام، وهي الآن خراب، والناس يُحرمون اليوم من رابغ؛ وهي قبل الجحفة بيسير، وتبعد عن مكة 186 كيلو، ويحرم منها أهل شمال المملكة العربية السعودية، وساحل المملكة الشمالي إلى العقبة، ويُحرم منها بلدان إفريقيا الشمالية والغربية، وأهل لبنان، وسوريا، والأردن، وفلسطين، ومن مرّ عليها من غيرهم.
3 - قرن المنازل: ويُسمَّى الآن السيل الكبير، ومسافته من بطن الوادي إلى مكة المكرمة 78 كيلو، ويُحرم منه أهل نجد، وحُجّاج الشرق كله: من أهل الخليج، والعراق، وإيران، ومن مرَّ عليه من غيرهم.
4 - يلملم: ويقال ألملم، وهو ميقات أهل اليمن ومن جاء من طريقهم، ويلملم وادٍ عظيم، ينحدر من جبال السروات إلى تهامة، ثم يصب في البحر الأحمر، ويبعد مكان الإحرام منه عن مكة المكرمة 120 كيلو.
5 - ذات عرق: وهو ميقات أهل العراق، يقع عن مكة شرقاً بمسافة قدرها 100 كيلو، فعن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقّت لأهل العراق ذات عرق".
فهذه هي المواقيت التي بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مواقيت لكل من مرَّ بها سواء كان من أهل تلك الجهات، أو كان من جهة أخرى وجاء من جهة تلك المواقيت، وقد جاء في كلامه صلى الله عليه وسلم: «هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة» أي أن هذه المواقيت لأهل البلاد المذكورة، ولمن مرَّ بها وإن لم يكن من أهلها فإنه يحرم منها إذا أتى قاصداً النسك.
محاذاة الميقات المكاني:
من كان طريقه يميناً أو شمالاً من هذه المواقيت فإنه يحرم عند محاذاة ميقاته سواء كان في الطائرة، أم في الباخرة، أم في السيارة، والدليل على ذلك ما رواه البخاري رحمه الله في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا يا أمير المؤمنين: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم؛ فحدَّ لهم ذات عرق" رواه البخاري
من كان منزله دون المواقيت:
مَن كان منزله أقربَ إلى مكة من هذه المواقيت فَيُحرم من مكانه، كذلك من كان بمكة وأراد الحج فميقاته منازل مكة لقوله عليه الصلاة والسلام: «حتى أهل مكة من مكة» رواه البخاري ومسلم.
أما في العمرة فيحرم من كان في الحَرَم من أدنى الحلّ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لعبدالرحمن بن أبي بكر : «اخْرُج بأُختِك ـ يعني عائشة لما طلبت منه العمرة ـ من الحَرَم فَلتُهِل بعمرة» متفق عليه.
مجاوزة الميقات بدون إحرام:
لا يجوز لمن عزم على الحج أو العمرة أن يتجاوز هذه المواقيت بدون إحرام، ومن تجاوزها بغير إحرام وأحرم بعدها فيلزمه الرجوع إلى الميقات فيحرم منه ، وإلا عليه كفارة دم يوزع على فقراء الحرم.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله: (من جاوز الميقات بلا إحرام وجب عليه الرجوع فإن لم يرجع فعليه دم وهو سبع بقرة أو سبع بدنه أو رأس من الغنم يجزئ في الأضحية إذا كان حين مر على الميقات ناويا الحج أو العمرة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين).
أما من مَرّ بالمواقيت وهو لا يريد حَجّاً ولا عمرة، ثم بدا له بعد ذلك أن يعتمر أو يحج فإنه يُحرم من المكان الذي عزم فيه على ذلك لحديث ابن عباس السابق : «ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة».
هل تعتبر مدينة جدة من المواقيت المكانية؟
تعتبر جدة ميقاتاً لأهلها وللمقيمين فيها من غير أهلها، وكذا لمن أتى إلى جدة ولم ينو الحج أو العمرة إلا وهو في أرض جدة، وعلى ذلك إذا أراد أحد من أهل جدة أو المقيمين فيها؛ أن يحج أو يعتمر فإنه يحرم من جدة، ولا يلزمه الذهاب إلى أحد المواقيت ليحرم منها. أما غير أهلها فقد جاء في كلام لفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "وأما جعل جدة ميقاتاً لكل من يأتي بالطائرة فهو قول واه مصادم للنصوص، ينبغي هجره، والرد على قائله، فالسنة واضحة في هذا الأمر، والأحكام لا تختلف بالطيران والارتفاع عن الأرض عن القرار عليها في مثل هذا" .
كيف يحرم راكب الطائرة والبحر؟
1- يغتسل في بيته ويبقى في ثيابه المعتادة، وإن شاء لبس ثياب الإحرام.
2- فإذا اقتربت الطائرة من محاذاة الميقات لبس ثياب الإحرام إن لم يكن لبسها من قبل.
3- فإذا حاذت الطائرة الميقات نوى الدخول في النسك، ولبى بما نواه من حج أو عمرة.
4- فإن أحرم قبل محاذاة الميقات احتياطاً خوفاً من الغفلة، أوالنسيان فلا بأس.
وكذلك من كان في سفينة في البحر فإنه يُحرم إذا حاذى الميقات، هذا إذا كان يعرف حذو الميقات.
والله تعالى أعلم، وبالله التوفيق.
موقع مناسك
[1] الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/56-57).
[2] فتاوى نور على الدرب- للعلامة: ابن عثيمين. رحمه الله (7 / 188) بتصرف يسير
التعليقات