شرح كتاب الحج من "عمدة الفقه"

 الحج في اللغة: القصد، أو القصد إلى مُعظَّم، أو كثرة الاختلاف إلى معظَّم، ومنه قول السعدي:

أَلَمْ  تَعْلَمِي  يَا  أُمَّ   أَسْعَدَ   أَنَّمَا        تَخَطَّأَنِي  رَيْبُ  الْمَنُونِ   لأكْبَرَا
وَأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ  حُلُولاً  كَثِيرَةً        يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
أي يقصدونه قصدًا كثيرًا.
الحج: بالفتح وبالكسر، فيقال: الحَجُّ و الحِجُّ؛ لكن الفتح أشهر وأغلب، وإلا [فقد] قُرئ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، و{ولله على الناس حَجُّ البيت}، هذا الأشهر في الحج، وعكسه شهر ذي الحِجة، فإن الكسر فيه أشهر من الفتح، فيقال: ذي الحِجة أشهر من ذي الحَجة.
 
أما في الاصطلاح: فقيل هو: "قصد مكة؛ لأداء ركن من أركان الإسلام".
وقيل هو: "قصْد مكان مخصوص، لعمل مخصوص، في زمن مخصوص".
"مكان مخصوص": أي قصد مكة والمشاعر.
"لعمل مخصوص": هي أعمال الحج؛ من الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة ومِنى، ورمي الجمار، وغير ذلك.
"زمن مخصوص": أي في أشهر الحج.
 
لكن هذا التعريف الأخير عليه اعتراض؛ لأن مَن جاء إلى المسجد، وأراد أن يصلي، فإنه قصد مكانًا مخصوصًا، لعمل مخصوص، في زمن مخصوص.
وكل ما يُذكَر من تعريفات لا تسلم من اعتراض، والحج واضح لا يحتاج إلى تعريف؛ بل الحج أوضح من هذه التعريفات التي تُذكَر، ولهذا يقال: إن تعريف الواضحات لا يزيدها إلا غموضًا.
ولكن على طالب العلم أن يمرِّن نفسه على التعريفات اللُّغوية والاصطلاحية.
والعُمْرة في اللغة: الزيارة.
وأما في الاصطلاح: زيارة البيت؛ لعمل مخصوص.
 
وينبغي أن نَذكُر دائمًا أمرًا مهمًّا أمام العبادات، وهو التماس الحِكَم التشريعية من هذه العبادات؛ لأن الله - عز وجل - شرع الأحكام لغايات عظيمة، ومقاصد مهمة، وأهداف سامية، ينبغي على الإنسان أن يقف عليها؛ لأنه متى ما أدرك الحِكْمة تَرتَّب على ذلك أداء العبادة على الوجه الصحيح، الذي يتناسب ومقاصد تلك العبادة. 
والحج عبادةٌ عظيمة، فرضها الله - عز وجل - على عباده، ونحن نعرض بعض الحِكْم التي ذكرها العلماء فيه، ثم نبيِّن ما ترتب على الجهل بها في أداء الناس في هذه الشعيرة، وفيه من الحِكَم والفوائد ما لا يعلمه إلا الله - عز وجل - ومِن هذه الحِكَم:
 
الحِكمة الأولى: أنه عبادة لله - عز وجل -: 
وكل عبادة لها مقصد عام، هذا المقصد هو الخضوع والتذلل لله، وهذا في جميع العبادات أنها من حِكَمها العظيمة الخضوع والتذلل لله تبارك وتعالى، ومتى حصل هذا القصد للعبد، وكان خاضعًا متذللاً لربه - تبارك وتعالى - فإنه حينئذ يعنى بهذه العبادة؛ لأنه يريد أن يحقق هذا القصد، فأنت حين تصلي تستشعر هذه الغاية، وهو إظهار الخضوع والتذلل لله عز وجل، وحين تحج، وحين تعتمر، وحين تطوف بالبيت...
فإذًا كل عبادةٍ مقصدُها العام الخشوعُ والتذلل؛ حتى يظهر فقر العبد لله - عز وجل - أنه عبد لله كلفه بما شاء – سبحانه - فليس له أن يعترض على الله، عز وجل.
 
الحِكمة الثانية: إقامة ذكر الله - عز وجل -: 
فمَن تأمل الآيات التي وردت في الحج، يجد هذا جليًّا واضحًا فيها، فإن الله - عز وجل - ذَكَرَ آيات تتعلق بالحج، وذكر فيها أهمية الذِّكْر، فقال - عز وجل -:
1- {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 198 – 200].
2- {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}[البقرة: 203].
3- {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 27 – 28].
فتلاحظ أن هذه الآيات جميعًا ذُكر فيها أهمية الذكر في الحج، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((إنما جُعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لأقامة ذكر الله)).
 
فهذه الحِكمة، وهذا المقصد العظيم الذي شُرع من أجله الحج، كثيرٌ من الناس في غفلة عنه، لذا يرتكبون أفعالاً كثيرة مخالفة لهذا المقصد، أو لا عَلاقة لها بالحج، وذلك حين يشتغلون باللهو، وبالقيل والقال.
فأنت تلاحظ أنه مِن حين يُحرم الحاج يلبي لله - عز وجل - وهذا ذكر لله، وفي الطواف يذكر الله، وفي السعي يذكر الله، وفي عرفات يذكر الله، وعند المشعر الحرام يذكر الله، وفي كل فعلٍ من أفعال الحج ذِكرٌ لله.
 
الحِكمة الثالثة: أن يستشعر الإنسان ما هو قادمٌ عليه من المصير:
فحين يتجرد من ثيابه التي كان يلبسها، يُذكِّره ذلك بالآخرة، ففي الحج تذكيرٌ بالآخرة؛ فكأنه يُقال للإنسان: إنك في يوم من الأيام ستتجرد من ملابسك، وستودع هذه الدنيا!
 
الحِكمة الرابعة: أن في الحج اجتماع المسلمين: 
وهذا مقصد عظيم، ففيه وَحدة المسلمين، وجمع كلمتهم، ووَحدة صفهم، فهذا المقصد العظيم رأيناه ظاهرًا في صلاة الجماعة، التي تتكرر في اليوم خمس مرات في المساجد، فهذا اجتماع مصغر، يلتقي فيه أصحاب الحي في اليوم خمس مرات، في بيت من بيوت الله - عز وجل - يؤدُّون فريضةً من فرائض الله، ثم يأتي اجتماع أكبر، وهو يوم الجمعة، وهو اجتماع أسبوعي، ثم يأتي اجتماع في السَّنة مرتين، وهو الاجتماع لصلاة العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحى)، ثم يأتي الحج، وهو الاجتماع السنوي للمسلمين، وهو واجب في العمر مرة؛ كما يأتي في كلام المؤلف - رحمه الله تعالى - وفي هذا الاجتماع منافعُ كثيرةٌ؛ كما قال الله - عز وجل -: 

{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]، فقوله - عز وجل -: {مَنَافِعَ} كلمة مطلقة تشمل: المنافع الأخلاقية والدينية، والاجتماعية، والاقتصادية،...، وقد ذكر العلماء - رحمهم الله تعالى - كثيرًا من المنافع التي تترتب على الاجتماع في الحج، فمنها: تعرُّف المسلمين على بلاد بعضهم، وعلى أحوالهم، ويتعرف التاجر على مواطن التجارة في البلدان المختلفة، ويتعرف على ما يحتاج إليه المسلمون في كل مكان من بقاع الأرض.

بالإضافة إلى أن هذا الاجتماع مظهرٌ من مظاهر وَحدة المسلمين؛ لأنهم يظهرون بلباس واحد، ويجتمعون في مكان واحد، يدعون ربًّا واحدًا، ويقومون بأعمال واحدة، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، فهذا مظهر أيضًا من مظاهر اجتماعهم ووَحدة كلمتهم.
 
الحِكمة الخامسة: في الحج مغفرة الذنوب وابتغاء الثواب: 
وهذا أعظم ما يسعى إليه الإنسان، فإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)):
والحج المبرور هو الذي:
1- أن يكون خالصًا لله عز وجل.
2- أن يمتثل العبد فيه لأوامر الله، ويجتنب نواهيه العامة والخاصة.
3- أن يكون فيه المال حلالاً.
4- أن يكون صاحبه متبعًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أداء النسك.
وقال – صلى الله عليه وسلم –: ((مَن حج هذا البيت، ولم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أُمه))، فهذا أيضًا مقصد عظيم، يسعى إليه المسلمون.
 
الحِكمة السادسة: إحياء سنة إبراهيم - عليه السلام -:
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"يجب الحج والعمرة مرة في العمر".
1- وجوب الحج:
أما وجوب الحج فبإجماع العلماء - رحمهم الله تعالى - وبدَلالة الكتاب، والسُّنة. والحج فريضة فرضها الله - عز وجل - وركن من أركان الإسلام.
والدليل على وجوب الحج من الكتاب: قوله – تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
والدليل على وجوبه من السُّنة: 
1- ما في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)).
2- ما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج فحجُّوا))، فقام رجلٌ فقال: "أكل عام يا رسول الله؟"، فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لو قلتُ نعم؛ لوجبت، ولما استطعتم))، ثم قال – صلى الله عليه وسلم -: ((ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمرٍ؛ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا)).
 
وقد أجمع المسلمون على وجوب الحج وفرضيته على مَن استطاع إليه سبيلاً.
2- وجوب العمرة:
أما العمرة، ففي وجوبها في مذهب الإمام أحمد روايتان، هما قولان للعلماء، وهناك رواية ثالثة عندهم:
الرواية الأولى: أن العمرة واجبة: وهي المشهورة عندهم، وهي المذهب، وهي قول الشافعي في المشهور، كما ذكر ذلك النووي.
وأدلة هذا القول هي:
1- قول النبي – صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "يا رسول الله: هل على النساء جهادٌ؟"، قال: ((نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه؛ الحج والعمرة)).
قالوا: وجه الدَّلالة من هذا الحديث: أن ((على)) للوجوب؛ لأنه قال: ((عليهن الحج والعمرة))؛ أي يجب عليهن الحج والعمرة.
2- حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: "يا رسول الله: إن أبي شيخٌ كبير؛ لا يستطيع الحج والعمرة، والظعن؟"، فقال له الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((حُجَّ عن أبيك، واعتمر))؛ وهذا الحديث خرَّجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، وصححه النووي.
ولكن هذا الحديث في الحقيقة لا يدل على الوجوب؛ لأنه ربما أراد هذا أنه: هل يحج عنه تطوعًا أو لا؟ فليس في الحديث ما يدل على الوجوب، لكن حديث عائشة - رضي الله عنها - ظاهر في هذا، والله أعلم. 
 
3- حديث زيد بن ثابت، وحديث جابر: ((الحج والعمرة فريضتان))؛ لكن الحديث ضعيف.
الرواية الثانية: أن العمرة ليست واجبه (مستحبة): واستدل هؤلاء بحديث جابر عند أحمد وابن ماجه والبيهقي، أنه قال: إن أعرابيًا جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - فقال: "أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟"، قال – صلى الله عليه وسلم -: ((لا، وأن تعتمر خيرٌ لك))؛ لكن هذا الحديث ضعيف، وأطال النووي في "المجموع" في بيان ضعفه، وقال الحافظ في "بلوغ المرام": "والراجحُ وَقْفُهُ".
الرواية الثالثة: أنها واجبة؛ إلا على المكي؛ يعني تجب على الأُفُقي دون المكي، ودليل هذه الرواية هو قول ابن عباس - رضي الله عنه -: "يا أهل مكة لا عمرة عليكم؛ إنما عمرتكم طوافكم بالبيت".
 
والظاهر - والله تعالى أعلم - أن العمرة واجبه، وذلك لما يلي:
1- لصحة حديث عائشة - رضي الله عنها - وقوة دَلالته، ولحديث أبي رزين العقيلي المتقدمين.
2- أن أحاديثَ الوجوب ناقلةٌ عن الأصل، وعكسها مُبْقٍ على الأصل، وإذا تعارض – عندنا – حديثان: أحدهما ناقلٌ عن الأصل، والآخر مُبْقٍ على الأصل؛ فإنه يُقدَّم الناقل عن الأصل على المبقي على الأصل؛ فأحاديث الوجوب ناقلة عن الأصل (لأن الأصل براءة الذمة، وعدم الوجوب)؛ فتقدم أحاديث الوجوب.
3- أن الوجوب مُقدَّم على غير الوجوب؛ لأن فيه إبراءً للذمة، ولأن فيه احتياطًا للعبادة؛ فإن الذي يعتمر بنية الفريضة؛ فإنه تبرأ ذمته بإجماع العلماء، وإن مَن اعتمر بنيَّة النَّفْل؛ فإنه لا تبرأ ذمته عند بعض العلماء، الذين يرون الوجوب، وإذا تردد الأمر بين الإجزاء وعدمه؛ فالأَوْلى أن يأتي الإنسان بالأحوط:
وَذُو احْتِيَاطٍ فِي أُمُورِ الدِّينِ        مَنْ فَرَّ مِنْ  شَكٍّ  إِلَى  يَقِينِ
مسألة: إذا لم يُحدِّد النية في العمرة أو الحج؛ هل هي فريضة أو نافلة، فما الحُكْم؟
الجواب: إذا كان لم يؤدِّ الفريضة؛ فهي فريضة. 
أما قول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "في العمر مرة واحدة"، فقد تقدم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو قلتُ نعم؛ لوجبتْ، ولَمَا استطعتم)).
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "على المسلم العاقل البالغ الحر؛ إذا استطاع إليه سبيلاً".
 
شروط الحج خمسة وهي:
1- الإسلام.
2- العقل.
3- البلوغ.
4- الحرية.
5- الاستطاعة.
وهذه الخمسة جمعها عثمان بن قائد النجدي بقوله:
اَلْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ  وَاجِبَانِ        فِي الْعُمْرِ مَرَّةً بِلا تَوَانِي
بِشَرْطِ إِسْلامٍ كَذَا حُرِّيَّهْ        عَقْلٍ بُلُوغٍ  قُدْرَةٍ  جَلِيَّهْ
وسيأتي معنا - إن شاء الله تعالى - شرطٌ سادس في حق المرأة، وهو وجود مَحرَمها.
هذه الشروط الخمسة تقسّم إلى ثلاثة أقسام:
  • القسم الأول: شروط وجوب وصحة.
  • القسم الثاني: شروط وجوب وإجزاء.
  • القسم الثالث: شروط وجوب فقط.
القسم الأول: شروط وجوب وصحة:
وهي الإسلام والعقل؛ يعني لا يجب الحج، ولا يصح من الكافر والمجنون.
لا يصح من المجنون لأنه ليس مكلَّفًا؛ لأن من شرط التكليف: العقل وفَهْم الخطاب، وهذا
لا يَعقِل ولا يَفهَم الخطاب، فكيف يصح منه القصد إلى العبادة؟! والحج عبادة تحتاج إلى نية، وإلى قصد؛ ولقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((رُفِع القلم عن ثلاثة - وذكر منهم - المجنون حتى يعقل)).
والكافر فيه خلاف - تقدم معنا في أكثر من موضع -: هل الكافر مخاطَب بفروع الشريعة أو لا؟ والصحيحُ أنهم مخاطبون بفروع الشريعة؛ بمعنى أنهم يحاسبون عليها في الآخرة، زيادةً على حسابهم وعذابهم؛ لتركهم التوحيد؛ يعني أنهم محاسبون على الصلاة، وعلى الصيام، والزكاة، وصلة الأرحام والبِرِّ...
فلو حجَّ الكافرُ فلا يُقبَل منه؛ لقوله – تعالى -: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
 
القسم الثاني: شروط وجوب وإجزاء:
وهي البلوغ والحرية؛ فالحج لا يجب على الصبي والعبد، ولو حجَّا صح منهما، و لا يجزئ عنهما.
أما كون الحج لا يجب عليهما: فلأن الصبي غير مكلَّف؛ لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((رُفع القلم عن ثلاثة: - وذكر منهم - الصبي حتى يكبر))، ولأن العبد لا مال له، ومِن شرْط الحج: (وجود المال)، فإن كان له مالٌ، فمالُه لسيده، ثم إنه مشغول بخدمة سيده، فلا يجب عليه الحج؛ لكن إن أَذِنَ له السيدُ بالحج صحَّ حجه.
 
أما كون الحج يصح منهما: فالصبي؛ لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لقي ركْبًا بالروحاء، فقال: ((مَنِ القوم؟))، قالوا: "المسلمون"، فقالوا: "مَنْ أنتَ؟" قال: ((أنا رسول الله))، فرفعت إليه امرأة صبيًّا، فقالت: "يا رسول الله، ألهذا حج؟!"، قال: ((نعم، ولكِ أجرٌ))، فهذا دليل على صحة الحج من الصبي.
وأما العبد، فلأنه مكلَّف؛ لذلك يصح منه، وإنما لم يجب عليه تخفيفًا لا تغليظًا.
 
أما كون الحج لا يجزئ عنهما؛ فلما ثبت عند الشافعي والحاكم والبيهقي والطبراني، وصح إسناده موقوفًا ومرفوعًا عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
((أيما صبيٍّ حجَّ ثم بلغ الحِنْث؛ فعليه أن يحج حجةً أُخرى، وأيما عبدٍ حجَّ ثم أُعتق؛ فعليه أن يحج حجةً أُخرى)) فنلاحظ أنه أقر الحج منهما، وأمرهما بحجةٍ أُخرى، فدل على أن الحج لا يجزئ عن الصبي والعبد.
 
عتق العبد، وبلوغ الصبي في الحج له عدة حالات:
  • الحالة الأولى: أن يُعتق العبد، أو يَبلغ الصبي بعد الفراغ من الحج:
    ففي هذه الحالة لا يجزئ عنهما؛ لوجود الحديث، ونقل ابن المنذر والترمذي الإجماعَ على هذا؛ حتى قال الترمذي: "لم يخالف في هذا إلا مَن شذ ممن لا يعتد بخلافهم".
  • الحالة الثانية: أن يُعتق العبد، أو يَبلغ الصبي قبل أن يتلبَّسا بشيء من أفعال الحج:
    ففي هذه الحالة لا إشكال أنهما يُحرِمان، وحجُّهما صحيحٌ، وإذا قلنا إن الحج واجب على الفور؛ فيلزم الصبي الإحرام من حين البلوغ، والعبد من حين العتق.
  • الحالة الثالثة: أن يُعتق العبد، أو يبلغ الصبي، وهو متلبس بالحج: 
    هذه الحالة فيها خلاف بين العلماء: فعند المالكية لا يجزئهما؛ لأن هذه العبادة نَفْل، فلا تنقلب إلى فريضة.
وفي مذهب الحنابلة التفصيل:
1- إن سعى سعيَ الحج قبل الوقوف بعرفة؛ فإنه لا يجزئهما؛ لأن السعي لا يكرر
مرة أخرى.
2- وإن لم يسعَ سعيَ الحج؛ فهنا تحتها ثلاث صور:
الصورة الأولى:أن يكون هذا قبل عرفة، فهذا لا إشكال فيه، ويكون حجه صحيحًا.
الصورة الثانية: أن يكون في وقت عرفة ولم يخرج منها، فهنا حجه صحيح، ويكون مجزئًا عن حجة الفريضة.
الصورة الثالثة: أن يخرج من عرفة، ففي هذه الحالة إذا خرج من عرفة و رجع إليها في الوقت؛ فهذا يجزئه عن حجة الإسلام، وإن لم يرجع لا يجزئه؛ لفوات الوقوف بعرفة؛ لأن الحج
عرفة.
وعمدة هذا ما ورد عن ابن عباس أنه قال: "الصبي إذا بلغ في عرفة، والعبد إذا عتق في عرفة: أنه يجزئهما عن حجة الإسلام، وإذا عتق العبد في جَمْعٍ، أو بلغ الصبي في جمع؛ فإنه لا يجزئهما".
أما عتق العبد وبلوغ الصبي في العمرة:
فإذا كان العتق أو البلوغ في أثناء الطواف؛ فهذا لا يجزئه، وإن حصل قبل الطواف؛ فإنه يجزئه.
القسم الثالث: شروط وجوب فقط:
يعني ليست شروطًا في الصحة، ولا شروطًا في الإجزاء، فعندما نقول: "شروط وجوب"؛ يعني
لا يجب على أصحاب هذا القسم الحج؛ ولكنه يصح منهم، ويجزئ عنهم.
وتحت هذا القسم أمران:
  • الأمر الأول: المَحْرَم في حق المرأة، والمرأة إذا حجَّتْ بغير مَحرَم؛ فإنها آثمة، وحجها صحيح (وسيتكلم المؤلف عن هذا).
  • الأمر الثاني: الاستطاعة، فغير المستطيع إذا تجشم وتكلف الحج؛ فإنه يصح منه،
     
ويجزئ عنه، (وسيتكلم المؤلف عن هذا بالتفصيل).
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"الاستطاعة: أن يجد زادًا وراحلة بآلتهما مما يصلح لمثله، فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء دَيْنه، ومؤونة نفسه وعياله على الدوام".
الدليلُ على أن الاستطاعة شرطٌ قولُه – تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، وقد فسَّر المؤلِّف - رحمه الله تعالى - الاستطاعةَ بوجود الزاد والراحلة، وورد في هذا حديث: ((الاستطاعة: الزاد والراحلة))؛ لكنه ضعيف، والعلماء - رحمهم الله تعالى - قالوا: الاستطاعة إذا أُطلقت؛ تشمل خمسة أشياء:
1- الزاد.
2- الراحلة.
3- إمكان المسير.
4- أمن الطريق.
5- الاستطاعة بالبدن.
1- الزاد: والمراد به: أن يكون عند الإنسان ما يحتاج إليه؛ من طعام وشراب وملبوس، لذهابه إلى الحج وإيابه منه؛ حتى يصل إلى محله.
والمؤلف يقول: "أن يملك زادًا"؛ أي يكون مالكًا له، سواء كان عنده حاصلاً، أو يشتريه من السوق، إذا وجده يُباع بثمن مثله، ولم يجحف بماله، فإذا وجده يُباع بأكثر من ثمن المِثْل، أو يجحف بماله؛ فلا يكون في هذه الحالة مستطيعًا، ومثله مثال الماء، فإذا وجده يُباع بأكثر من ثمن المِثْل، أو وجده يجحف بماله؛ فإنه يتيمم، وكذلك هذا إذا وجد الزاد يُباع بأكثر من ثمن المثل؛ فهذا يكون غير مستطيع.
2- الراحلة: والمراد بها: المركوب الذي يتوصل به الإنسان إلى مكة، سواء كان ذلك بشراء، أو بكراء، وليس شرطًا أن يكون مالكًا له؛ بل لو وجد بأجرة المثل، بحيث لا يجحف بماله؛ فإنه يكون مستطيعًا لذلك؛ لكن هذه الراحلة لا تُشترط في كل أحد:
 
فالناس على قسمين:
القسم الأول: بعيد عن مكة:
و هو الذي بينه وبين مكة مسافة القصر؛ فهذا يشترط في حقه وجود الراحلة.
القسم الثاني: قريب من مكة:
وهو مَن كان ساكنًا في مكة، أو بينه وبينها أقل من مسافة القصر، فهنا ننظر:
إن كان ممن يستطيع المشي: فإنه لا يُشترط الراحلة في حقه، ولذا يُلغز بهذه المسألة فيقال: فقيرٌ لا يجد راحلة، فيجب عليه الحج، مَن هو؟ هو القريب من مكة، الذي يستطيع المشي. وأما إن كان لا يستطيع المشي: فيشترط في حقه وجود الراحلة.
وقول المؤلف: "مما يصلح لمثله". 
 
يعني أن يجد الراحلة الصالحة لمثله، بحيث يستطيع أداء الحج بها، من غير مشقة زائدة، فلو وجد سيارة يشق عليه ركوبها، أو طول مدة السفر فيها، ووجد طائرة لا يشق عليه السفر فيها، فالطائرة صالحة لمثله، وكذلك الحال في سيارة مكيفة وأخرى غير مكيفة، وكذلك لو وجد - مثلاً - سيارة بثمن زائد عن ثمن المثل؛ كأن يجد - مثلاً - سيارة بألف ريال، والذي يصلح له - مثلاً - سيارة بمائة ريال، فهذا لم يجد ما يصلح لمثله؛ فلا يجب عليه الحج بهذا.
وقوله: "بآلتهما".
يعني آلة الزاد والراحلة؛ فآلة الزاد: الوعاء الذي يطبخ فيه أو يشرب فيه، وآلة الراحلة: ما يوضع عليها من هودج ونحوه.
وقوله: "فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء دَيْنه، ومؤونة نفسه وعياله على الدوام".
نفهم من هذا أن الزاد والراحلة لهما شرطان:
الشرط الأول: أن تكون صالحة لمثله: تقدم توضيح ذلك.
الشرط الثاني: أن يكون ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه؛ من مسكن، وخادم، وقضاء دينه، ومؤنته ومؤنة عياله على الدوام، وضرب المؤلف لهذا عدة صور:
الصورة الأولى: أن يستطيع أن يشتري زادًا وراحلة؛ لكنه لا يستطيع ذلك إلا إذا باع مسكنه؛ فهذا ليس فاضلاً عن المسكن، فلا يبيع مسكنه.
الصورة الثانية:
أن يكون عنده خادم يحتاج إليه، ولا يستطيع أن يحصِّل الزاد والراحلة
إلا بترك هذا الخادم، فهنا يقال له: لا تترك خادمك؛ لأن هذا ليس فاضلاً.
 
الصورة الثالثة:
الدَّيْن الذي يمنع الحج، هو الدين الذي لا يبقى بعده الإنسان مستطيعًا للحج، 
فلو فُرض أن إنسانًا يكفيه لحجِّه خمسةُ آلاف، وعنده ثمانية آلاف وعليه ستة آلاف دَيْن، فهذه الستة تنقص الثمانية فتصبح ألفَيْن، فلا تكفي لحجه؛ فهذا غير مستطيع، فعليه أن يقضي الدَّيْن؛ لأن الدَّيْن أحق وآكد من الحج؛ لتعلقه بحقوق الآدميين، ولذا قُدِّم الدَّيْن على وجوب الزكاة، فهو مانع من وجوب الزكاة، مع تعلق حق الفقراء بها ومع حاجتهم إليها؛ فلأن يُقدَّم على الحج - الذي هو حق خالص لله عز وجل - من باب أولى، وسواء في ذلك الدَّيْن لآدمي معين، أو من حقوق الله – تعالى - كالزكاة أو الكفارات.. أي أن يجد ما يزيد عن قضاء دينه؛ لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية، ويتعلق به حقوق الآدميين؛ فهو آكد.
 
الصورة الرابعة: مؤنته ومؤنة عياله على الدوام:
 أي يذهب إلى الحج ويرجع، وعند عياله ما يكفيهم، وسواء كانت هذه المؤنة عينية، أو أشياء مستثمرة؛ كأن يكون عنده محل تجاري، فيبيعه ويحج به، فهذا ليس فاضلاً عن مؤنة عياله؛ لأن نفقته ونفقة عياله على هذا المتجر.
وعبارة المؤلف هذه أولى منها ما في "الزاد" و"التنقيح" وغيره أنه قال: "والقادر: مَن أمكنه الركوب، ووجد زادًا وراحلة صالحين لمثله، بعد قضاء الواجبات والنفقات الشرعية، والحوائج الأصلية".
"بعد قضاء الواجبات": كالديون، سواء كانت لله أو لعباده.
 
"النفقات الشرعية": أي نفقته ونفقة عياله ومَن يعوله.
"الحوائج الأصلية": كالمسكن والمركوب وكتب العلم...
3- أمن الطريق: أي أن يكون الطريق مأمؤنًا؛ لا يخاف الإنسان فيه لا على نفسه، ولا على ماله، ولا على عرضه، ولا يوجد فيه خفارة (وهو ما يدفع من مال؛ مثل الضرائب وغيرها). أما إذا كان الطريق مخوفًا؛ يخاف الإنسان فيه من سبُع، أو من عدو؛ فإنه لا يجب عليه الحج.
والخفارة محل خلاف بين العلماء: فبعضهم قال: لا يدفع رشوة في العبادة فلا تصح، وبعضهم قال: إن كانت هذه الخفارة يسيرة، لا تضر بماله؛ فيدفعها، وهذا هو الظاهر. 
 
4- إمكان المسير: وهو اتساع الوقت؛ أي أن يكون هناك وقت كافٍ للوصول إلى مكة بسير معتاد، أما لو وجد الزاد والراحلة، ولم يبقَ من وقت الحج ما يوصله إلى مكة؛ إلا بسير يخرج عن العادة ويخرج عن المألوف، فهنا لا يجب عليه الحج؛ لأن السير إذا كان فوق المعتاد، ففيه مشقة وإجهاد.
وهذان الأخيران (أمن الطريق، وإمكان المسير)، مِن الحنابلة مَن عدَّهما من شروط وجوب الحج، فلا يجب على الإنسان الحج؛ إلا إن كان الطريق مأمونًا، وأمكن المسير إلى الحج، بحيث يكون هناك وقت يكفي لوصوله إلى مكة، فإن مات لا شيء عليه.
ومنهم مَن قال: إن هذين الشرطين (أمن الطريق، وإمكان المسير) ليسا من شروط
الوجوب؛ بل هما شرطا أداء، يعني يجب الحج في ذمته؛ أي أنه لو اكتملت عنده بقيت الشروط ولم يبقَ عنده إلا أمن الطريق و إمكان المسير؛ فإن الحج يجب في ذمته، بحيث لو مات يجب الحج في التركة، يعني يستقر الحج في ذمته، وإذا مات أُخرج من التركة ما يُحج به عنه.
والظاهر - والله تعالى أعلم - أنهما شرط في الوجوب.
 
5- الاستطاعة بالبدن: بحيث يكون عند الإنسان قوة، يستطيع أن يَثْبُتَ بها على الراحلة، فإذا كانت ليست عنده قوة، يستطيع أن يثبت بها على الراحلة؛ فهنا لا يجب عليه الحج بنفسه.
إذًا الاستطاعة عندنا نوعان:
  • النوع الأول: استطاعة بنفسه؛ أي مباشرة الحج بنفسه: فهذه يشترط فيها الشروط الخمسة السابقة.
  • النوع الثاني: استطاعة بالغير؛ أي أداء الحج بالغير: وهذا يشترط فيه شرطان:
الشرط الأول: أن يكون عاجزًا عن الحج؛ لكبره أو مرض لا يرجى برؤه، ودليل هذا حديث ابن عباس في المرأة التي جاءت للنبي – صلى الله عليه وسلم - فقالت: "يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفحج عنه؟"، قال: ((حجي عنه))، فهذا دليل على صحة النيابة عن العاجز.
الشرط الثاني: أن يوجد عند العاجز مالٌ، يستطيع بهذا المال أن يقيم مَن يحج عنه، فيدفع عنه ثمن الزاد والراحلة، ويدفع له نفقة الحج.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويشترط للمرأة وجود مَحرَمها، وهو زوجها، ومَن تَحرُم عليه على التأبيد؛ بنسب أو بسبب مباح".
هذا هو الشرط السادس (شرط وجوب) من شروط الحج، يختص بالمرأة، وهو: أن يكون لها مَحرَم، وهذا المحرم هو: زوجها، ومَن تحرم عليه على التأبيد؛ بنسب أو سببٍ مباح:

1- مَن تَحرُم عليه على التأبيد:
والمُحرَّمات على التأبيد سبْعٌ، كما في قوله - تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23]. 
أُمهاتكم: أي أن الولد مَحرَم لأمه.
بناتكم: أي أن الأب محرم لبنته.
أخواتكم: أي أن الأخ محرم لأخته.
عماتكم: أي أن ابن الأخ محرم لعمته.
خالاتكم: أي ابن الأخت محرم لخالته.
بنات الأخ: أي أن العم محرم لبنت أخيه.
بنات الأخت: أي أن الخال محرم لبنت أخته.
 
2- مَن تحرم عليه بسبب مباح: وهذا تحته أمران:
الأمر الأول: بسبب الرضاع:
ويحرم مَن الرضاع ما يحرم من النسب؛ أي ما يقابل هؤلاء المحرمات على التأبيد.
الأمر الثاني: بسبب المصاهرة:
وهن أربع:
1- زوجة الأب، فالابن محرم لزوجة أبيه.
2- زوجة الابن، فالأب محرم لزوجة ابنه.
3- أم الزوجة، فزوج البنت محرم لأمها.
4- بنت الزوجة إذا دخل بأمها، فزوج الأم محرم للبنت.
 
ويشترط في المَحْرَم:
1- أن يكون بالغًا.
2- أن يكون عاقلاً؛ فلا يكون صبيًّا، ولا مجنونًا؛ لأن المقصود من المَحْرَم هو حفظ المرأة، والصبي والمجنون لا يستطيع أن يحفظها. 
والدليل على اشتراط المحرم ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يخطب، يقول: ((لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة؛ إلا ومعها ذو محرَم، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم))، فقام رجلٌ فقال: "يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّةً، وإني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا؟"، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((انطلق، فحجَّ مع امرأتك)).
إذًا هذا دليل على أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر؛ إلا ومعها ذو محرم، ولا يجب عليها الحج إذا لم تجد مَحرَمًا.
 
وبذلك يُعلَم خطأ أولئك الذين يأتون بالخادمات، ويسلمونهن لمكاتب تحجيج الخادمات، ولا يوجد محرم معهن، فإن هذا ليس بصحيح، وإن كان بعض العلماء يرى: أن المرأة تحج مع النساء المأمونات، فإن هذا ليس بصحيح؛ لأنه يخالف حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم - ولا حجة لأحد مع سُنة النبي، صلى الله عليه وسلم.
وهذا الشرط هو شرط وجوب؛ بمعنى أن المرأة لو ماتت ولم تجد مَحْرَمًا [ولم تحج]؛ لا شيء عليها.
وعلى القول الثاني أن المَحْرَم من شروط لزوم الأداء؛ أنها لو تحقق لها جميع الشروط، ولم تجد مَحْرَمًا تحج معه فماتت؛ فإنه يُحَج عنها، ويكون الحج في الذمة؛ أي يؤخذ من مالها.
و إن مات المَحْرَم في الطريق، وقد تباعدت عن بلدها؛ فإنها تتم؛ لأنها لا بد لها من السفر بدون مَحْرَم، فتكمل حاجتها وشأنها، وإن كانت قريبه؛ رجعت، فتكون كالمحصرة.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فمَن فرَّط حتى مات؛ أُخرج عنه من ماله حجة وعمرة". 
يعني مَن فرَّط في الحج والعمرة بعد اكتمال الشروط، ولم يحج، وليس له عذر؛ فإنه يُحج عنه مِن تَرِكَتِه؛ لأن هذا دَيْنٌ لله يجب أن يُخرج كبقية الديون المتعلقة بالتركة، فيُقدَّم على الوصية وعلى الإرث، والدليل على ذلك كما في الصحيح من حديث ابن عباس: أن امرأةً جاءت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقالت: "يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟"، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((نعم، حجي عن أمِّك؛ أريتِ لو كان على أُمِّكِ دَيْن أكنتِ قاضيته؟))، قالت: "نعم"، فقال: ((فاقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء))، هذا في النذر، وفي الفريضة من باب أَوْلى.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ولا يصح من كافر ولا مجنون، ويصح من الصبي والعبد ولا يجزئ عنهما [يعني عن حج الفريضة]، ويصح من غير المستطيع والمرأة بغير مَحرَم".
تقدم الكلام عن هذا كله في الشروط.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ومَن حج عن غيره، ولم يكن حج عن نفسه أو نذره أو عن نفله، وفَعَلَه قبل حجة الإسلام؛
وقع حجه عن فرض نفسه دون غيره".
 
أي إذا حج الإنسان عن غيره، ولم يكن حج عن نفسه؛ فهذا الحج ينقلب إلى حج الفريضة، فلو أن شخصًا قال لشخص: حُجَّ عني، فحَجَّ عنه، ولم يكن هذا النائب قد حج عن نفسه؛ فإن هذه الحجة تنقلب إلى حجة الفريضة عن هذا النائب، وعلى النائب أن يرد ما أخذ إذا أخذ شيئًا، والدليل على ذلك حديث ابن عباس: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: "لبيك عن شُبْرُمَةَ"، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ومَن شبرمة؟))، قال: "أخٌ أو قريبٌ لي"، قال: ((هل حججت عن نفسك؟)) قال: "لا"، قال: ((حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة))؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وصحح البيهقي إسناده، والإمام أحمد وَقْفَه.
قال العلماء: هذا دليل على أنه يجب على الإنسان أن يحج عن نفسه أولاً؛ فقد ورد في بعض الروايات أنه قال: ((هذه عنك، ثم حج عن شبرمة)). 
وإذا نذر أن يحج وهو لم يؤدِّ الفريضة؛ فإنه إذا أحرم بهذه الحجة التي نذرها؛ فإنها تنقلب إلى حجة الفريضة، وإذا أراد أن يتنفَّل بالحجة، وهو لم يحج حجَّ الفريضةِ؛ فإنها تنقلب أيضًا إلى حجة الفريضة.
 
باب المواقيت 
المواقيت: جمع ميقات، والميقات هو الحد المعين.
والمراد بالمواقيت: المواضع والأزمنة التي حددها الشارع للإحرام.
والمواقيت على قسمين: مواقيت مكانية، ومواقيت زمانية.
والمؤلف - رحمه الله تعالى - تكلم عن هذين القسمين في هذا الباب:
المواقيت المكانية: 
قال المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وميقات أهل المدينة: ذو الحليفة، وأهل الشام والمغرب ومصر: الجحفة، واليمن: يلملم
ولنجد: قرن، وللمشرق: ذات عرق".
 
هذه المواقيت الأصل فيها:
1- ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: "أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفةَ، ولأهل نجد قرنَ المنازل، ولأَهل اليمن يلملمَ، وقال: ((هُنَّ لهُن، ولمَن أتى عليهن مِن غير أهلهن ممن أراد الحجَّ أو العمرة، ومَن كان دون ذلك فمِن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة))، فهذا الحديث أصلٌ عظيمٌ في المواقيت.
2- ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُهلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قَرْنٍ)). قال عبدالله: وبلغني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((ويُهلُّ أهل اليمن من يلملم)).
فهذه المواقيت التي ذكرها المؤلف - رحمه الله تعالى - وردت في هذين الحديثين، وأما ذات عرق سيأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى.
 
الميقات الأول: ذو الحليفة: 
الحليفة: تصغير الحلفة وهو نبات، سميت بذلك لكثرته فيها، وهي أبعد المواقيت عن مكة، وتعرف الآن: (بآبار علي)، ويبعد هذا الميقات عن مكة عشرة مراحل، وهو ميقات أهل المدينة. 
والمراد بالمدينة في كلام المؤلف: مدينة الرسول – صلى الله عليه وسلم - لأن هذا الإطلاق ينصرف إليها، والألف واللام فيها للعهد.
 
الميقات الثاني: الجحفة: 
وسميت بالجحفة؛ لأن السيول اجتحفتها أو أجحفتها، وتسمى مَهْيَعَة على وزن علقمة، أو مَهِيعة على وزن لطيفة؛ لكنّ الأول أرجح، وهي الآن قرية خربة بقرب رابغ، والناس لا يحرمون منها، وإنما يحرمون من رابغ بدلاً منها، وتبعد عن مكة بأربع مراحل، والبعض يرى أنها تبعد ست مراحل، والصواب أنها تبعد عن مكة ما يقارب أربع مراحل.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "الجحفة: ميقات أهل الشام والمغرب ومصر"؛ أما الشام ومصر فبنص الحديث، فقد جاء عند النسائي من حديث عائشة: "وقَّت النبي – صلى الله عليه وسلم - لأهل الشام ومصر الجحفة))؛ لكن المؤلف - رحمه الله تعالى - أراد أن يعطيك حُكْمًا عامًّا، فكل مَن أتى من أهل المغرب أو غيره عن طريق الشام، فميقاته الجحفة، فكل من لا يمر بميقات ذي الحليفة، سواء كان من جهة شمال الجزيرة أو من غربها، فإن ميقاته الجحفة إذا مَرَّ بها.
 
الميقات الثالث: قرن المنازل: 
ويبعد مرحلتين عن مكة، ويعرف الآن بالسيل الكبير، وهو ميقات أهل نجد وكل مَن جاء من تلك الناحية.
 
الميقات الرابع: يلملم: 
ويقال أيضًا: ألملم، أصل يلملم هي بالهمزة (ألملم)؛ لكنها قُلبت ياءً للتخفيف، وتعرف الآن بالسعدية، وهو ميقات أهل اليمن، وهي على مرحلتين من مكة تقريبًا.
و المرحلة تقارب 40 كم إلى 45 كم تقريبًا، وهي مسيرة يوم وليلة. ولذا قال بعضهم:
قَرْنٌ  يَلَمْلَمُ  ذَاتُ  عِرْقٍ  كُلُّهَا        فِي الْبُعْدِ مَرْحَلَتَانِ مِنْ أُمِّ الْقُرَى
وَلِذِي الْحُلَيْفَةِ بِالْمَرَاحِلِ عَشْرَةٌ        وَبِهَا لِجُحْفَةَ أَرْبَعٌ  فَاخْبِرْ  تَرَى
الميقات الخامس: ذات عِرْق: 
سميت بذلك لعرق فيها، والعرق هو الجبل الصغير، وموقعها هو: الحد الفاصل بين تهامة ونجد، وتعرف الآن بالضَّرِيبَة، والعلماء - رحمهم الله تعالى - اختلفوا في ذات عرق: مَن وَقَّتَها؟ هل وقَّتها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أو وقَّتها عمر - رضي الله عنه -؟!
فمن العلماء مَن قال: وقَّتَها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وذلك:
1- لما في صحيح مسلم من حديث أبي الزبير قال: سمعت جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - يُسأل عن المُهَلِّ؟ فقال: سمعت - أحسبه رفع الحديث إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال: ((مُهَلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومُهَلُّ أهل العراق من ذات عِرْقٍ، ومُهَلُّ أهل نجد من قَرْن، ومُهَلُّ أهل اليمن من يلملم)).
 
فهذا الحديث يُشعر بأن النبي – صلى الله عليه وسلم - هو الذي وقَّت لهم ذلك.
وقوله: ((مُهَلُّ))؛ أي محل إهلاله بالحج، وأصل الإهلال هو رفع الصوت بالتلبية، ثم تُوسع فيه وأُطلق على الإحرام.
2- لما جاء في سنن أبي داود والنسائي من حديث عائشة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((وقَّت لأهل العراق ذات عِرْق)).
وقال بعض العلماء: بل وقَّتها عمر - رضي الله عنه - وذلك:
لما في صحيح البخاري من حديث ابن عمر أنه قال: "لما فُتح هذان المصران (الكوفة والبصرة) أتوا إلى عمر - رضي الله عنه - فقالوا: "يا أمير المؤمنين: إن الرسول – صلى الله عليه وسلم - وقَّت لأهل نجد قرنًا، وهو جورٌ عن طريقنا، وإنا إنْ أردنا قرنًا شَقَّ علينا!"، فقال لهم عمر - رضي الله عنه -: "انظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق".
 
والخطب في هذا سهل لا يترتب عليه أثر فقهي؛ لأنه ربما يقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - هو الذي وقَّته، وإن عمر - رضي الله عنه - اجتهد في ذلك، فوافق اجتهاده ما قاله النبي – صلى الله عليه وسلم - لأنه كان موفَّقًا للصواب في اجتهاداته، وقد وافق القرآن في كثير من أحكامه.
فكل مَن جاء من المشرق، سواء كان من جهة خُرسان، أو من جهة العراق، أو غيرهم من أهل المشرق؛ فميقاتهم ذات عرق، الذي حدده النبي – صلى الله عليه وسلم - أو عمر - رضي الله عنه - على الخلاف المشهور. 
هذه المواقيت جمعها بعضهم في بيتين فقال:
عِرْقُ  الْعِرَاقِ  يَلَمْلَمُ  الْيَمَنِ        وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ يُحْرِمُ الْمَدَنِي
لِلشَّامِ جُحْفَةُ إِنْ مَرَرْتَ  بِهَا        وَلِأَهْلِ  نَجْدٍ  قَرْنُ   فَاسْتَبِنِ
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فهذه المواقيت لأهلها، ولكل مَن يمر عليها".
أي هذه المواقيت هي لأهلها الذين ذكرهم المؤلف - رحمه الله تعالى -:
فذي الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب، ويلملم لأهل اليمن، ولأهل نجد قرن، وذات عرق لأهل المشرق. فهذه المواقيت لأهلها، ومَن مر عليها من غير أهلها؛ لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((هنّ لهنَّ ولمَن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج أو العمرة))، فالشامي مثلاً: إذا مر بميقات ذي الحليفة، فإنه يُحرم منه، ولا يؤخر إحرامه إلى الجحفة، مع أن الميقات الأصلي له هو الجحفة، كذلك النجدي إذا مرَّ بذي الحليفة، فإنه يُحرِم منها ولا يرجع إلى ميقاته، الذي هو قرن المنازل... وهكذا.
 
فكل مَن أتى على ميقات؛ فإنه يحرم منه ولا يتجاوزه إلا مُحرِمًا، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء، رحمهم الله تعالى.
وقال بعض العلماء: إذا جاء الشامي عن طريق المدينة، فإن له أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة؛ لأن ميقاته الأصلي الجحفة، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، واختاره شيخ الإسلام.
والقول الصحيح هو: أن مَن أتى على الميقات، فإنه يجب أن يُحرِم منه، وليس له أن يؤخر الإحرام إلى ميقاته الأصلي؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج أو العمرة)).
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ومَن منزلُه دون الميقات، فميقاتُه من منزله".
أي مَن كان دون الميقات، فهذا يُهِلُّ من أهله، أي يُحرِم من بلده الذي هو فيه، ويحرم من منزله الذي هو فيه؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ومَن كان دون ذلك، فمِن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة))، وفي لفظ أنه قال: ((ومَن كان دون ذلك فمُهَلُّهُ من أهله، وكذلك حتى أهلُ مكة))، فالذي دون الميقات يُحرِم من أهله، ومن أمثلة من دون الميقات: أهل عسفان، أو خليص أو بحرة، أو جدة... أو غير ذلك ممن كان داخل المواقيت، هؤلاء يُحرِمون من بلدتهم.
 
قال العلماء: مَن كان دون الميقات، إن كان في مسكنٍ وحده، فإن ميقاته هو نفس مسكنه، ويُحرِم من بيته، وإن كان في بلدة أو في قرية أو في مدينة، فإن كل القرية هي ميقات له؛ فله أن يُحرِم من أي جهاتها شاء.
وبعضهم يقول: يُحرِم من الجانب الأبعد عن مكة؛ حتى يكون أعظم لأجره، ولكن ليس في هذا دليل، والله أعلم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى-:
"حتى أهل مكة يُهِلُّون منها لحجهم، ويهلون للعمرة من أدنى الحل".
 
أي أن أهلُ مكة يهلون أو يحرِمون للحج من مكة؛ لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((حتى أهلُ مكة من مكة)).
والمقصود بأهل مكة: مَن كان بها، سواء كان مقيمًا بها أو جاء إليها زائرًا، فليس شرطًا أن يكون مقيمًا بها، فالمُتَمَتِّع إذا أتى بعمرة، وأراد أن يُحرِم بالحج؛ يُحرِم من نفس مكة، كما فعل أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر - رضي الله عنه - كما في صحيح مسلم: "أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يُهلُّوا من الأبطح". فأهل مكة من مكة، وأهل الحرم من الحرم.
لكنهم إذا أرادوا الإحرام للعمرة يخرجون إلى أدنى الحل، والدليل على هذا: "أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر عبدالرحمن بن أبي بكر أن يُعمر أُخته عائشة من التنعيم".
 
فأمره أن يخرج بها إلى الحل؛ حتى تأتي بالعمرة، ولو كان يجوز الإحرام للعمرة من الحرم، لما كلفها النبي – صلى الله عليه وسلم - هذه المشقة والتعب، حتى تُحرم من الحل، ثم ترجع وتطوف بالبيت، وهذا هو الصحيح. 
وقال بعض العلماء: إن حديث ابن عباس عام؛ لأنه قال: ((ممن أراد الحج أو العمرة... حتى أهل مكة يهلون من مكة))؛ لكن الظاهر - والله تعالى أعلم -: أن هذا - وإن كان عامًّا - فهو مخصص بأمر النبي – صلى الله عليه وسلم - لعبدالرحمن.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ومَن لم يكن طريقه على ميقات، فميقاته حذو أقربها إليه".
 
أي مَن أراد الحج أو العمرة ولم يأتِ على ميقات؛ كإنسان سلك طريقًا ليس أمامه ميقات، فمِن أين يُحرِم؟ هذا يُحرِم من حذو الميقات؛ فإنه إذا وازى الميقات المحدَّد شرعًا، فإنه يُحرِم بمحاذاته، كإنسان يأتي من البحر فإذا حاذى الجحفة فإنه يُحرِم، والدليل على اعتبار
المحاذاة: أن عمر - رضي الله عنه - قال لأهل العراق لما جاؤوه: "انظروا حذوها من
طريقكم"؛ أي انظروا ما يقابلها من طريقكم حتى تُحرِموا منه، وهذا هو الدليل لما يفتي به العلماء على أن مَن كان في طائرة، فإنه يُحرِم من الجو إذا حاذى الميقات، وكذلك مَن كان في سفينة في البحر، فإنه يُحرِم إذا حاذى الميقات، هذا إذا كان يعرف حذو الميقات.
مسألة: لو أن إنسانًا سلك طريقًا ليس فيه ميقات، ولا يعرف حذو الميقات، فماذا يفعل؟!
الجواب: يُحرِم قبل الميقات بكثير؛ حتى يتيقن أنه حاذى الميقات وهو مُحرِم، فمثلاً إذا ركب الطائرة، وكانت لا تعلن الطائرة إذا حاذت الميقات، فإنه يُحرِم إذا صعد إلى الطائرة.
 
خلاصة المسائل السابقة: 
أن الناس على قسمين:
  • القسم الأول: مَنْ كان خارج المواقيت: فهذا له حالتان:
  • الحالة الأولى: أن يمر بميقات، فهذا يُحرِم من الميقات، سواء كان ميقاته الأصلي أو غير
ميقاته.
الحالة الثانية: لا يمر بميقات، فهذا يُحرِم إذا حاذى الميقات.
القسم الثاني: مَنْ كان داخل المواقيت: فهذا أيضًا له حالتان:
الحالة الأولى: إذا كان من أهل الحرم، فإنه يُحرِم من الحرم للحج، ويُحرم للعمرة من الحل؛ حتى يجمع في إحرامه بين الحل والحرم. 
الحالة الثانية: أن يكون بين الحرم وبين المواقيت، فإنه يُحرم من أهله، كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوزُ الميقات غيرَ مُحرِم؛ إلا لقتال مباح، وحاجةٍ متكررة؛ كالحطّاب ونحوه".
 
هذه المسألة فيها تفصيل:
مَن تجاوز الميقات له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يتجاوز الميقات وهو لا يريد الحرم؛ بل يريد غيره، كإنسان تجاوز الميقات، ولكنه لا يريد الحرم؛ بل يريد الفريش أو بدر أو جدة، فهذا لا يلزمه إحرام بإجماع العلماء.
الحالة الثانية: إذا كان يريد الحرم، ويريد حجًّا أو عمرة، فهذا يلزمه الإحرام بإجماع العلماء؛
لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((ممن أراد الحج أو العمرة))، فهذا أراد الحج والعمرة، فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات إلا مُحرِمًا.
الحالة الثالثة: أن يتجاوز الميقات وهو يُريد الحرم، ولا يريد نسكًا؛ كإنسان أراد مكة، أو أراد الحرم فأراد مِنى أو مزدلفة؛ لكنه لا يريد حجًّا ولا عمرة، فهذا تحته ثلاثة أقسام:
 
القسم الأول: مَن دخل لقتال مباح (القتال بمكة لم يُبَحْ إلا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - في ساعةٍ من نهار، ثم عادت إلى مكة حرمتها إلى يوم القيامة)، أو لحاجةٍ متكررة؛ كالذين يدخلون بالخضار مثلاً أو بالمواد الغذائية، أو الحطَّاب، أو صاحب البريد، أو موظف بوظيفة فكل يوم يدخل مكة، فهؤلاء أصحاب حاجة متكررة، لا يلزمهم إحرام في المذهب، وبعضهم يحكي الإجماع على ذلك؛ لأن في ذلك مشقة، ولا حرج في الدين، ولأن النبي – صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وعلى رأسه المِغْفَر، فدل على أنه ليس بمُحرِم.
 
القسم الثاني: مَن أراد الحرم؛ لكنه غير مكلَّف كالصبي والمجنون، أو مَن لا يجب عليه الحج؛ كالعبد مثلاً، فهؤلاء لا يلزمهم إحرام.
القسم الثالث: المكلَّف إذا أراد دخول الحرم لغير قتال مباح أو حاجةٍ متكررة؛ كشخص ذهب لعرس أو زيارة أقاربه، فهذا هو محل الخلاف:
ففي رواية في المذهب: مثل هذا الشخص لا بد أن يُحرِم، وهي التي يرجحها المؤلف هنا. 
والصحيح: أنه لا يجب عليه الإحرام ولا يلزمه؛ كالقسمين السابقين؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عباس قال: ((هنّ لهنّ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج أو العمرة)). فمفهوم هذا أن مَن لم يُردْ حجًّا ولا عمرة أنه لا يلزمه الإحرامُ.
 
إذًا عندنا في هذه المسألة طرفان، ووسط:
الطرف الأول: مَن كان لا يريد الحرم، ولا يريد حجًّا ولا عمرة، فهذا لا يلزمه الإحرام بالإجماع.
الطرف الثاني: مَن كان يريد الحرم، ويريد نسكًا، فبالإجماع يلزمه الإحرام.
الوسط: وهو الذي يريد الحرم، ولا يريد نسكًا، فهذا فيه الخلاف.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ثم إذا أراد النسك أحرم من موضعه".
يعني إنسان تجاوز الميقات، وهو لا يريد حجًّا ولا عمرة، فلما تجاوز الميقات بدا له أن يأتي بعمرة أو أن يحج، فهذا يُحرِم مِن موضعه من حيث أنشأ؛ أي من حيث طرأتْ عليه نية الحج أو نية العمرة، ولا شيء عليه.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وإن جاوزه غيرَ مُحرِمٍ رَجَعَ فأحرم من الميقات، ولا دم عليه؛ لأنه أحرم من ميقاته، فإن أحرم من دونه، فعليه دم، سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع".
هذا التفصيل في هذه الجملة فيمَن: أراد الحج أو العمرة وتجاوز الميقات ولم يُحرِم منه، فهذا له حالتان كما ذكر المؤلف:
الحالة الأولى: أن يرجع إلى الميقات قبل أن يُحرِم؛ كإنسان من المدينة أراد العمرة، فلما وصل إلى مركز التفتيش مثلاً، تَذَكَّر أنه تجاوز الميقات، فهذا إن رجع ولم يتلبَّس بالإحرام؛ أي لم ينوِ نية الدخول في النسك (ليس الإحرام هو لبس ثياب الإحرام؛ بل الإحرام هو نية الدخول في النسك)، فإذا رجع إلى ذي الحليفة وأحرم منها؛ لا شيء عليه؛ لأنه أحرم من الميقات.
الحالة الثانية: أن يُحرِم من موضعه الذي هو فيه: فهذا عليه دم، رجع أم لم يرجع، وإذا رجع لا يجزئ عنه الرجوع، وعليه دم؛ لأنه ترك نُسكًا، وقد استقر الدم في ذمته، فلا يسقط عنه، ولأنه عقد النية فلا تنتقض هذه النية التي عقدها. 
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات، فإن فعل فهو مُحرِم".
أي ما حُكْم مَن أحرم قبل الميقات؟ هل يَحْرُم عليه أو يُكرَه له؟ وإذا قلنا بالتحريم، هل يصح إحرامه أو لا يصح؟
يقول المؤلف: "الأفضل أنه لا يحرِم قبل الميقات، وإن أحرم انعقد إحرامه، وإحرامه صحيح".
مسألة: لماذا مِن الأفضل أن لا يُحرِم من قبل الميقات؟
الجواب: لأمرين:
الأمر الأول: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لم يحرم إلا من الميقات، والرسول – صلى الله عليه وسلم - لا يختار إلا الأفضل والأكمل، وأكملُ الهدي وخير الهدي هديُ نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم.
 
فالأفضل ألا يحرم إلا من الميقات، كما فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، ولذا ذُكر عن الإمام مالك - رحمه الله تعالى -: أن رجلاً جاء إليه فقال الرجل: مِن أين أُحرم؟ قال من الميقات، قال: أريت إن أحرمت قبل الميقات؟ قال: أكره لك ذلك، قال: وما تكره؟! قال: أخشى عليك الفتنة، قال: وأي فتنة؟! قال: قوله – تعالى -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، فتقول: قد اختصني الله بما لم يختص به رسوله – صلى الله عليه وسلم - أو فعلتُ فعلاً أفضل من فعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن الإنسان إذا أحرم قبل الميقات، فإنه يحمِّل نفسه مسؤولية، ويُضيِّق على نفسه واسعًا، فإنه ربما يأتي بمحظور، فينبغي له أن يستمتع بحله ما استطاع، ولا يضيِّق على نفسه؛ لأنه ربما يُحرِم قبل الميقات، ويرتكب محظورًا، فيأثم ويلزمه ما يلزم مَن ارتكب محظورًا.
أما إجزاء الإحرام وانعقاد الإحرام، فهذا بإجماع العلماء، ونقل الإجماع ابن المنذر، والنووي في "المجموع" وابن قدامه في "المغني"، وإن كان هناك مَنْ يحكي خلافًا عن الظاهرية؛ أنه لا يجزئ لو أحرم قبل الميقات.
 
المواقيت الزمانية:
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة". 
أشهر الحج عند الحنابلة هي شهران وعشرة أيام: شوال وذو القعدة وعشرة أيام ذي الحجة، فعندهم أن يوم النحر داخل في أشهر الحج؛ لأنه هو يوم الحج الأكبر، وهو الذي فيه أكثر أعمال الحج؛ من الرمي والطواف والحلق والذبح.
وعند الشافعية هي: شوال وذو القعدة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، فعندهم ليس يوم النحر من أشهر الحج المذكورة.
وعند المالكية أن أشهُر الحج ثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة كاملاً.
والصحيح - والله تعالى أعلم -: أن أشهر الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كاملاً؛ لأن الله - عز وجل - قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وهذا جمع، وأقل الجمع ثلاثة.
 
والذي ينبني على الخلاف في أشهر الحج هو تأخير طواف الإفاضة.
والمشهور في مذهب الحنابلة أنه لو أحرم قبل أشهر الحج، فإحرامه صحيح، إن بقي على إحرامه.
أما العمرة فليس لها ميقات زماني؛ فكلُّ السَّنة وقت للعمرة، والميقات الزماني يختص بالحج دون العمرة.
 
باب الإحرام 
الإحرام في اللغة: مصدر أحرمَ، إذا دخل في التحريم؛ كأشتى إذا دخل في الشتاء، أو أربع إذا دخل في الربيع، أو أنجد إذا دخل نجدًا... وهكذا.
وفي الاصطلاح: هو نية الدخول في النسك (سواء كان حجًّا أو عمرة). وليس الإحرام هو لبس ثياب الإحرام، وليس الإحرام هو مجرد الإرادة؛ ولكنه نية الدخول في النسك.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"مَن أراد الإحرام استُحب له أن يغتسل ويتنظف ويتطيب، ويتجرد عن المخيط، ويلبس إزارًا ورداءً أبيضين نظيفين، ثم يصلي ركعتين ويحرم عقيبهما".
ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - ستة أمور تستحب عند الإحرام، وهي:
الأمر الأول: الاغتسال: 
فهو كالاغتسال للجنابة تمامًا من حيث الصفة، وهذا الاغتسال يُسَنُّ لكل مَن أراد الإحرام، حتى المرأة إذا كانت حائضًا أو نفساء يُسنُّ لها الاغتسال؛ لأن هذا الاغتسال المراد به التنظيف، ويدل على سُنِّيَّته عدة أدلة، منها:
1- ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه اغتسل حين أحرم. 
2- وقد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - أسماء بنت عميس لما ولدت محمد بن أبي بكر في ذي الحليفة، أمرها أن تغتسل وتهل بالحج.
3- وكذلك أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - عائشة لما حاضت أن تغتسل وتهل بالحج.
فإذًا هذا الاغتسال يُسنُّ لكل مَن أراد الحج أو العمرة، وهو للتنظيف، ولأن الإنسان يشهد مجتمعًا من الناس، فسُنَّ له أن يكون نظيفًا على أحسن هيئة.
مسألة: لو أن إنسانًا لم يجد ماءً يغتسل به، فهل له أن يتيمم؟ أو ليس له ذلك؟
الجواب: في هذه المسألة قولان:
القول الأول: أنه يشرع له التيمم إذا لم يجد ماءً، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة،
وكذلك الصحيح عند الشافعية، وقالوا: إن التيمم يقوم مقام الغسل الواجب والمستحب.
القول الثاني: أنه لا يسن ولا يُشرع التيمم إذا لم يجد الإنسان الماء، وهو قول آخر عند الحنابلة، وكذلك هو قول الحنفية والمالكية، واختاره ابن قدامه وشيخ الإسلام ابن تيمية.
 
والظاهر- والله تعالى أعلم -: أنه لا يُشرع التيمم إذا لم يجد الإنسان الماء، لأن الفرق بين الغسل الواجب وبين الغسل المستحب: أنه في الغسل الواجب إنما جاز التيمم؛ لاستباحة الصلاة، وكذلك لما في الماء من التنظيف، و الغسل في الإحرام للتنظيف، والتيمم لا يحقق هذا المقصد؛ بل لا يزيد المُحرِم إلا شعثًا وتغييرًا، فلا يُستَحب له أن يتيمم.
الأمر الثاني: التنظيف: 
 
والمراد بالتنظيف: إزالة الشعث، وقطع الرائحة، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، وحلق العانة،
وهو غير الغسل السابق؛ يعني يستحب لمن أراد الإحرام أن يتنظف ويُزيل هذه الأشياء.
قالوا: الدليل على استحباب هذه الأشياء أمران:
الأمر الأول: أن الإحرام يُسن له الاغتسال، فيسن له التنظيف من هذه الأمور.
الأمر الثاني: أن مدة الإحرام تطول، وقد يحتاج الإنسان إلى أخذ شيءٍ من شعره أو ظفره، وهو منهيٌ عن أخذ ذلك في الإحرام، فربما يحتاج إليه، فعليه أن يبادر بأخذه قبل الإحرام.
 
لكن ينبغي التنبيه على أمرين: 
الأمر الأول: أن محل الاستحباب فيما إذا كان الإنسان يحتاج إلى أخذ ذلك؛ وليس في حق كل أحد، وهذا الذي رجحه شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في "الفتاوى"؛ لأن هذا لم يُنقل عن الرسول – صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة - رضوان الله عليهم - لكن إذا كان الإنسان يحتاج إلى التنظيف، فينبغي له أن يتنظف.
الأمر الثاني: أن محل ذلك في غير عشرِ ذي الحجة لمن أراد أن يُضحي؛ لأن الإنسان إذا كان يريد التضحية، فإنه منهيٌ أن يأخذ من شعره أو بشره شيئًا.
فلو فُرض أن التنظيف نُقل، فهو منقول لأنهم كانوا يذهبون إلى الحج مبكِّرين، مع أنه لم يُنقل
إلا عن بعض العلماء، أنهم كانوا يستحبون هذا، وليس في ذلك دليل، فإذا لم يَحتَجِ الإنسان إلى هذا الأمر فلا يأخذ؛ لأنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
 
الأمر الثالث: التطيب قبل الإحرام: 
والتطيب إما أن يكون في البدن أو في ثوب الإحرام:
أولاً: التطيب في البدن:
فإنه مستحب عند جمهور العلماء، سواء تطيب بما تبقَى عينُه؛ كالمسك وغيره، أو ما لا تبقى عينُه، ويبقى أثرُه؛ كالبخور أو ماء الورد وما أشبه ذلك، فإنه يتطيب في بدنه قبل أن يُحرِم،
والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت:
"كنتُ أُطيِّب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يُحرِم، ولحِلِّه قبل أن يطوف بالبيت"، فكانت عائشة - رضي الله عنها - تطيب الرسول – صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، والإنسان ليس ممنوعًا من استدامة الطيب في البدن، فإذا تطيب في بدنه، فله أن يستديم ذلك في الإحرام؛ لكن ليس له أن يتطيب بعد أن يحرِم.
 
والدليل على استدامته ما ثبت في بعض روايات عائشة قالت: "كأني أنظر إلى وبيص (أو وبيض) الطيب في مفارق رسول – صلى الله عليه وسلم - وهو محرِم"، فدل هذا على استدامته. 
فإن قيل: ما الجواب عما ثبت في الصحيح من حديث يعلى بن أُمية قال: "جاء رجلٌ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال: "كيف ترى في رجلٍ أحرم بعمرةٍ، وهو مُتَضَمِّخٌ بطيب؟"، فسكت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ساعة، ثم أُوحي إليه، ثم سُرِّي عنه، فقال: ((أين الذي سأل عن العمرة؟))، فأوتي برجل، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك))؛ فظاهر هذا الحديث أنه لا يجوز للإنسان أن يتطيب قبل الإحرام؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمره أن يغسل الطيب الذي عليه ثلاث مرات، وأمره أن ينزع الجبة التي كان يلبسها، فظاهر هذا المنع، وهو ما تَمَسَّك به المالكية في نهيهم عن استدامة الطِّيب للمحرِم؟!
قلنا الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن قصة صاحب الجبة هذه كانت بعد حُنَيْن بالجعرانة سنة ثمانٍ، وقول عائشة - رضي الله عنها -: "كنت أُطيب الرسول – صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت" كان في حجة الوداع سنة عشر؛ فحديث عائشة متأخر، والعمل بالمتأخر واجب عند التعارض.
 
الوجه الثاني: أن هذا الرجل الذي سأل، كان في جبته زعفران، والزعفران منهيٌ عنه في حق الرجل، سواء كان في الإحرام أو في غيره، كما قال في حديث ابن عمر: ((ولا يلبس ثوبًا مسَّه وَرْسٌ أو زعفران))، لأن في بعض روايات حديث الجبة: ((عليه جبة بها أثر خلوق))، وفي بعضها: ((عليه ردْع من زعفران))، فدلَّ على أن هذه الجبة كان فيها زعفران، فنهاه النبي – صلى الله عليه وسلم – عنها، وأمره أن يغسل بدنه.
الوجه الثالث: قيل إن هذا محمول على أن الرجل تطيَّب بعد الإحرام، فأمره النبي – صلى الله عليه وسلم - أن يغسل ما به من الطيب، وأن ينزع جبته، وهذا الذي مال إليه النووي - رحمه الله تعالى - في "المجموع"، وقال: هو المتعين جمعًا بين الأحاديث.
 
مسألة: 
إذا تطيب الإنسان فله أن يستديم الطيب في بدنه - كما قلنا سابقًا - ولكن إذا نقل الإنسان الطِّيب من موضع إلى موضع؛ كأن يتطيب في رأسه أو في وجهه، ثم ينقله بيده إلى باقي جسمه، فهل معنى هذا أنه تطيب تطيبًا جديدًا، فتلزمه الفديةُ؟
الجواب:
قال العلماء: إذا كان هذا الإنسان متعمدًا، فتلزمه الفدية، وإن كان غير متعمد؛ كأن يعرق مثلاً، فيسيل الطيب على وجهه ونحو ذلك، فإنه لا شيء عليه؛ لما في سنن أبي داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنا نخرج مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمِّد جباهنا بالسُّك المطيَّب عند الإحرام، فإذا عرِقتْ إحدانا سال على وجهها، فيرى النبي – صلى الله عليه وسلم - ذلك ولا ينهانا"، فدلَّ هذا على أنه إذا سال أو انتقل من غير تعمد من الإنسان، فإنه لا شيء عليه.
 
ثانيًا: التطيب في ثياب الإحرام:
ذهب أكثر العلماء إلى أنه يُكره أن يُطيِّب الإنسانُ ثوبَ الإحرام.
ومشهور مذهب الحنابلة: أنه يُكره له أن يطيب الثوب، فإذا نزعه فليس له أن يلبسه، فإذا لبسه مرةً أُخرى بعد أن ينزعه، فعليه فدية؛ لأنه يعدُّ تطيبًا جديدًا.
وذهب بعضهم إلى أنه يَحرُم أن يطيب ثوب الإحرام؛ لأن هذا يؤدي به إلى فعل محظور.
والظاهر - والله تعالى أعلم -: أنه يكره للمحرِم أن يطيب ثوب الإحرام؛ لأن هذا هو الذي يدل عليه حديث الجبة.
الأمر الرابع: لبس الإزار والرداء:
الإزار هو: ما يلف على أسفل الجسم.
والرداء هو: ما يرتديه على كتفيه.
 
لما ثبت في الصحيح عن ابن عباس: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - انطلق من المدينة بعدما ترجل وادهن، ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه، فلم ينهَ عن شيء من الأردية والأُزُر؛ إلا المزعفرة التي تردع على الجلد"، ولما في مسند الإمام أحمد، و صحيح أبي عوانة وغيره، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "ليُحرِم أحدكم في إزار ورداء ونعلين".
وقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "أبيضين"، وذلك لحديث ابن عباس: ((مِن خير ثيابكم البياض؛ فالبسوها، وكفِّنوا فيها موتاكم))؛ رواه أبو داود والترمذي.
وقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "نظيفين"؛ يعني لا يشترط أن يكونا جديدين، المهم أن يكونا نظيفين، سواء كانا جديدين أو مغسولين.
الأمر الخامس: التجرد عن المخيط: 
يعني ينزع المخيط، وإذا أُطلق المخيط في هذا الباب فالمراد به ما خِيطَ على قدْر البدن، أو على قدْر عضوٍ منه؛ كالقميص لا على البدن، أو السراويل لأسفل البدن، أو العمامة للرأس، فكل ما خيط على قدر العضو فهذا مخيط، وليس المراد بالمخيط هو كل ما فيه خياطة، لأن الإنسان قد يلبس إزارًا مخيطًا؛ لكن لا تكون الخياطة على قدر البدن؛ بل تكون رقعه منه فيها خياطة، فهذا لا يضر.
 
وقال العلماء: إن كلمة "مخيط" لم تَرِدْ في الألفاظ الشرعية؛ وإنما هذا اصطلاح من الفقهاء، ولهذا وقع بسبب هذا اللفظ لبسٌ عند كثير من الناس، فيأتي شخص فيستفتي، فيقول: أنا ألبس ساعة فيها خياطة، فهل هذا جائز؟! وآخر يقول: أنا ألبس إزارًا في طرفه خياطة، فما حُكْم
ذلك؟
الأمر السادس: أن يصلي ركعتين عند الإحرام:
جمهور العلماء - رحمهم الله تعالى - يقولون: إنه يستحب للإنسان أن يصلي ركعتين ثم يُحرِم بعدهما، لما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول بوادي العقيق: ((أتاني آتٍ من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة))؛ الوادي المبارك: وادي العقيق عند ذي الحليفة.
 
في هذا الحديث ارتباط بين صلاة ركعتين وبين الإحرام.
ورأي شيخ الإسلام: أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، فإن صلى الفريضة أو سُنة يؤخرها، أحرم بعدها؛ وإلا لا يُشرع له أن يصلي من أجل الإحرام.
والظاهر - والله تعالى أعلم -: أن حديث عمر - رضي الله عنه - يدل على أن للإحرام صلاة.
وقوله: "ويحرِم عقيبهما": أي يُهِلُّ بالحج بعد الركعتين؛ يعني بعدهما، لأنه هكذا ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ بالحج بعد الصلاة، وقيل: أهلَّ به حين استوت به راحلته، وقيل: أهلَّ حين علا البيداء، وحكى ابن عباس أن كلاًّ منهم حكى ما سمع من النبي – صلى الله عليه وسلم - وقد يكون حصل من النبي – صلى الله عليه وسلم - هذا جميعًا، فنقل كل واحد منهم ما سمع.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وهو أن ينوي الإحرام، ويستحب أن ينطق بما أحرم به".
أي أن ينوي الإنسان الدخول بالنسك بقلبه مع التلبية، ويستحب أن ينطق بها، فإن أراد الإفراد قال: لبيك اللهم حجًّا، وإن أراد التمتع: قال لبيك اللهم عمرةً، وإن أراد القِران قال: لبيك اللهم عمرةً وحجًّا.
واستحباب النطق بالنية له دليل من حديث عمر - رضي الله عنه - وهو قوله: ((وقل عمرةً في حجة))، والقول إنما يكون حقيقة في القول اللساني، فيجوز له في هذا الموطن أن يقول ذلك، وأن يجهر بما أحرم به.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويَشترط ويقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني، فإن حبسني حابس، فمَحِلِّي حيث حبستني".
معنى يشترط: أي أن يقول بعد النية: "إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني"، ودليل الاشتراط ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب، فقالت: يا رسول الله، إني أُريد الحج، وأنا شاكية - يعني مريضة –"، فقال لها الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((حجي، واشترطي أن محلي حيث حبستني))، فأمرها النبي – صلى الله عليه وسلم - أن تشترط.
قال العلماء - رحمهم الله تعالى -: فائدة الاشتراط شيئان:
 
الأول: إنْ حبسه حابس فله أن يتحلل من إحرامه، سواء حبسه مرض أو عدو أو ذهاب
نفقة.
الثاني: أنه إذا تحلل من إحرامه لا شيء عليه، أي لا دم عليه ولا صوم.
وهل الاشتراط مستحب لكل مريدٍ للحج والعمرة؟ ثلاثة أقوال للعلماء: 
القول الأول: استحباب الاشتراط مطلقًا، وهذا هو مشهور مذهب الحنابلة، والصحيح من مذهب الشافعية؛ لحديث ضباعة المتقدِّم، ووجه الدَّلالة منه: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فالنبي – صلى الله عليه وسلم - إذا وجَّه الحُكْم لشخص فهو عام لهذا الشخص وللأمة؛ لأنه لا يمكن للنبي – صلى الله عليه وسلم - أن يخاطب كل شخص بانفراده، فإذا خاطب واحدًا من الأمة بحُكْم من الأحكام، اشتركتْ معه بقيةُ الأمة في ذلك الحُكْم.
القول الثاني: أنه لا يستحب الاشتراط؛ لأن هذه قضية عَيْن خاصة بضباعة بنت الزبير، بدليل أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يرشد جميع الصحابة إلى ذلك، ومنهم على الأقل أسماء بنت عميس، التي ولدت محمد بن أبي بكر في ذي الحليفة؛ إذ الغالب أن فترة النفاس تطول، وربما تأتي إلى مكة قبل أن تَطهُر، ولم يرشدها النبي – صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك.
 
القول الثالث: يستحب الاشتراط في حق مَن كانت حاله مثل حال ضباعة بنت الزبير، فإذا أحرم الإنسان وهو مريض، أو كان خائفًا من عدو؛ فله أن يشترط، وإلا فلا، وهذا رأي شيخ الإسلام، وهذا هو الظاهر، والله تعالى أعلم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وهو مخير بين التمتع والإفراد والقِران".
وهو مخير بين ثلاثة أنساك وهي: التمتع، القران، والإفراد، والدليل على التخيير بين هذه الثلاثة: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع: فمنَّا مَن أهلَّ بعمرة، ومنَّا مَن أهلَّ بعمرة وحجة، ومنَّا مَن أهلَّ بالحج، وأهلَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم - بالحج، وكنت في مَن أهَلَّ بعمرة".
 
فهذه ثلاثة أنساك يُخيَّر بينها الإنسان عند جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة.
ويرى ابن عباس - رضي الله عنه - وجوب التمتع؛ ولكن بعض الصحابة من الخلفاء الراشدين كان يكره التمتع، فهذا يدل على أنه ليس بواجب. 
وقال شيخ الإسلام: إن هذه الأنساك الثلاثة جائزة، وإن وجوب التمتع كان خاصًّا بأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم - لأنهم المخاطبون بالأمر أولاً في هذه المسألة، ثم لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - غضب حين لم يفعلوا، ويدل على هذا قول أبي ذر: "إن المتعة كانت خاصة لنا".
فالوجوب هو الخاص، ويدل من حيث الاستحباب في حديث سراقة لما سأل النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "أريتَ عمرتنا هذه، أَلِعَامِنَا هذا أم للأبد؟" قال: ((بل للأبد))، فيدل من حيث الاستحباب أنه مستحب لجميع الأمة، ومن حيث خصوصية الوجوب فهذا كان خاصًّا بالصحابة؛ حتى لا يتعارض ما نقل عن أبي ذر مع ما ثبت في حديث سراقة.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وأفضلها التمتع ثم الإفراد ثم القران".
 
وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال للعلماء - رحمهم الله تعالى -:
القول الأول: الأفضل التمتع، وهو المشهور من مذهب الحنابلة.
القول الثاني: الأفضل الإفراد، وهو قول المالكية، والصحيح عند الشافعية.
القول الثالث: الأفضل القران، وهو مذهب الحنفية.
والصحيح من ذلك - والله تعالى أعلم - التفصيل:
1- الأفضل لمَن ساق الهدْي القِرانُ؛ لأنه نسك النبي – صلى الله عليه وسلم - الذي أهلَّ به، ولأنه الذي أمره الله به لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني آتٍ من ربي فقال: صلِّ ركعتين في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)).
2- الأفضل لمن لم يَسُقِ الهدْي التمتعُ؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر الذين أهلُّوا بالحج، ولم يسوقوا هديًا بالتحلل وفسْخِ الحج إلى عمرة، وغضب لما تأخروا عن ذلك، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ؛ لما سُقتُ الهدْي، ولجعلْتُها عمرة))، والنبي – صلى الله عليه وسلم - لا ينقلهم إلا إلى الأفضل، ولا يتأسف إلا عليه؛ فدلَّ على أنه الأفضل لمن لم يسق الهدي.
3- الأفضل الإفراد لمن أنشأ سفرًا للعمرة وسفرًا للحج، فيكون أتى بالعمرة بسفر مستقل، ثم رجع إلى أهله، ثم أحرم بالحج؛ لأن هذا يعني جاء بنسكين في سفرين، أما المتمتع والقارن فإنه أتى بنسكين في سفرٍ واحد. 
 
وهذا التفصيل يدل على أنه ليس هناك نسك أفضل بإطلاق؛ بل هو بحسب حالة الشخص؛ فتارةً القران أفضل، وتارةً التمتع أفضل، وتارةً الإفراد أفضل.
شرع المؤلف - رحمه الله تعالى - الآن يبين صفة كل نسك من الأنساك الثلاثة:
1- صفة التمتع:
فيقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والتمتع أن يحرِم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه".
أولاً: يقول عند الإحرام: "لبيك اللهم عمرة"، أو يقول: "لبيك اللهم عمرة متمتعًا بها إلى الحج".
ثانيًا: أن الإنسان يأتي بعمرة كما يأتي بعمرة في أي شهر من أشهر السنة؛ لكن ينبغي في عمرة التمتع أن تكون من حين إحرامه في أشهر الحج (وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة)، أما لو جاء بها قبل أشهر الحج أو بعدها، فلا يُنظر إلى ذلك، ثم يفرغ من هذه العمرة؛ أي أنه لا يُدخل عليها الحج؛ لأنه لو أدخل عليها الحج أصبح قارنًا.
 
ثالثًا: ثم يتحلل من العمرة تحلُّلاً كاملاً، فيَحِلُّ له كل شيء كما لو كان حلالاً؛ أي أنه بعد أن يفرغ من العمرة يتحلل منها تحللاً كاملاً، فيقصر أو يحلق، والتقصير أفضل في هذا؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر مَن لم يسق الهدي أن يقصر بعد العمرة.
رابعًا: ثم يُحرِم بالحج من عامه، أما لو أتى بالعمرة مثلاً في هذه السنة في شوال، أو في ذي القعدة، ثم في السنة القادمة أتى بالحج؛ لا يكون متمتعًا، ثم يوم التروية يُسَنُّ له أن يُحرم من المكان الذي هو فيه في مكة، ثم يذهب إلى منى، ثم إلى عرفة، ثم إلى مزدلفة، ثم عليه يوم النحر هدي لتمتعه، فإن لم يجد هديًا فإنه يصوم عشرة أيام، كما جاء في القُرآن، ثم يرجع ويطوف طواف الإفاضة، وعليه بعد طواف الإفاضة سعيٌ آخر؛ فإن السعي الأول لعمرته وهذا لحجه.
2- صفة الإفراد:
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والإفراد أن يحرم بالحج وحده". 
يعني يقول عند الإحرام: "لبيك اللهم حجًّا"، ثم يذهب إلى مكة فيطوف طواف القدوم، ويسعى إن شاء وليس عليه سعيٌ أخر، أو يؤخر السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة، فهو مخيرٌ في ذلك، ويبقى على إحرامه بعد طواف القدوم، وليس عليه هدي؛ لكنه لا يُحل إلا بعد رمي جمرة العقبة - على ما يأتي تفصيله في صفة الحج، إن شاء الله تعالى.
 
3- صفة القِران:
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والقران أن يُحرم بهما، أو يحرم بالعمرة ثم يُدخل عليها الحج، ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة، لم ينعقد إحرامه بالعمرة".
القران يعني أن يقرن بين العمرة والحج في سفرٍ واحدٍ، فيقول: "لبيك اللهم عمرة في
حجة"، أو "لبيك اللهم عمرةً وحجة"، فهو يقرن بين الحج والعمرة، وله ثلاث صور:
الصورة الأولى: الإحرام من الميقات بالعمرة والحج، كما فعل النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لبيك اللهم عمرةً وحجة)).
الصورة الثانية: أن يحرم من الميقات بالعمرة فقط، كأنه يريد العمرة فيقول: "لبيك اللهم عمرة"، ثم قبل أن يشرع في الطواف يُدخل الحج على العمرة، ويدل على هذا: "أنه لما حاضت عائشة - رضي الله عنها - قبل أن تصل مكة، وكانت مُحرِمة بعمرة، أمرها – صلى الله عليه وسلم - أن تُهِلَّ بالحج"، فهنا أدخلت الحج على العمرة.
 
الصورة الثالثة: أن يُحرم من الميقات بالحج فقط فيقول: "لبيك اللهم حجًّا"، ثم يُدخل العمرة على الحج، هذه الصورة يقول المؤلف - رحمه الله تعالى - لا تجوز، وهو المشهور عند الحنابلة؛ لأنه إدخال الأصغر على الأكبر، ولأنه لا يستفيد شيئًا.
ومن العلماء مَن قال: إنه يجوز إدخال العمرة على الحج، واستدلوا بحديث عائشة: "أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج، ثم لما أتاه الآتي، قال له: قل لبيك اللهم حجًّا وعمرة"، فيفهم من هذا أنه أدخل العمرة على الحج.
والأحوط ألا يفعل هذه الصورة الثالثة؛ لوجود الخلاف بين العلماء.
 
هناك عدة أمور يجب التنبه لها: 
1- يجب على المتمتع والقارن دم نسك، إذا لم يكونا من حاضري المسجد الحرام، ودليل هذا قوله - تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196].
وهذا الدم هو دم شكران، وليس دم جبران؛ لأن هذا الدم حصل لشكر الله - عز وجل - على التمتع بالعمرة إلى الحج، أو على ترك أحد السفرين؛ لأنه أتى بنسكين في سفر واحد، فيشكر الله - عز وجل - على ذلك.
 
2- حيض المرأة في الحج له عدة صور:
الصورة الأولى: أن يكون الحيض عند الإحرام قبل أن تحرم، فلها أن تحرم كما مر معنا في حديث عائشة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم -: "أمر أسماء بنت عميس أن تغتسل وتهلَّ بالحج"، فهذا لا يمنعها من نية الحج، وكذلك كما ورد في حديث عائشة: "أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تهل بالحج"، فهذا لا إشكال فيه إن كان قبل الإحرام.
الصورة الثانية: إذا كانت أحرمت وجاءها الحيض، ننظر بماذا أحرمت؟
فإذا كانت أحرمت بعمرة؛ يعني متمتعة؛ فهذه حالها كحال عائشة - رضي الله عنها - أي إذا كانت لا يمكن أن تطهر قبل يوم عرفة، فإنه في هذه الحالة تُدخل الحج على العمرة كما فعلت عائشة - رضي الله عنها - وإذا كان يمكن أن تطهر قبل يوم عرفه، فتنتهي من عمرتها، ثم تحرم بالحج، فإنها تبقى على إحرامها. 
 
وإذا كانت أحرمت بالحج وحده، أو أحرمت قارنة ابتداءً، ثم جاءها الحيض، فإنها تفعلُ ما يفعله الحاج؛ غير أنه لا تطوف بالبيت، فتذهب إلى منى، ثم إلى عرفة، ثم إذا كان يوم النحر طهرت، طافت طواف الإفاضة وسعت، وإذا تأخر طهرُها حتى أيام التشريق وما بعدها، فعلى وليِّها أن يجلس معها حتى تطهر، ثم تطوف طواف الإفاضة وتسعى، وتكون في هذه الحالة على إحرامها، ولا يحصل لها التحلل الأكبر. أما إذا لم يبقَ عليها إلا طواف الوداع، ففي هذه الحالة لا وداع عليها، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت طوافًا؛ إلا أنه رُخِّص فيه للحائض، ولأن النبي – صلى الله عليه وسلم - لما سأل عن صفية، قالوا: إنها قد حاضت، قال: ((أحابستنا هي؟!))، قالوا: قد طافت يارسول الله (يعني طواف الإفاضة)، قال: ((فلتنفر إذًا)).
فحديث صفية دل على أمرين:
الأمر الأول: دل على أن مَن لم تطُفْ طواف الإفاضة، أن ذلك يحبسها، وذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم - سأل وقال: ((أحابستنا هي؟!))، قالوا: إنها قد أفاضت، قال: ((فلتنفر إذًا))، فدل على أن مَن لم تطف طواف الإفاضة تَحبِس مَن معها، حتى تؤدي طواف الإفاضة.
الأمر الثاني: أن مَن طافت طواف الإفاضة، ولم يبقَ عليها إلا الوداع، فإنه لا وداع عليها.
3- أن مَن أحرم مطلقًا صحَّ، وله صرفه إلى ما شاء:
أي مَن أحرم ولم يُعَيِّن نسكًا معيَّنًا؛ فلم ينوِ أنه مفرد، أو قارن، أو متمتع، فيصح هذا الإحرام، ولا يشترط تعيين النسك الذي أحرم به، فله أن يصرفه إلى ما شاء، فإن شاء جعله عمرة، وإن شاء جعله حجًّا، وإن شاء جعله عمرةً وحجًّ؛ أي إن شاء جعل نفسه قارنًا أو مفردًا أو متمتعًا.
 
4- مَن أحرم بنسك ونسيه فما حُكْم ذلك؟
أي إذا أحرم بنسك؛ كأن يكون إفرادًا أو قرانًا أو تمتعًا، ثم نسيه ففيه قولان:
القول الأول: يصرفه إلى عمرة؛ لأنه إن كان أحرم بعمرة فقد أصاب، وإن كان أحرم بالحج فيجوز فسخ الحج إلى العمرة.
القول الثاني: يصرفه إلى أيهما شاء إلى حج أو إلى عمرة.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: 
"فإذا استوى على راحلته لبى فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
ما حُكْم التلبية؟
التلبية مستحبة عند جمهور العلماء، وليست واجبة؛ خلافًا للمالكية، وليست شرطًا؛ خلافًا للحنفية.
مسألة: متى يلبي الحاج؟ هل يلبي بعد الصلاة؟ أو يلبي إذا استوى على راحلته؟ أو يلبي إذا علا البيداء؟
الجواب: اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في ذلك على ثلاثة أقوال، وجمع ابن عباس - رضي الله عنه - بين هذه الأقوال فقال: "مِن الناس مَن سمع النبي – صلى الله عليه وسلم - يلبي بعد الصلاة، فنقل ذلك، ولم يسمع تلبيته عندما استوى على راحلته، ومنهم مَن سمع النبي – صلى الله عليه وسلم - يلبي حينما استوت به راحلته، فنقل ذلك، ولم يسمعه يلبي بعد الصلاة، ومنهم مَن رآه يلبي لما علا البيداء من ذي الحليفة، فنقل ذلك، ولم يسمعه يلبي حينما استوت به راحلته". فالاختلاف نظرًا لسماعهم لتلبية النبي صلى الله عليه وسلم.
 
صفة التلبية: 
"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
معنى التلبية:
القول الأول: لبيك على صيغة التثنية مثل حنانيك؛ أي إجابة بعد إجابة، فكأن هذا إجابة لدعاء إبراهيم حين نادى، فوعده الله - عز وجل - أنه سيبلغ صوته إلى الناس، فإن الله - عز وجل - لما دعا الناس إلى الحج لبُّوا؛ أي أجابوا داعي الله إلى الحج.
القول الثاني: إنها مأخوذة من لبَّ بالمكان إذا أقام به، كأنه يقول: يارب أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة.
القول الثالث: لبيك مأخوذة من (اللُّب) وهو خالص الشيء: كأنه يقول: يارب لك إخلاصي، ولك خالص عبادتي وطاعتي.
القول الرابع: هي مأخوذة من (لبب كذا) إذا أخذ بتلابيبه؛ كأنه يقول: جئتك يارب منقادًا لأمرك، خاضعًا ذليلاً كما ينقاد مَن يؤخذ بتلابيب ثوبه.
 
ما يستفاد من التلبية:
1- تُشعر الإنسان بالاستجابة لأمر الله - عز وجل - وبامتثال أمره. 
2- تشعر بما لله من التوحيد، وبالاعتراف بنعمة الله، وبالشكر لله - عز وجل - وبالإخلاص له سبحانه.
3- تحيي شعيرة التوحيد، فقوله: ((لا شريك لك لبيك)) هو معنى لا إله إلا الله، فالرسول – صلى الله عليه وسلم - لما جاء إلى مكة يلبي بهذه التلبية يحيي بها شعيرة التوحيد، ويحيي بها هذا الأمر العظيم، الذي أخلَّ به أهلُ مكة كثيرًا في عهده – صلى الله عليه وسلم - فجاء يقرر التوحيد في أكثر من موقف في حجه، صلوات الله وسلامه عليه.
4- حمد الله وثناؤه على كل حال، فقال: ((إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)).
 
حكم الزيادة على ألفاظ التلبية:
ألفاظ التلبية السابقة هي الواردة عن النبي – صلى الله عليه وسلم - وعند العلماء أنه لا يستحب الزيادة على هذه الصيغة، ولا يكره:
فقولهم: "لا يستحب الزيادة على التلبية"؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يزد عليها.
وقولهم: "لا تكره الزيادة عليها"؛ يعني أن الزيادة جائزة؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - سمعهم يزيدون، فكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل، لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل".
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويستحب الإكثار منها ورفع الصوت بها لغير النساء".
 
ويستحب رفع الصوت بالتلبية: ويدل على ذلك:
1- قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الحج: العَجُّ والثَّجُّ))؛ حديث حسن، أخرجه الترمذي والدارمي، والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة دم الهدي.
2- قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومَنْ معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية))؛ أخرجه أصحاب السنن، وصححه الألباني.
3- ما ثبت عن أنس - رضي الله عنه -: "أن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم - كانوا يصرخون بالتلبية صراخًا".
4- وجاء عن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -: "أنهم كانوا لا يبلغون الرَّوْحاء حتى تبح أصواتهم"، وذلك من رفعهم أصواتَهم بالتلبية.
ويستحب الإكثار من التلبية:
 ويدل على ذلك: قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من حجر و شجر، حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا - بقدر ما يرى الرائي -)).
 
فينبغي للإنسان أن يكثر من هذه التلبية، كما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، فكثير من الحجاج يغفلون عن هذا الأمر، ويشتغلون بما لا يعنيهم، ويتركون أمر التلبية جانبًا.
قول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "لغير النساء"؛ لأن المرأة لا ينبغي لها أن ترفع صوتها بالتلبية، فربما أثَّر ذلك في الرجال، فلا ترفع صوتها إلا بقدر ما تُسمع رفيقتها.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وهي آكد فيما إذا علأنشزًا، أو هبط واديًا، أو سمع ملبيًا، أو فعل محظورًا ناسيًا، أو لقي ركبًا، وفي أدبار الصلاة المكتوبة، وبالأسحار وإقبال الليل والنهار".
هذه ثمانية مواطن ذكرها المؤلف - رحمه الله تعالى - يستحب فيها رفع الصوت بالتلبية،
وفي ذلك حديث ذكره ابن عساكر في تخريجه لأحاديث "المهذب"، وهو: "أنه – صلى الله عليه وسلم - كان يلبي إذا لقي راكبًا، أو علا أكمة، أو هبط واديًا، وفي أدبار الصلوات المكتوبة، ومن آخر الليل"، وفيه حديث في الصحيح: أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((كأني أنظر إلى موسى هابطًا من الثنية، له جُؤار إلى الله - عز وجل - بالتلبية)).
 
باب محظورات الإحرام 
قوله: "محظورات": هي صفةٌ لمحذوف تقديره: الأشياء المحظورات.
المحظور في اللغة: الممنوع.
فهذه الأشياء التي سيذكرها المؤلف - رحمه الله تعالى - ممنوعةٌ ومحرَّمةٌ على المحرِم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وهي تسعة: الأول والثاني: حلْق الشَّعر، وقلم الظفر، ففي ثلاثة منها دم، وفي كل واحد مما دونه مُدُّ طعام، وهو ربع الصاع. وإن خرج في عينه شَعر فقلعه، أو نزل شعره فغطى عينَه، أو انكسر ظفره فقصَّه؛ فلا شيء عليه".
المحظور الأول: حَلْقُ الشَّعر: وهذا بإجماع العلماء أن المحرِم يُمنع منه، والأصل في
ذلك: 
1- قوله - تعالى -: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، فهذا نص في حلق الشعر.
 2- حديث كَعْبِ بن عُجْرَةَ لما قال له الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((لعلك تؤذيك هوام رأسك؟))، قال: "نعم يا رسول الله"، قال: ((احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة))، فخيَّره النبي – صلى الله عليه وسلم - بين هذه الأشياء الثلاثة.
وقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "حلق الشعر"، هذا لا مفهوم له؛ فإن النتف أو القص في معنى الحلق، يعني لا فرق بين أن يحلق شعره، أو أن يزيله بأي نوع من أنواع الإزالة: بالنتف أو بالقص، أو بغيره من الأشياء التي يزال بها الشعر.
 
مسألة: هل الألف واللام في "الشعر" للعهد؛ أي يكون المعنى شعر الرأس؟ أو المراد به الاستغراق؛ أي كل شعر الجسم لا يجوز للإنسان أن يأخذ منه؟
الجواب: اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن المحرِمَ ممنوعٌ مِن أخذ شيء من شعره، سواء كان شَعْر الرأس، أو شعر البدن أو غيره؛ فجميع الشعر من المحظورات، لا يجوز للإنسان أن يَحلِق شيئًا منه، فأما شعر الرأس فبنص الآية، وأما غيره فبالقياس عليه، وهو قول جمهور العلماء.
القول الثاني: أن المُحرَّم على المُحرِم هو حلق شعر الرأس دون غيره؛ لأن غير شعر الرأس لم يَثْبُتْ فيه نص من الكتاب، ولا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهذا هو قول الظاهرية. وهذا القول قوي، ولهذا قال الشيخ الأمين - رحمه الله تعالى - في "أضواء البيان": "اعلم أني لا أعلَم نصًّا أو مستندًا، لمَن قال بتحريم غير شعر الرأس من كتاب ولا سُنة".
 
المحظور الثاني: تقليم الظفر: نقل ابنُ قدامة في "المغني" الإجماعَ على أن المُحرِم ممنوعٌ من تقليم أظفاره. واستدل بعضهم بقوله – تعالى -:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "التفث هو: حلق الرأس، وتقليم الأظفار"، لأنه إذا كان مباحًا له يوم النحر، دلَّ على أنه ممنوع قبل ذلك، فذكر هذا بعد أن ذكر الهدي، وذكر ما ينحره الإنسان، ثم قال: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}، وهذا هو رأي جمهور العلماء، وفيه خلاف للظاهرية.
تنبيه: 
المؤلف - رحمه الله تعالى - بعد أن ذكر المحظورين - حلق الرأس وتقليم الأظفار - ذَكَرَ أحكامًا متعلقة بالمحظورين؛ لأنهما من باب واحد؛ فالحُكْم الذي يقال في حلق الشعر، يقال في تقليم الأظفار.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ففي ثلاثة منها دمٌ".
 
أي إذا حَلَقَ الإنسانُ ثلاثَ شعرات، أو قلَّمَ ثلاثةَ أظفارٍ ففيه دم، وقوله: "فيها دم" هذه العبارة فيها تسامح، والأَوْلى أن يقول: فيها فدية؛ لأن الفدية ليست دمًا متعينًا؛ بل هو مخيرٌ بين أن يذبح شاة، أو أن يصوم ثلاثة أيام، أو أن يُطعِم ستة مساكين.
مسألة: على ماذا يَصْدُقُ حلْق الشعر؟
الجواب: في رواية عند الحنابلة ثلاث شعرات، وهذه التي اختارها المؤلف؛ لأن هذا هو أقل ما يَصْدُق عليه الجَمْع.
وفي رواية أخرى عندهم أنها أربع شعرات، واختارها الخرقي.
وعند المالكية كل ما يماط به الأذى؛ أي كل ما تحصل به إماطة الأذى، فهذا فيه فدية.
وعند الحنفية ربع الرأس.
هذه الأقوال كلها مبنية على أن الله - عز وجل - نهى المُحرِم أن يَحلِق شَعرَه، وليس في ذلك تحديد، والظاهر قولُ مَن قال: إنه أكثره، أو قال: ما يماط به الأذى، فهذا هو الأَوْلى.
 
وقوله - رحمه الله تعالى -:
"وفي كل واحد مما دونه مد طعام، وهو ربع الصاع".
أي لو حلق شعرةً، أو قص ظفرًا؛ ففيه مُدُّ طعام، وأقل من الشعرة، أو أقل من الأظفر؛ فلا يُنظر إليه؛ بل يَأخذ حُكْم الشعرة الواحد، والظفر الواحد. 
وقوله: "مُدُّ طعام"، لأن الله - عز وجل - جعل في جزاء الصيد، لمن لم يجد الحيوان، الإطعامَ،
وإنما قيل بالفدية في بعض الشَّعر؛ لأن ما وجبتْ الفدية في جملته وجبتْ في أبعاضه، وكذلك الحال هنا.
ثم قال: "ربع صاع" لأن هذا أقل فدية، وهي إطعام مسكين، وهو مُدٌّ.
وبعض العلماء قال: يتصدق بأي شيء، وهذا هو الأقرب؛ أنه ليس هناك تحديد؛ بل لو قيل: إنه لا يتصدق، وهذا مما يتسامح فيه، [لكان] أَوْلى.
وقوله - رحمه الله تعالى -:
"وإن خرج في عينه شعر فقلعه، أو نزل شعره فغطى عينه، أو انكسر ظفره؛ فلا شيء عليه".
هذه المسألة كلها ترجع إلى قاعدة، وهي قاعدة مهمة، وهي:
"أن مَن أتلف شيئًا لدفع أذاه لم يَضْمَنْهُ، وإن أتلفه لدفع أذى غيره به ضَمِنَهُ".
 
وتوضيح هذه القاعدة: أن الشعر مادام هو بنفسه أذًى للمُحرِم، أو آذى المُحرِمَ فقصَّه أو حَلَقَه، فلا شيء على المُحرِم، ولا يضمن؛ لأنه فعل ذلك من أجل دفع أذى الشَّعر؛ لكن لو كان في المُحرِم قَمْلٌ، فحَلَقَ الشَّعر، فهنا الأذى ليس من الشعر؛ وإنما من القمل، لكن هذا القمل لا يُدفَع أذاه إلا بحلْق الشعر، ففي هذه الحالة يضمن؛ كما في حديث كعب بن عُجْرَة؛ لأنه أتلف الشعر من أجل دفْع أذى غيره، وهو القمل.
هذه القاعدة لها فروع كثيرة، من ذلك: الصيد للمُحرِم، إذا صال عليه (يعني آذاه بنفسه) وقتله لم يضمنه؛ لكن لو قَتَلَ الصيدَ لدفع أذى غيره؛ يعني كدفع الجوع، كأن يكون في مَخْمَصَةٍ، فوجد صيدًا، فقتله؛ فهنا يضمن الصيد. كذلك لو صال عليه حيوانٌ لآدمي فقتله لم يضمنه؛ لكن إذا قتل هذا الحيوان لدفع المخمصة، ضمنه.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"الثالث: لبس المخيط، إلا أن لا يجد إزارًا، فيلبس سراويل، أو لا يجد نعلين، فيلبس خفين، ولا فدية عليه". 
المراد بالمخيط: كل ما خِيط على قدْر البدن كله، أو على قدر عضو منه، فيدخل تحت هذا الثوب الذي نلبسه، والقُمُص، والسراويل، والخفاف، والشراريب والجوارب، والقفازات، وكذلك الطاقية لأنها على قدر العضو، والأصل في هذا ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رجلاً قال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "ما يلبس المحرِم؟"، قال: ((لا يلبس القُمُص، ولا العمائمَ، ولا السراويلاتِ، ولا البرانس، ولا الخِفَاف؛ إلا أحدٌ لا يجد نعلين فليَلْبس الخفين، وليقطعهما أسفلَ من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسَّه زعفران أو وَرْس))، فالرسول – صلى الله عليه وسلم - نبَّه بهذا الحديث على ما يُلبَس أعلى البدن، وهو القُمُص، أو أسفل البدن وهو السراويلات، أو ما يلبس في الرِّجْل وهو الخف، أو ما يلبس على البدن كله وهو البرانس، وكذلك العمائم على الرأس.
 
يقول المؤلف:
"إلا أن لا يجد إزارًا فيلبس سراويل، أو لا يجد نعلين فيلبس خفين، ولا فدية عليه".
وهذا يدل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في الصحيحين قال: "سمعت الرسول – صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات يقول: ((السراويل لمن لم يجد الإزار، والخُفَّان لمن لم يجد النعلين))، يعني المحرِم"، فالرسول – صلى الله عليه وسلم - نبَّه على هذا الأمر، فالذي لا يجد إزارًا، له أن يلبس السراويل على هيئته، ولا فدية عليه، وإذا لم يجد النعلين لَبِسَ الخفين مع أن الخف مخيط على قدر العضو.
مسألة: مَن لم يجد نعلين ولبس خفين، هل يقطعهما أسفل الكعبين أو لا يقطعهما؟
 
الجواب: العلماء اختلفوا هل يقطع الخف أو لا؟ على قولين:
القول الأول: جمهور العلماء على أن الخفَّ يُقطَع حتى يكون أسفل الكعبين لحديث ابن عمر، رضي الله عنه. 
القول الثاني: ذهب الحنابلة إلى أن الخف لا يُقطَع؛ يعني لو لبسه على حالته لا شيء عليه، واستدلوا بحديث ابن عباس، وفيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر فيه القطع، وقالوا: حديث ابن عمر كان في المدينة، وحديث ابن عباس كان في عرفة؛ فهو متأخر، وقد حَضَرَ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم - بعرفة مَن لم يحضر كلامَه بالمدينة، ولو كان ذلك واجبًا لبيَّنه الرسول – صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأنه مُطلَق، وحديث ابن عمر مُقيَّد؛ فيُحْمَل المطلق على المقيد، علمًا بأن حديث ابن عمر فيه زيادة؛ فيجب الأخذ بها.
 
والظاهر- والله تعالى أعلم -: أنه يجب القطع كما في حديث ابن عمر.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"الرابع: تغطية الرأس، والأذنان منه".
تغطيةُ الرأس ممنوعٌ منها المحرِمُ بإجماع العلماء، والدليل على ذلك:
1- ما تقدم من حديث ابن عمر من النهي عن العمائم والبرانس.
2- قول الرسول – صلى الله عليه وسلم - في الذي وَقَصَتْه دابتُه: ((لا تُخَمِّروا رأسه؛ فإنه يُبعث يوم القيامة مُلبيًا))، فبيَّن الرسول – صلى الله عليه وسلم - أنه على إحرامه، وأنه ممنوع من تغطية الرأس.
 
وتغطية الرأس لها حالات:
الحالة الأولى: أن يغطيه بملاصق؛ كأن يغطيه بطاقية أو بعمامة، أو بما أشبه ذلك مما هو معتادٌ لُبْسُه على الرأس؛ فهذا ممنوع بإجماع العلماء.
الحالة الثانية: أن يغطيه بوضع شيء عليه؛ يعني بتلبيده، مثل أن يلبده بالعسل أو بالصمغ، أو بشيء شبيه بهذا كالحناء، فهذا جائز بالنص والإجماع:
أما النص: فلقول ابن عمر - رضي الله عنه – "رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يُهِلُّ مُلبِّدًا"؛ يعني يلبد الرأس؛ حتى يبقى الشعر كما هو، فهذا فيه نوع تغطية؛ لكنه مع ذلك لا يضر.
وأمّا الإجماع: فقد أجمع العلماء على جواز ذلك.
 
الحالة الثالثة: أن يغطيه بحَمْل متاعٍ عليه؛ كإنسان يحمل متاعه على رأسه، فهذه تغطية للرأس، هل تجوز أو لا تجوز؟
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في ذلك على قولين: 
القول الأول: أنه لا شيء عليه إذا غطاه، وهو مذهب الحنابلة والمالكية؛ لأن هذا لا يُقصد به الستر غالبًا.
القول الثاني: أن عليه الفدية إذا غطاه، وهو مذهب الشافعية.
والصحيح في هذا التفصيل: إذا كان الإنسان يضع على رأسه شيئًا بقصد التغطية، فعليه الفدية، وإلا فلا، وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة.
الحالة الرابعة: أن يغطي رأسه، أو أن يستظل بظل شجرة أو بالشمسية أو بظل السيارة، فهذا جائز، ويدل على ذلك: "أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أن تُنصَبَ له قبةٌ من شَعَرٍ بنَمِرَة، فنُصِبتْ له، والرسول – صلى الله عليه وسلم – محرِم"، فدلَّ ذلك على أنه لا مانع أن يستظل المحرِمُ.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والأذنان منه".
 
لما روى ابن عباس عن الرسول – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الأذنان من الرأس))، فإذا كانت من الرأس؛ فيجب على المحرِم ألا يغطيها.
مسألة: هل الوجه كالرأس أو لا في التغطية؟
الجواب: للعلماء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: أنه يَحْرُم على المحرِم أن يغطي وجهه، وهو مذهب المالكية والحنفية، ورواية عن الإمام أحمد، والدليل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم، في حديث الذي وَقَصَتْه دابتُه أنه قال: ((لا تخمروا رأسه ولا وجهه)).
القول الثاني: أنه يباح للمحرِم أن يغطي وجهَهُ، وهو قول الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، وقالوا: زيادةُ ((ولا تغطوا وجهه)) زيادةٌ غير محفوظة؛ فبناءً على ذلك يجوز له أن يغطي وجهه.
 
والقول الراجح - والله تعالى أعلم -: أنه لا يجوز للمحرِم أن يغطي وجهه؛ لأن رواية الزيادة ثابتة وصحيحة.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"الخامس: الطِّيب في بدنه وثيابه".
الدليل على كون الطِّيب من محظورات الإحرام، وعلى كونه مُحرَّمًا على المُحرِم، ما تقدم سابقًا معنا في الأحاديث الصحيحة منها:
1- قصة الرجل الذي وَقَصَتْه دابتُه، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - فيه: ((لا تمسوه طِيبًا)). 
2- حديث ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسَّه زعفران أو وَرْسٌ)).
3- حديث صاحب الجُبَّة، حيث أمره النبي – صلى الله عليه وسلم - أن يغسل ما به من الطِّيب ثلاثًا، وقال له:
((وانزع عنك الجبة)).
 
لكن يَرِدُ هنا مسألتان:
المسألة الأولى: ما الطِّيب المحرَّم؟
الجواب:
الطيب المحرَّم هو: ما قُصِد منه الطِّيب، فليس كل رائحة طيبة أو تستطاب تكون طيبًا؛ بل ما قُصد منه الطِّيب، أو كان الغالب فيه ذلك، هذا هو المحرَّم على المُحرِم.
فالطِّيب المُحَرَّم، للعلماء فيه ضوابطُ مختلفة، فقال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -:
"النبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: ما لا يُنبَتُ للطيب ولا يُتخذ منه - يعني لا يُقصد منه الطيب ولا يُتخذ منه - كنبات الصحراء: مثل الشِّيح والقَيْصُوم والخَزَامَى وغيرها، وكذلك الفاكهة: كالسفرجل
والتفاح، وما لا يُقصد منه الطيب بتاتًا من الأشجار؛ فهذا الضرب لا خلاف أنه لا فدية على مَن شمَّه أو مَسَّه.
 
الضرب الثاني: ما يُنبَتُ للطيب ولا يُتخذ منه؛ كالريحان، فهذا فيه وجهان عند الحنابلة، وأصح الوجهين: أنه لا فدية على مَن مسه أو شمه.
الضرب الثالث: ما يُنبَت للطيب ويُتخذ منه؛ كالورد وغيره، فأصح الروايات عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - أن مَن مسه أو شمه عليه فدية".
لكن الطِّيب على قسمين:
القسم الأول: ورد فيه نص؛ كالزعفران وغيره، فهذا يُتبع فيه النص.
القسم الثاني: لم يَرِد فيه نص، فالمرجع فيه إلى عُرْف الناس، فما عدَّه الناس طيبًا فإنه يَحرُمُ على المُحرِم أن يَمَسَّه.
المسألة الثانية: ما هي أوجه الاستعمال المحرَّمة في الطيب؟
الجواب: ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - أنه في البدن وفي الثياب.
 
والعلماء - رحمهم الله تعالى - قالوا: إن أوجه الاستعمال المحرَّمة في الطيب هي:
1- المس.
2- الشم.
3- صبغ الثياب به.
4- الادهان.
5- استعماله في الأكل.
6- الاحتقان به.
1- مس الطيب:
فهذا واضح من حديث الرجل الذي وقصته دابته، قال – صلى الله عليه وسلم -:
((لا تمسوه طيبًا))، والطيب من حيث المس على قسمين:
القسم الأول: طيب لا يَعْلَقُ باليد منه شيءٌ إذا مسسناه؛ كالعود أو قطع الكافور مثلاً، فمثل هذا لا فدية في مسه.
القسم الثاني: ما يعلق باليد منه شيء؛ كالطيب السائل أو المائع أو المسحوق، فهذا فيه الفدية.
 
2- شم الطيب: على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يَشمَّه المحرِم من غير قصد؛ كأن يمر بالكعبة وهي تُطيَّب، فيجد رائحة الطيب، أو يمر بعطَّار عنده طيب فيجد الرائحة، فهذا لا شيء عليه باتفاق العلماء.
القسم الثاني: أن يقصد شم الطيب؛ لكن هذا القصد من أجل الشراء منه، فهذا قال بعض العلماء: لا شيء عليه، وهذا الذي رجحه ابن القيم - رحمه الله تعالى - فقال: ليس في شم الطيب دليل، لكنه حُرِّم تحريم الوسائل، وما حُرِّم تحريم الوسائل جاز للحاجة؛ كتحريم النظر للمرأة الأجنبية، فإنه محرَّم تحريم الوسائل؛ لكنه يجوز النظر للمخطوبة للحاجة، فكذلك الطيب يجوز للحاجة إذا أراد الإنسان أن يشتري فلا مانع من أن يشمه.
القسم الثالث: أن يشم الطيب بقصد التلذذ به، فهذا لا يجوز، ومَن فعله فعليه الفدية.
 
3- صبغ الثياب بالطيب: فهذا فيه قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لاتلبسوا شيئًا من الثياب مسَّه زعفران أو وَرْس)).
4- الادِّهان بالطيب: على قسمين:
القسم الأول: دهان فيه طيب، فهذا لا يجوز الادِّهان به؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تمسوه طيبًا)).
القسم الثاني: دهان لا طيب فيه، فيجوز الادِّهان به، وبعض العلماء كَرِهَه وقال: لا يجوز، لا لكونه طيبًا؛ بل لكونه يُزيل التفث، أو يُزيل الشعر من الرأس، وبعضهم قال: لا يجوز استعمال الدهان في الرأس واللحية؛ حتى لا يُسقط شيئًا من الشعر.
والصحيح الجواز إذا لم يكن فيه طيب.
5- أكل الطيب: ففيه خلاف بين العلماء إذا استعمل الطيب فيه: 
فمذهب الحنابلة والشافعية أن استعمال الطيب في الأكل أو الشرب محرَّم على المُحرِم، سواء كان نيئًا أو كان مطبوخًا متى ما وجد ريحه، فإذا فعل فإن عليه الفدية.
 
وبعض العلماء يرى أنه إذا كان مطبوخًا لا فدية فيه، سواء ذهب لونه وريحه وطعمه أو لا؛ لأن الطبخ يُحيل الطيب عن حقيقته؛ وهو مذهب المالكية والحنفية.
والظاهر - والله تعالى أعلم - أنه لا شيء في وضعه في الأكل؛ لأنه لا نص في ذلك، وأيضًا لا يسمى عادةً مَن يأكل ما فيه طيب متطيبًا.
لكن ينبغي للإنسان أن يجتنبه خروجًا مِن خلاف مَن خالف مِن العلماء.
6- الاحتقان بالطيب: لأن الاحتقان نوع من المس المنهي عنه.
 
مسألة: ما الفرق بين هذه المسألة وبين المسألة المتقدمة، وهي: وضع الطيب قبل الإحرام؟
الجواب: هذه المسألة في ابتداء الطيب في الإحرام؛ يعني هل يجوز لك أن تتطيب بعد أن تُحرِم، سواء كان في الثياب أو كان في البدن، وأما المسألة المتقدمة فهي في الاستمرار.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"السادس: قتل الصيد، وهو ما كان وحشيًّا مباحًا، وأما الأهلي فلا يَحرُم، وأما صيد البحر فإنه مباح".
الدليل على كون قتل الصيد من محظورات الإحرام:
1- قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95].
2- قوله - تعالى -: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96].
 
مسألة: هل هناك ما يُلحق بالقتل؟
الجواب: نعم، فلا يجوز للمُحرِم أن يدل على الصيد، ولا يُشير إليه، ولا يُعين عليه، ولا أن يأكله إذا صِيدَ مِن أجْله، والدليل على هذا ما في الصحيح عن أبي قتادة - رضي الله عنه -: "أنه كان مع أصحابه فرأَوْا حُمُرًا وحشية، فحمل عليها أبو قتادة - رضي الله عنه - فعقر منها أتانًا، فنزل أصحابه فأكلوا منها، فلما أكلوا منها كأنهم تحرَّجوا، فقالوا: أكلنا لحمًا ونحن مُحرِمُون (يعني لحم صيد)، فأتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: "يا رسول الله، إنا أحرمْنا، وكان أبو قتادة لم يُحرِم، فرأينا حُمُرَ وحشٍ فحمل عليها أبو قتادة، فعقر منها أتانًا فنزلنا فأكلنا منها، وتركنا منها بقية، فقال لهم الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((هل منكم أحدٌ أمره بذلك أو أشار إليه بشيء؟))، قالوا: "لا"، قال: ((فكلوا ما بقي من لحمها))، وفي بعض الروايات عند مسلم أنه قال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أمنكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها))، وفي بعضها كذلك عند مسلم قال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أَشَرْتُم أو أَعَنْتُم أو أَصَدْتُم)). وفي بعض الروايات: "أنه سقط منه سوطه، فقال: ناولوني السوط، قالوا: والله لأنعينك عليها بشيء، فنزل فأخذ سوطه فعقرها"، فهذا كله يدل على أنه لا يجوز للمُحرِم أن يأكل من لحم الصيد؛ إذا صاده بنفسه، أو أشار إليه، أو أعان عليه، أو دل عليه.
مسألة: هل يجوز للمُحرِم أن يأكل من الصيد؟
 
الجواب: إن كان صِيدَ من أجله فإنه لا يجوز له أن يأكل منه، وإن لم يُصد من أجله جاز له أن يأكل منه، والدليل على هذا ما في سنن الترمذي وأبي داود عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((صَيْدُ البَرِّ حلال لكم؛ ما لم تصيدوه، أو يُصد لكم)).
فإن قيل: ما الجواب عن حديث الصَّعْب بن جَثَّامَة الليثي الذي في الصحيحين: "أنه أهدى إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - حمارًا وحشيًّا بالأَبْوَاء أو بوَدَّان، فرَدَّه الرسول – صلى الله عليه وسلم - فلما رأى الرسول – صلى الله عليه وسلم - ما في وجهه قال: ((إنا لم نردَّه عليك إلا أنَّا حُرُم))، فيدل هذا على أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - ردَّه عليه لأنه كان محرِمًا؟ 
قلنا: الجواب: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - ربما عَلِمَ أن الصعب إنما صَادَهُ مِن أجله؛ فلم يأكل منه النبي – صلى الله عليه وسلم - لذلك.
 
مسألة: ما الصيد المُحرَّم على المُحرِم؟
الجواب: هو ما جَمَعَ ثلاث صفات:
الصفة الأولى: أن يكون بَرِّيًّا: فأخرج صَيْدَ البحر، قال - عز وجل -: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، فصيد البحر الذي لا يعيش إلا في الماء حلالٌ على المُحرِم، وإذا كان يعيش في الماء وفي البَرِّ؛ فإنه يُغلَّب جانب الحظر على جانب الإباحة، وعند الحنابلة العِبرة في هذا بالمكان الذي يفرخ ويبيض فيه.
 
الصفة الثانية: أن يكون وحشيًّا: يعني ليس أهليًّا؛ فبناءً على هذا يكون الأهلي ليس بمحرَّم؛ كبهيمة الأنعام وغيرها، والعِبرة في هذا بالأصل لا بالحال الذي عليه الآن، فما كان أصلُه وحشيًّا فإنه يَحرُم حتى وإن استأنس أو تأهل؛ فالحَمَامُ أصلُه وحشيٌّ، فلا يجوز اصطياده حتى وإن استأنس، وكذلك بهيمة الأنعام أصلها أهلي، فإن توحشت فإنه يجوز اصطيادها وأكلها.
الصفة الثالثة: أن يكون مباحًا: فإن كان محرَّمًا؛ أي يَحرُم أكلُه، فلا مانع من اصطياده، وما تولد بين مباحٍ ومحرَّم يُغلَّب جانب التحريم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"السابع: عقد النكاح حرام، ولا فدية فيه".
 
لا يجوز للمُحرِم أن يَعْقِدَ لنفسه؛ أي لا يجوز أن يَقْبَل النكاح لنفسه، ولا أن يقبله لغيره،
ولا يكون وليًّا فيه، ولا وكيلاً، وذلك لما ثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان:
أنه قال: قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَنْكِح المُحرِم، ولا يُنْكِح، ولا يخطب))، فهذا الحديث واضح في المنع من النكاح للمُحرِم، وكذلك لا يجوز للمُحرِمة أن تتزوج.
فإن قيل: ما الجواب عن حديث ابن عباس - رضي الله عنه – "أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو مُحرِم"؟
قلنا: الجواب عنه من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن حديث ابن عباس مُعارَض بمِثْلِه، فقد ثبت في صحيح مسلم عن يزيد الأصم 
قال: "حدثتني ميمونة بنت الحارث: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال، وكانت خالتي وخالة ابن عباس"، فهذا الحديث مقدَّم على حديث ابن عباس؛ لأنه إذا تعارض عندنا خبران، راوي أحد الخبرين صاحب القصة، فخَبَرُه مقدَّم على خبر غيره، فهنا في حديث يزيد الأصم أخبر أن ميمونة حدثته بذلك، وهي صاحبة القصة.
 
الوجه الثاني: ثبت عند الإمام أحمد وغيره أن أبا رافع قال: "تزوج الرسول – صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال، وبَنَى بها وهو حلال، وكنتُ الرسول بينهما"، فأبو رافع قد باشر القصة؛ فهو أَوْلى من ابن عباس، رضي الله عنه.
الوجه الثالث: أن ابن عباس - رضي الله عنه - كان صغيرًا لا يُدرك في ذلك الوقت حقائق الأمور.
الوجه الرابع: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - ربما تزوج ميمونة وهو حلال؛ لكنه لم يُظهر أمر التزويج إلا وهو مُحرِم؛ فظن ابن عباس - رضي الله عنه - أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو مُحرِم.
الوجه الخامس: أنه إذا تعارَض القول والفعل، فالقول مقدَّمٌ على الفعل؛ لأن الفعل يحتمل الخصوصية، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يَنْكِح المُحرِم، ولا يُنْكِح، ولا يخطب))، فهذا هو القول، والفعل هو ما ذكره ابن عباس، رضي الله عنه.
فبناءً على ذلك، يترجح - والله تعالى أعلم - أنه لا يجوز للمُحرِم أن يعقد النكاح، وإن عَقَدَ النكاح وهو مُحرِم، فلا فدية عليه؛ لكن العقد فاسد.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"الثامن: المباشرة لشهوة فيما دون الفرج، فإن أنزل بها فعليه بدنة، وإلا ففيها شاة، وحجه صحيح".
 
المباشرة فيما دون الفرج: كالوطء في غير الفرج، أو التقبيل، أو اللمس بشهوة. إذا فعل المُحرِم ذلك فله حالتان:
الحالة الأولى: أن يحصل منه إنزال مَني: 
فهنا يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "عليه بدنة"، لماذا؟ قالوا: تشبيهًا له بالغسل، فكما أن الغُسل يجب بإنزال المني، بغض النظر عن الجِماع وغيره، فكذلك البدنة تجب بإنزال المني، بغض النظر عن الجِماع وغيره. فهم قاسوا الإنزال على الجِماع؛ فكما أن الجماع فيه بدنة، فكذلك الإنزال فيه بدنة بجامع اللذة في كلٍّ منهما.
الحالة الثانية: إن لم يحصل منه إنزال مني:
فهنا يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "عليه شاة"؛ يعني فيه فدية الأذى.
 
وقصدهم بفدية الأذى: شاة، أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام على التخيير.
والظاهر - والله تعالى أعلم -: أن الجميع فيه فدية الأذى - أنزل أو لم يُنزل - لعدم وجود الدليل المقنع في هذا، والله تعالى أعلم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"التاسع: الوطء في الفرج، فإن كان قبل التحلل الأول؛ فَسَدَ الحج، ووجب المضي في فاسده، والحج مِن قابل، ويجب على المُجامِع بدنة، وإن كان بعد التحلل الأول ففيه شاة، ويُحرِم من التنعيم ليطوف محرِمًا، وإن وطئ في العمرة أفسدها، ولا يفسد النسك بغيره".
الوطء في الفرج يعني: تغييب الحشفة في الفرج؛ أي تغييب رأس الذَّكَر في الفرج، وهذا الذي يترتب عليه الأحكام الشرعية المعروفة، وهذا هو أعظم المحظورات؛ إذْ يترتب عليه إفساد الحج والعمرة، وجميع المحظورات لا يفسد بها الحج، والجِماع مَنهيٌّ عنه بنص القرآن، قال الله - عز وجل -: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "الرفث هو: غشيان النساء، والتقبيل، والغمز".
 
وإذا جامع الإنسان في الحج فله حالتان:
الحالة الأولى: قبل التحلل الأول:
كأن يجامع ليلة عرفة، أو يجامع في المزدلفة، أو يجامع يوم العيد قبل الرمي وقبل الحلْق، فهذا يقول المؤلف يترتب على جِماعه أربعة أمور:
  • الأمر الأول: فساد حجه.
  • الأمر الثاني: المضي في فاسده. 
  • الأمر الثالث: الحج من قابل.
  • الأمر الرابع: وجوب بدنةٍ عليه.
     
وهذه الأمور الأربعة منقولة عن ابن عمر - رضي الله عنه - كما في البيهقي، وهو أثر صحيح، وكذلك عن ابن عباس وعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - فهذه آثار عن الصحابة، ولم يُعرَف لهم مخالف؛ فكان ذلك إجماعًا.
وبعض هذه الأمور تدل عليها النصوص، فالمضي في فاسده؛ لأن الله – تعالى - أمر بإتمام الحج والعمرة، فعليه أن يُتم الحج والعمرة حتى ينتهي، ثم عليه الحج من قابل.
الحالة الثانية: بعد التحلل الأول:
كأن يجامع بعد أن يرمي الجمار ويَحلِق، وقبل أن يطوف طواف الإفاضة، فهذا يترتب على جِماعه أمران:
الأمر الأول: وجوب شاة عليه، لماذا لم يقُلْ عليه بدنة؟ قالوا: لأن الإحرام بعد التحلل الأول أخف من الإحرام قبل التحلل الأول، فهنا عليه شاة؛ أي عليه فدية الأذى.
 
الأمر الثاني: يُحرِم من الحِلِّ، سواء كان من التنعيم أو من غيره، حتى يطوف في إحرام صحيح؛ لأن الإحرام الأول فَسَدَ بالجِماع، فيحتاج أن يُحرِم حتى يطوف في إحرامٍ صحيح، وبعض العلماء يقول: يأتي بعمرة، وفي الحقيقة لم أطّلع على دليل لهذا القول، وخصوصًا مَن يقول يُحرِم مِن الحِلِّ؛ يعني ليس هناك دليل ولا آثار عن الصحابة تثبت هذا، والله أعلم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والمرأة كالرجل، إلا أن إحرامها في وجهها، ولها لبس المخيط".
أي والمرأة كالرجل في محظورات الإحرام السابقة: فلا يجوز لها أن تتطيب، ولا أن تصيد، ولا أن تأخذ من شَعْرها شيئًا، ولا تُقلِّم أظفارها...، لكن المؤلف يقول: "إلا أن إحرام المرأة في وجهها"، وأصلُ هذا الكلام أثرٌ مروي عن ابن عمر أنه قال: "إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها"، قال في "المبدع": "رواه الدارقطني بإسناد جيد".
وهذه مسألة خلافية: هل وجه المرأة كرأس الرجل المُحرِم، أو كبدنه؟ 
 
إن قلنا: إن وجه المرأة كرأس الرجل، فيَحرُم عليها أن تغطي وجهها مطلقًا، سواء كان بمَخِيط أو بغيره؛ كما يَحرُم على الرجل أن يُغطي رأسه بمخيط أو بغيره، وإن قلنا: إن وجه المرأة كبدن الرجل المُحرِم، فيَحرُم على المرأة أن تغطي وجهها بمخيط، ولا يَحرُم عليها أن تغطيه بغيره، وهذا الذي ذهب إليه ابن القيم - رحمه الله تعالى -: أن وجه المرأة كبدن المُحرِم، فيَحرُم أن تلبس عليه مخيطًا؛ كالنقاب والبرقع، ولا يَحرُم عليها أن تطرح جلبابًا على وجهها، أو أن تطرح غطاءً على وجهها، إذا لم يكن مخيطًا على قدر الوجه، وقال: "وما روي عن ابن عمر حديثٌ لا أصل له، ولم يَروِه أحدٌ من أصحاب الكتب المعتمد عليها، ولا يُعرَف له إسناد، ولا تقوم به الحُجة". فبناءً على رأي ابن القيم: يَحرُم عليها المخيط في أمرين: في وجهها، وفي يديها؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين)).
 وعلى رأي الجمهور في يديها فقط، ولها - عند جميع العلماء - أن تغطي يدها بشيء غير مَخِيط؛ كأن تغطيها بعباءتها، لكن لا تغطيها بمخيط مصنوع على قدْر العضو، أما الشراب فلها أن تَلبسه؛ لأنها ليست ممنوعة من المخيط في رِجْلها.
 
باب الفدية 
الفدية: مأخوذة مِن فَداه، وفاداه: إذا أعطى فداءه، فأنقذه وفداه بنفسه.
والمراد بها: حقٌّ مُعَيَّن شرعًا لجبْر نقصٍ؛ مِن ترْك واجب، أو فِعل محظورٍ، أو بسبب نُسُك.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وهي على ضربين: الضرب الأول: على التخيير، وهي فدية الأذى واللبس والطيب، فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ثلاثة آصُع من تَمْرٍ لستة مساكين، أو ذبح شاة، وجزاء الصيد مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَم؛ إلا الطائر فإن فيه قيمته، إلا الحمامة ففيها شاة، والنعامة فيها بدنة، ويتخير بين إخراج المِثْل وتقويمه بطعام، فيُطعِم كلَّ مسكين مُدًّا، أو يصوم عن كل مدٍّ يومًا".
 
الضرب الأول: ما هو على التخيير:
وهو نوعان:
النوع الأول: فدية الأذى: 
وهي فدية خمسة محظورات: حلق الرأس، وتقليم الأظفار، وتغطية الرأس، واللبس، والطيب، ويدل على ذلك:
1- قوله - تعالى -: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
2- حديث كعب بن عُجْرة السابق: ((احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسُك شاة))، ولفظ (أو) للتخيير، فيُخيَّر بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين ثلاثةَ آصُع؛ أي لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة.
والمنصوص عليه: حلق الرأس، وغيره ملحق به قياسًا بجامع الترفُّه.
 
وقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "أو إطعام ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين" هكذا وردت في حديث كعب بن عجرة: ((احلق رأسك، ثم اذبح شاةً نُسُكًا، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمرٍ على ستةِ مساكين))، وفي بعض الروايات: ((أو تصدق بِفَرَقٍ بين ستة مساكين، أو انسك ما تيسر))، والفرَق - بفتح الراء وسكونها -: مكيال معروف، يسع ثلاثة آصع.
والظاهر عدم التفريق بين التمر وغيره.
النوع الثاني: جزاء الصيد: فإنه يُخير بين المِثْل وتقويمه بطعام، فيُطعم كلَّ مسكين مُدًّا، أو يصوم عن كل مُدٍّ يومًا، والدليل على التخيير قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95].
واعلم أن الصيد على قسمين:
القسم الأول: ما له مِثْل:
فالواجب فيه أحد ثلاثة أشياء على التخيير: المِثْل، أو الإطعام، أو الصيام.
والمثل نوعان:
النوع الأول: ما قَضَتْ به الصحابة، ففيه ما قضت به:
الصيد: حمار الوحش. المِثْل: بقرة. مَن حَكَم به من الصحابة: عمر، (وحكم فيه ابن عباس وأبو عبيدة ببدنة).
 
  • الصيد: بقرة الوحش. المثل: بقرة. مَن حكم به من الصحابة: ابن مسعود، رضي الله عنه.
  • الصيد:الإيَّل (الذكر من الأوعال). المثل: بقرة. مَن حكم به من الصحابه: ابن عباس، رضي الله عنه.
  • الصيد: الثَّيْتَل (الوعل المُسِن). المثل: بقرة. مَن حكم به من الصحابة: ابن عمر، رضي الله عنه.
  • الصيد: الوعل (تيس الجبل). المثل: بقرة. مَن حكم به من الصحابة: ابن عمر، رضي الله عنه.
  • الصيد: الضبع. المثل: كبش. من حكم به من الصحابة: عمر، وابن عباس، وعلي، وجابر - رضي الله عنهم - وقد ورد فيه حديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
  • الصيد: الغزال. المثل: عنز. من حكم به من الصحابة: عمر، ابن عباس، رضي الله عنهما.
  • الصيد: الوبر، والضب. المثل: جدي. من حكم به من الصحابة: عمر، عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنهما.
  • الصيد: اليربوع. المثل: جفرة لها أربعة أشهر. من حكم به من الصحابة: عمر، وابن مسعود، وجابر، رضي الله عنهم.
  • الصيد: الأرنب. المثل: عَنَاق. من حكم به من الصحابة: عمر، رضي الله عنه.
  • الصيد: الحمام. المثل: شاة. من حكم به من الصحابة: عمر، ابن عباس، عثمان، ابن عمر.
  • الصيد: النعامة. المثل: بدنة. من حكم به من الصحابة: عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، وابن عباس، ومعاوية، رضي الله عنهم.
     
النوع الثاني: مالم تقضِ فيه الصحابة:
فيرجع فيه إلى قول عَدْلَيْن من أهل الخبرة، ويجوز أن يكون القاتل أحدهما لنص الآية:
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، فيحكمان فيه بأشْبَهِ الأشياء من النَّعَم من حيث الخِلْقة؛ لا من حيث القيمة بدليل أن قضاء الصحابة لم يكن بالمِثْل في القيمة.
ومتى اختار المِثل فإنه يُشترط فيه أن يكون من بهيمة الأنعام، ويذبحه ويوزعه على الفقراء.
 
القسم الثاني: ما لا مِثْلَ له:
وهو سائر الطير، ففيه قيمته في موضعه الذي أتلفه فيه، وذلك لأن الطير صيد، وفُسِّر قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] بالفرخ والبيض، وما لا يقدر أن يَفرَّ من صغار الصيد، وقوله – تعالى -: {وَرِمَاحُكُمْ} يعني الكبار.
فإذًا يضمن الطير وبيضه لما ثبت عن ابن عباس: "في بيض النعام قيمته"؛ أخرجه عبدالرزاق.
ويستثنى من الطيور أنواع لها مِثْل، وذلك كالنعامة، والحمام، وهو: كل ما يعب الماء ويشرب فيدخل فيه الفَوَاخِت، والوَرَاشِين، والقُمْرِيُّ، والدُبْسِيُّ، والقَطَا؛ لأن كل واحدةٍ من هذه تسميها العرب حمامًا، وقال الكسائي: "كل مطوَّق حمام" فعلى هذا الحَجَل حمام لأنه مطوَّق. 
ومتى اختار الإطعام: فإنه يقوِّم المِثْل - على أرجح الأقوال - لا الصيد؛ لأن الواجب المِثْل أو بدله.
فإذا اختار الإطعام: قوَّم المثل بدراهم، والدراهم بطعام، ويتصدق به على المساكين، فيُطعِم كلَّ مسكين مُدًّا، ولا يجزئ إخراج القيمة؛ لأن الله – تعالى - خيَّره بين ثلاثة أشياء، والقيمة ليست منها.
 
والطعام هنا هو الطعام المخرَج في الفطرة: تمر،أو بُرّ، ونحو ذلك.
مثال:
قَتَلَ صيدًا قيمةُ مِثْله (300 ريال)، فيشتري بالثلاثمائة ريال طعامًا، ويوزعه على الفقراء والمساكين، لكل مسكين مُدُّ بُرٍّ، أو نصف صاع من غيره، وقيل: نصف صاع في الجميع.
ومتى اختار الصيام: يقوِّم المِثْل بالدراهم، والدراهم بالطعام، ثم يصوم عن كل مسكين يومًا.
مثال:
قتل صيدًا قيمة مِثْلِه (300 ريال)، وهي قيمة (60 صاعًا)، والصاع = 4 أمداد، فيكون الناتج 60 × 4 = 240 مُدًّا، فيصوم عن كل مُدٍّ يومًا، فيصوم (240) يومًا، هذا إذا قلنا يعطي مدًّا لكل مسكين.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"الضرب الثاني: على الترتيب، وهو: المتمتع يلزمه شاة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. وفدية الجماع بدنة، فإن لم يجد فصيام كصيام المتمتع، وكذلك الحُكْم في دم الفوات، والمحصَر يلزمه دمٌ، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام".
الضرب الثاني: ما هو على الترتيب:
وهو أربعة أنواع:
النوع الأول: دم المتعة والقِران:
يجب فيه الهَدْي، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، والدليل قوله – تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].
"والقارن": وهذا عند جمهور العلماء، وخالف في ذلك الظاهرية.
 
والهدي هو ما يجزئ في الأضحية: شاة، أو سُبْع بدنة أو بقرة، يقول ابن عمر - رضي الله عنه -: "كنا نتمتع مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فنذبح البقرة عن سبعة، نشترك فيها". 
وشروط الهدي:
1- أن يكون من بهيمة الأنعام.
2- أن يكون سليمًا من العيوب المانعة من الإجزاء في الأضاحي.
3- أن يكون في زمان الذبح ومكانه.
فمن لم يجد هَدْيًا صام ثلاثة أيام في الحج، وصيام الثلاثة الأيام التي في الحج يتصور فيها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يصومها المُتَمَتِّع قبل إحرامه بالعمرة والحج، فهذا لا يجوز باتفاق العلماء، ونُقل عن الإمام أحمد رواية؛ لكن أنكرها ابن قدامة وقال: "يُنَزَّه أحمد عن مثل هذا، وذلك لأنه تقديم لها على سببها".
 
الحالة الثانية: بعد الإحرام بالعمرة وقبل الإحرام بالحج، اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: وهو مذهب المالكية والشافعية، أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج؛ لأنه
قال: {فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196].
القول الثاني: وهو مذهب الحنفية والحنابلة: أنه يجوز الصيام إذا أحرم بالعمرة، وفي رواية عند أحمد إذا حلَّ من العمرة، ودليلهم على جواز الصيام في العمرة: أن إحرام العمرة أحد إحرامي المُتمتِّع، و{فِي الْحَجِّ} فيه تقدير: (وقت الحج أو أشهره)، ويجوز التقديم على وقت الوجوب؛ لوجود السبب، كتقديم الكفارة على الحِنْث.
 
الحالة الثالثة: بعد الإحرام بالحج، اختلف العلماء في وقتها في الحج على أقوال:
القول الأول: يصوم بين إحرامه بالحج ويوم عرفة، بحيث يكون آخرها يوم عرفة، فيُحرِم قبل فجر يوم السابع؛ حتى يصوم: (السابع، والثامن، والتاسع)، وهذا قول الحنابلة.
القول الثاني: عند الشافعي يجعل آخرها يوم التروية؛ لأن الصيام بعرفة مكروه.
ويقول الحنابلة: جاز صيام يوم عرفة للحاجة.
فإن لم يصم قبل أيام التشريق صام أيام التشريق؛ لقول ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما -: "لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمَن لا يجد الهدْي". 
ومِن العلماء مَن استدل على عدم جواز الصيام فيها بقوله – صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم من حديث نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ: ((أيامُ التشريق أيامُ أكل وشرب، وذكر لله))؛ لأنه صرَّح بأنها أيام أكل وشرب وذكر لله؛ أي لا تُصام.
 
وسبعة أيام إذا رجع: أي إذا رجع إلى أهله، وهل يجوز في الطريق؟ للعلماء قولان:
القول الأول: الجواز، ذهب إليه الحنابلة والمالكية والحنفية.
القول الثاني: عدم الجواز، ذهب إليه الشافعية، وهذا هو الظاهر؛ لأن قوله: {إِذَا رَجَعْتُمْ} 
قد جاء مفسَّرًا في حديث ابن عمر في الصحيحين: ((إذا رجع إلى أهله)).
ملحوظة: لا يشترط التتابع في صيام المتمتِّع ولا التفريق، لا في الثلاثة، ولا في السبعة، والله تعالى أعلم.
 
النوع الثاني: فدية الوطء:
يجب فيه بدنة، فإن لم يجد صام عشرة أيام؛ ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع؛ كدم المتعة، لقضاء الصحابة به، قياسًا على التمتع.
النوع الثالث: دم الفوات:
والمراد بالفوات: فوات الحج، وهو أن يأتي عرفة بعد فجر يوم النحر، والدليل قول عمر لهَبَّار بن الأسوَد لما فاته الحج: "إذا كان عام قابل فاحجج، فإن وجدت سَعَة فأهدِ، فإن لم تجد فصُمْ ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت، إن شاء الله"، ويتحلل بعمرة.
النوع الرابع: الإحصار:
أصل الحصر: المَنْع، يقال: حَصَرَه العدو فهو محصور، وأحصره المرض فهو محصَر، هذا ما قاله أكثر أهل اللغة، فقوله – تعالى -: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5] في العدو (مِن حَصَرَ)، وفي غير العدو قوله – تعالى -: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273]؛ أي أحصرهم الفقرُ والحاجة، وقيل عكسه.
 
وقد اختلف العلماء في معنى الإحصار في قوله – تعالى -: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: المراد به حصر العدو خاصَّة، دون المرض ونحوه، وهذا قول المالكية والشافعية، والمشهور عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك: 
أولاً: بسبب نزول الآية، وهو صدُّ المشركين النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وهم مُحرِمُون بعمرة عام الحديبية، وصورة سبب النزول قطعية الدخول؛ فلا يمكن إخراجها بمخصص.
ثانيًا: ما ورد من الآثار عن الصحابة في أن المحصَر بمرض لا يتحلل؛ إلا بالطواف والسعي، من ذلك:
1- ما رواه الشافعي في مسنده عن ابن عباس أنه قال: "لا حَصْرَ إلا حصر العدو"؛ قال النووي في "المجموع": إسناده على شرط البخاري ومسلم، وصححه ابن حجر.
 
2- ما رواه البخاري والنسائي عن ابن عمر أنه قال: "أليس حَسْبُكم سُنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إن حُبِسَ أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم يَحِلُّ من كل شيء حتى يحج عامًا قابلاً، فيُهدي، أو يصوم إن لم يجد هديًا".
و في دَلالة هذا الحديث على المراد نَظَرٌ؛ لأنه لم يقُل إن الحبس من مرضٍ، إلا أن يقال: إنه عامٌّ في كل حبس، وخرج حبس العدو بالإجماع - لو صح - وبقي ما عداه على الأصل.
القول الثاني: الإحصار عامٌّ في العدو وغيره؛ كالمرض، وذهاب النفقة، وجميع العوائق المانعة من الوصول إلى الحرم، وممن قال بهذا ابن مسعود ومجاهد، وهو مذهب أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام، واستدلوا بما رواه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي، عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري - رضي الله عنه - قال: "سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَنْ كُسِرَ أو عَرِجَ فقد حَلَّ، وعليه حجة أخرى))؛ وذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق"؛ صحح النووي إسناده.
القول الثالث: أن الإحصار خاص بالمرض؛ بناءً على المعنى اللغوي.
 
وقد اختار الشيخ الأمين - رحمه الله تعالى - أن الإحصار خاص بالعدو دون غيره.
والظاهر - والله تعالى أعلم - أن الإحصار عام في العدو وغيره.
قول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "المحصر يلزمه دمٌ"؛ لقوله – تعالى -: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. 
وقوله - رحمه الله تعالى -: "فإن لم يجد فصيام عشرة أيام"، اختلف العلماء فيمن لم يجد هديًا، فهل له بدل أو لا؟ على قولين:
القول الأول: لا بدل له، وهو قول المالكية والحنفية؛ لأنه لم يُذكر في القرآن، واختلف هؤلاء على قولين:
القول الأول: إن لم يجد هديًا يبقى محرِمًا حتى يجد هديًا، أو يطوف، وهو قول الحنفية.
القول الثاني: إن لم يجد هديًا حَلَّ بدونه، وإن تيسر له بعد ذلك هدي.

القول الثاني: أن له بدلاً، واختلف هؤلاء في البدل على أقوال:
1- صوم عشرة أيام: وإلى هذا ذهب الإمام أحمد والشافعي في إحدى الروايات؛ لأنه ترك واجبًا من واجبات الحج، فأشبه المتمتِّع الذي ترفَّه بترك أحد السفرين.
2- الإطعام: في أصح الروايات عند الشافعية، فتُقوَّم الشاة ويتصدق بقيمتها طعامًا، فإن عجز صام عن كل مُدٍّ يومًا (قياسًا على جزاء الصيد)، وقيل إطعام فدية الأذى (إطعام ثلاثة آصُع لستة مساكين).
3- صوم ثلاثة أيام:
قال الشيخ الأمين - رحمه الله تعالى -: "وليس على شيء من هذه الأقوال دليل واضح، وأقربها قياسه على التمتع".
 
والظاهر - والله تعالى أعلم -: أنه لا صيام عليه:
1- لأنه لم يذكره في القرآن.
2- لم يأمر به النبي – صلى الله عليه وسلم - مَن معه، ولا بد أن يكون فيهم مَن لم يجد الهدي، والمنقول أنهم تحللوا جميعًا، ومَن يقول بالبدل يقول لا يتحلل حتى يصوم.
متى يحصل تحلل المحصَر؟
يحصل تحلل المحصر بثلاثة أشياء:
1- النية، لأن المحصر يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها؛ فافتقر إلى النية، ولأن الذبح قد يكون لغير الحِلِّ، فلم يتخصص إلا بقصده، بخلاف الرمي فإنه لا يكون إلا للنسك، فاحتاج إلى قصده.
2- ذبح الهدي، أو الصيام عند مَن يرى ذلك، والدليل على النحر الآية.
قال ابن قدامه: "فإن نوى التحلل قبل الهدي أو الصيام، لم يتحلل، وكان على إحرامه حتى ينحر الهدي أو يصوم... إلى أن قال: فإن فعل شيئًا قبل ذلك فعليه فديته". 
3- الحلق، الصحيح أنه نسك لا بد منه لأمر النبي – صلى الله عليه وسلم - للصحابة - رضي الله عنهم – بذلك.
مسألة: على القول بأن الحلق نسك، فأيهما يُقدَّم النحر أو الحلق؟
الجواب: يقدم النحر وذلك لما يأتي:
1- ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه نَحَرَ قبل أن يَحلِق في عمرة الحديبية، وفي حجة الوداع.
2- دل القرآن على أن النحر قبل الحلق في موضعين:
الموضع الأول: قوله – تعالى -: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].
 
الموضع الثاني: قوله – تعالى -: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، فقوله – تعالى -: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}؛ أي ذكر اسمه – تعالى - عند نحر البدن، وقد قال - تعالى - بعده عاطفًا بثم، التي هي للترتيب: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، وقضاء التفث يدخل فيه - بلأنزاع - إزالةُ الشعر بالحلق.
لكن مَنْ قدَّم فلا حرج عليه؛ لعموم قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((افعل ولا حرج)).
مسألة: ولا يجب على المحصَر قضاءٌ؛ إلا إذا كانت حجتُه حجةَ الإسلام، أو كانت نذرًا، والدليل أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يأمر مَنْ كان معه بالقضاء، ولم يعتمر معه في عمرة القضية جميعُ مَن صُدَّ في الحديبية، فكانوا في عمرة الإحصار (1400) ألف وأربعمائة، وفي القضية أقل من ذلك، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء؛ لأنها العمرة التي قاضاهم عليها، فأضيفت العمرة إلى مصدر فعله.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ومَن كرر محظورًا من جنسٍ - غير قتل الصيد - فكفارة واحدة، فإن كفَّر عن الأول قبل فعل
الثاني سقط حُكْم ما كفر عنه. وإن فعل محظورًا من أجناس، فلكل واحد كفارة".
تكلم المؤلف - رحمه الله تعالى - هنا عن حُكْم مَن كرَّر محظورًا:
مَن كرر محظورًا، لا يخلو ذلك المحظور من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون من جنسٍ واحد:
كمَن حَلَقَ أكثر من مرة، أو قلَّم أظفاره أكثر من مرة، فهذا فيه كفارة واحدة، إذا لم يكفر عن الأول؛ إلا جزاء الصيد، فإذا صاد غزالين - ولو في رمية واحدة - فعلى كل واحد جزاء. 
 
الحالة الثانية: أن يكون من أجناس:
كأن يحلق رأسه، ويتطيب، ويصيد؛ ففي كل واحد كفارة.
وبناءً على ذلك نقول إن فاعل المحظور له حالتان:
الحالة الأولى: ما يلزمه فيه كفارة واحدة، وذلك بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون المحظور من جنس واحد.
الشرط الثاني: ألا يكون قد كفَّر عن الأول.
الحالة الثانية: ما يلزمه أكثر من كفارة، وذلك في الحالات التالية:
1- إذا كان المحظور (قتلَ صيدٍ)، ولو كان من جنس واحد.
2- إذا كان المحظور من أجناس متعددة.
3- إذا كفر عن المحظور الأول.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عَمْدُه وسَهْوُه، وسائر المحظورات لا شيء في سهوه".
قسم المؤلف - رحمه الله تعالى - المحظورات إلى قسمين:
القسم الأول: لا تأثير للخطأ فيه؛ فيستوي عمده وسهوه:
وهو كل ما فيه إتلاف لا يمكن تلافيه، وهي أربعة محظورات: الحلق، والتقليم، والوطء، وقتل الصيد.
القسم الثاني: قسم للخطأ فيه تأثير:
وهو ما عدا ذلك من محظورات الإحرام؛ كالطيب، واللباس، واستدلوا على هذا بحديث يعلى ابن أمية المتقدم، حيث أمره النبي – صلى الله عليه وسلم - بغسل الطيب ونزع الجبة، ولم يأمره بالفدية، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فدلَّ على أن الجاهل معذور، والناسي مثله، وكذلك الإكراه؛ لأنه يمكن تدارك الخطأ في ذلك بأن يزيل الطيب، أو ينزع اللباس.
 
والظاهر - والله تعالى أعلم -: أن الناسي لا شيء عليه في الجميع؛ لقوله – تعالى -: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]،قال الله: قد فعلتُ.
وبخصوص الصيد قال – تعالى -: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95]، فنصَّ على العَمْد، فدلَّ على أن الناسي لا شيء عليه.
فإن قيل: أليس إذا قتل إنسانًا، أو أتلف مالَ غيره ناسيًا عليه الضمان؟
نقول: بلى؛ ولكن هذا إذا تعلق بحق الآدمي، أما حق الله فقد رفع عنه المؤاخذة.
وتنقسم المحظورات من حيث العمد إلى قسمين:
القسم الأول: لا فدية فيه، وهو عقد النكاح. 
 
القسم الثاني: فيه الفدية بالإجماع، وهي: الحلق، والتقليم، والوطء، وقتل الصيد، والطيب، واللباس.
فائدة: مَن ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام، لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يرتكب المحظور عالمًا، ذاكرًا، عامدًا، من غير عذر، فهذا عليه أمران:
الأمر الأول: الفدية.
الأمر الثاني: الإثم.
 
وهنا يجب التنبيه على أمرٍ تساهل فيه كثير من الناس، حيث يَرتكب المحظور، ويَترك المأمور، ويقول أفدي ويكفي، وهذا تساهل ناجم عن الجهل بتعظيم حرمات الله، وعن سوء الفَهْم لكلام العلماء، فقد شدد الله وحذَّر من ارتكاب المحظورات، فقال – سبحانه -:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94]،فانظر كيف ختم الآية بهذا الوعيد الشديد! وكذلك ختم الآية التي بعدها، بعد أن بيَّن أحكام الصيد وجزاءه، فقال: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}[المائدة: 95]، قال شريح وسعيد بن جبير: "يحكم عليه في أول مرة، فإذا عاد لم يحكم، وقيل له: اذهب ينتقم الله منك!"، ومما يجب أن يعلمه هذا المتساهل أن أهم مقصد من العبادات تحقيقُ تقوى الله، ولا تحصل إلا بفعل المأمور واجتناب المحظور، وهذا شرط في قبول الأعمال عند الله – تعالى - لقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27]، فلا يثاب على عمل لا تقوى فيه، وإن كان جميع الفقهاء سيفتونه بظاهر الحُكْم، ولا يرون فساد حجه بذلك؛ لكن ليس كل عملٍ حَكَمْنا بصحته من حيث النظر الفقهي، يكون مقبولاً عند الله؛ فصلاة شارب الخمر والآبق صحيحة، لا يؤمرون بقضائها، وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تُقبَل منه. 
 
وقد جاء الأمر بالتقوى في الحج في قوله – تعالى-: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، وفي قوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203].
فعلى المسلم أن يتأمل قصده من الحج، أليس قصده أن تُغفر ذنوبه وتُكفر سيئاته، ويرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويكون حجه حجًّا مبرورًا ليس له جزاءٌ إلا الجنة؟!
إذا كان هذا قصده، فعليه أن يحرص على فعل مأمورات الحج وترك محظوراته.
الحالة الثانية: أن يرتكب المحظور عالمًا، ذاكرًا، متعمدًا لعذر: فهذا عليه الفدية ولا إثم عليه للآية، ولحديث كعب ابن عُجرة المتقدم.
الحالة الثالثة: أن يرتكب المحظور جاهلاً، أو ناسيًا، أو مخطئًا: فهذا فيه الخلاف المتقدم، والظاهر أنه لا شيء عليه. والله أعلم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم؛ إلا فدية الأذى، فإنه يفرقها في الموضع الذي حلق به، وهدْي المحصَر ينحره في موضعه، وأما الصيام فيجزئه بكل مكان".
 
الفدية من حيث موضعها على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يفعل داخل الحرم:
1- الهدي الواجب والمستحب؛ مثل هدي التمتع والقِران؛ لقوله – تعالى -: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]،ومحله الحرم.
2- الهدي الذي لترك واجب؛ لأنه هدي وجب لترك نسك.
3- جزاء الصيد، لقوله – تعالى -: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
القسم الثاني: ما يُفعل حيث وُجِد سببه:
1- فدية الأذى لحديث كعب بن عُجْرة، حيث أمره بالفدية بالحديبة، ولم يأمره أن يبعثه إلى الحرم، وكذلك اللباس، والطيب، وتغطية الرأس.
2- هدي المحصَر حيث أحصر؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - نحر في الحديبية بالحل، باتفاق أهل السير.
 
القسم الثالث: ما يفعله حيث شاء:
وهو الصيام، يفعله حيث شاء باتفاق العلماء؛ إلا في التمتع كما تقدم. 
المراد بمساكين الحَرَم: "مَن كان داخل حدود الحرم، سواء كانوا من أهله المقيمين فيه، أو من الوافدين عليه من الحجاج ممن يجوز دفع الزكاة إليهم".
قاعدة: "ما جاز ذبحه خارج الحرم حيث وُجد سببه، جاز في الحرم ولا عكس".
ضابط: "ما وجب لترك واجبٍ ملحقٌ بدم المتعة"؛ أي أن المتمتع عليه هدي، فإن لم يجد صام عشرة أيام، فقاسوا ما وجب لترك واجب على هدي التمتع؛ لأن التمتع فيه ترفُّه بترك أحد السفرين، وهذا فيه ترك لما وجب عليه، فأشبهه من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
 
باب دخول مكة 
هذا الباب عقده المؤلف - رحمه الله تعالى - ليُبيَّن ما ينبغي أن يفعله الحاج والمعتمر في داخل مكة، ومعظم مسائل هذا الباب هي مشتركة بين الحج والعمرة، تدور على ما يفعله داخل مكة منذُ دخولها، و في داخل الحرم من طواف وسعي، والهيئات التي ينبغي أن يأتي بها، وسيأتي - إن شاء الله - بعد هذا الباب بابٌ يختص بصفة الحج.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"يُستحب أن يدخل مكة مِن أعلاها".
 
أي يستحب أن يدخل الحاج أو المعتمر مكة من أعلاها، وهذا ثابت في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - دخل مكة من أعلاها وخرج من أسفلها"، وجاء مفسَّرًا في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في الصحيحين قال: "دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم - من كَدَاءٍ من الثنية العليا، وخرج من الثنية السفلى"، وكذلك ثبت عن عائشة - رضي الله عنه - أنها قالت: "دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم - من كَداء وخرج من كُدا"، فهذا موضع دخول النبي – صلى الله عليه وسلم – مكة، فقد دخلها من أعلاها من جهة كَداء (وهو ما يُعرف الآن بالحجون، ومن جهة المعلاة التي هي مقبرة أهل مكة) من هذا الطريق دخل النبي – صلى الله عليه وسلم - وهناك ضابط لطيف ينبغي للإنسان أن يعرفه بين كَداء وكُدا، فيقال: افتح وادخل، واضمم واخرج؛ يعني أنه إذا أردت أن تعرف من أين دخل النبي – صلى الله عليه وسلم - فهو دخل من كَداء بالفتح، وخرج من كُدا بالضم. 
 
مسألة: هل كان دخوله – صلى الله عليه وسلم - مكة من هذا الطريق لأمرٍ يختص به؛ أي على سبيل التعبُّد والتقرب، أو حصل منه ذلك اتفاقًا؛ لأنه هو الطريق المتيسر له؟
الجواب: انقسم العلماء في هذه المسألة إلى فريقين: منهم مَن يرى أن هذا حصل من النبي – صلى الله عليه وسلم – اتفاقًا؛ لأن هذا الطريق هو الأيسر له، فكل إنسان يدخل إلى الحرم من الطريق الأيسر له، فمن كان من جنوب مكة دخل من جنوبها، وإذا كان من شمالها دخل من شمالها، بحسب ما يتفق له.
ومنهم مَن قال: إن النبي – صلى الله عليه وسلم - دخل من هذا الطريق لقصدٍ فيه، أو لأمرٍ يختص به، فينبغي لكل داخل إلى مكة - حتى وإن جاء من جنوبها، أو من شرقها، أو من غربها - أن يدخل من الطريق الذي دخل منه النبي، صلى الله عليه وسلم.
وهناك أمر آخر ينبغي للإنسان أن يعلمه، وهو: أنه يستحب لداخل مكة أن يغتسل، فقد ثبت هذا في الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنه -: "أنه كان إذا دخل أدنى الحرم، أمسكَ عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى (وهي آبار الزاهر)، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، وكان يُحدِّث أن النبي – صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك"، وهذا الغسل هو أحد الأغسال الثابتة في الحج؛ فإن الثابت ثلاثة أغسال:
  • الأول: عند الإحرام.
  • الثاني: عند دخول مكة.
  • الثالث: بعرفة.
ولم يثبت غيرها على سبيل التقرُّب، أما إذا احتاج الإنسان إلى الغُسل، فله أن يغتسل في أي وقت، وفي أي مكان.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويدخل المسجد من باب بني شيبة؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - دخل منه".
ورد ذلك في حديث عند البيهقي وغيره، وباب بني شيبة هو المسمَّى بباب السلام.
 
ويقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فإذا رأى البيت رفع يديه".
رفع اليدين عند رؤية البيت ثابت في "مصنَّف ابن أبي شيبة" موقوفًا على ابن عباس بسند صحيح، ولم يَثبُت مرفوعًا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - وهناك حديث: ((أنه لا ترفع الأيدي إلا في سبعةِ مواطن)) وذكر منها عند رؤية البيت؛ لكنه ضعيف، لكن رفع اليدين عند رؤية البيت ثابت من فعل ابن عباس، رضي الله عنه. 
 
وحين نقول "يرفع اليدين" يعني يرفع يديه كرفعها للدعاء، لا كما يفعله كثيرٌ من الناس أنه يُشير إلى البيت، فإن هذه الإشارة ثابتة فقط عند الحَجَر، لمن لم يستطع أن يستلمه.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وكبر الله وحمده".
التكبير جاء عند البيهقي في حديث مرسل عند رؤية البيت.
"ودعا".
الدعاء ثبت عند البيهقي بسند حسن عن سعيد بن المُسَيَّب قال: "سمعت من عمر - رضي الله عنه - كلمةً ما بقي أحدٌ من الناس سمعها غيري، سمعته يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام"، فهذا ثابت عن عمر، رضي الله عنه.
ويستحب أن يقول عند دخول المسجد الذكر الوارد في عامة المساجد.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمرًا، أو بطواف القدوم إن كان مفرِدًا أو قارنًا".
أول ما يفعله الحاج أو المعتمر هو الطواف بالبيت، فينبغي أن لا يلوي على شيء إذا دخل مكة، وليكن أول ما يبدأ به هو الطواف بالبيت، كما فعل النبي – صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أول ما دخل مكة توضأ ثم طاف بالبيت"، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون مِن بعده، فقال العلماء يستحب للإنسان أن يبدأ بالطواف قبل كل شيء؛ قبل استئجار المحل، وقبل أن ينظر في أي أمر من أموره.
وهذا الطواف إما أن يكون طواف قدوم، ويكون في حق القارن والمفرِد، أو يكون طواف العمرة فيمن أتى بعمرة منفردة، أو في حق المتمتع، وقد ذكر النووي - رحمه الله تعالى - لهذا الطواف خمسة أسماء فقال:
يسمى طواف القدوم، والقادم، والورود، والوارد، والتحية.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فيضطبع بردائه، فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر".
الاضطباع: افتعال من الضَّبُع، وهو عضد الإنسان، وأصل اضطبع: (اضْتبع) ولكن قُلِبت التاء طاءً؛ لأن التاء إذا جاءت بعد ضاد أو صاد ساكنة قُلبتْ طاءً، كما تقول اصطبر فأصلها اصْتبر. 
والمراد بالاضطباع: هو أن يَجعل وسطَ الرداء تحت كتفه اليمنى، ويجعل طرفيه على كتفه اليسرى؛ فيخالف بين طرفيه، وهذا ثابت عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
 
ملحوظة: الاضطباع لا يكون إلا في طواف القدوم خاصة.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويبدأ بالحجر الأسود فيستلمه ويُقبِّله".
الاستلام: افتعال، إما من السَّلام وهو التحية، أو السِّلام وهو الحجر، يقال استلم الحجر إذا مسه؛ لأن الحجر يسمى السِّلام.
والمراد باستلام الحجر هو: مسه ومسحه باليد.
 
ولاستلام الحجر ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أن يستلمه ويُقبِّله ويسجد عليه، وهذا اتباع واقتداء بسُنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت هذا في أحاديث كثيرة، منها:
1- حديث الزبير بن عربي قال: "سأل رجلٌ ابن عمر - رضي الله عنه - عن استلام الحجر فقال: "رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويُقبِّله"، قال: "أرأيت إن زُحِمْتُ؟ أرأيت إن غُلِبتُ؟"، قال له ابن عمر - رضي الله عنه -: "دع أرأيت في اليمن، رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله!".
2- حديث عمر - رضي الله عنه - الثابت في الصحيحين أنه قبَّل الحجر، وقال: "والله إني لأقبِّلُك، وإني أعلم أنك حجرٌ؛ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم - يقبِّلُك ما قبَّلتك".
 
وأما السجود على الحجر: فثابت عن عمر وابن عباس، في مسند الطيالسي، ومستدرك الحاكم كما في "إرواء الغليل"، والله تعالى أعلم.
وفي تقبيل الحجر الأسود ثواب عظيم، فقد ثبت في سنن الترمذي، ومستدرك الحاكم، وصحيح ابن خزيمة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليبعثن الله الحجر يوم القيامة، له عينان يُبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على مَن استلمه بحق)).
المرتبة الثانية: أن لا يستطيع الإنسان تقبيله؛ لكنه يستطيع أن يستلمه بشيء، فإذا لم يستطع أن يقبِّل الحجر، فإنه يَمَسُّ الحجرَ إما بيده أو بشيء معه، ثم يُقبِّل ما استلمه به، ويدل على هذا: 
1- حديث ابن عمر في صحيح مسلم، عن نافع قال: "رأيت ابن عمر - رضي الله عنه - يستلم الحجر بيده، ثم قبَّل يده، وقال: "ما تركته منذُ رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يفعله".
2- حديث أبي الطفيل، الثابت في صحيح مسلم: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قبّل الركن بمحجن، ثم قبَّل المحجن".
المرتبة الثالثة: أن يُشير إليه إشارة، ولا يُقبِّل ما أشار به إليه، وهذا ثابت في صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "طاف رسول الله – صلى الله عليه وسلم - على بعيرٍ، كلما أتى الركن أشار إليه بشيء عنده وكبَّر".
 
قال المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد، صلى الله عليه وسلم".
قوله: "بسم الله" ثابت عن ابن عمر - رضي الله عنه - عند استلام الحجر، قال الحافظ في "التلخيص": روى البيهقي والطبراني في الأوسط والدعاء، من حديث ابن عمر: "أنه كان إذا استلم الحجر قال: بسم الله، والله أكبر"؛ وسنده صحيح.
قوله: "الله أكبر" ثابت في حديث ابن عباس السابق: "كلما أتى الحجر أشار إليه بشيء عنده وكبَّر".
قوله: "اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد، صلى الله عليه وسلم"، فهذا ورد فيه حديث؛ لكنه ضعيف.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ثم يأخذ عن يمينه، ويجعل البيت عن يساره".
 
حينما يستلم الإنسانُ الحجرَ، فإنه يكون مستقبلاً للحجر، ثم يأخذ على يمينه، فيكون البيت عن يساره، وهذا هو الوارد عن النبي – صلى الله عليه وسلم - ولو عكس لم يجزئ.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فيطوف سبعًا؛ يرمُل في الثلاثة الأُوَل من الحجر إلى الحجر، ويمشي في الأربعة الأخرى".
الرمل هو: الإسراع مع مقاربة الخُطا بدون وثب، فيرمل في الأشواط الثلاثة الأول، ويدل على هذا:
1- حديث ابن عمر - رضي الله عنه - الثابت في صحيح مسلم: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - خبَّ ثلاثًا ومشى أربعًا". 
2- حديث جابر - رضي الله عنه - الثابت: "أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - رمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر".
ملحوظة: الرمل في طواف القدوم خاصة.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وكلما حاذى الركن اليماني والحجر استلمهما وكبَّر وهلَّل".
الأركان بالنسبة للاستلام والتقبيل والإشارة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ركنٌ يُقبَّل ويُستلم ويُشار إليه، وهو الحجر الأسود، و كلما حاذاه استلمه وكبَّر، كما ورد في المرة الأولى.
مسألة: هل في الشوط الأخير من الطواف، يستلم ويكبِّر أو لا؟
الجواب: الذي يُفهم من كلام ابن عباس أنه قال: "كلما أتى الركن أشار إليه بشيء عنده وكبَّر" وكلمة: (كلما) من ألفاظ العموم، فيُفهم منه أنه يفعل ذلك في جميع الطواف بما في ذلك الشوط الأخير.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إنما يكون التكبير والاستلام في بداية الشوط.
القسم الثاني: يُستلم ولا يُقبَّل ولا يُشار إليه، وهو الركن اليماني، وهذا ثابت عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يستلم إلا الركنين اليماني والأسود".
 
القسم الثالث: لا يُستلم ولا يُقبَّل ولا يُشار إليه، وهما الركنان الشاميان، وقد ورد في مسند أحمد وغيره: "أن معاوية - رضي الله عنه - لمّا طاف جعل يستلم الأركان كلها، فقال له ابن عباس: لِمَ تستلم الركنين (يعني الشاميين) ولم يستلمهما النبي – صلى الله عليه وسلم -؟! قال: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة، قال: صدقت".
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويقول بين الركنين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار".
هذا وارد في سنن أبي داود أن النبي – صلى الله عليه وسلم - كان يقول ذلك، وقد ورد هذا اللفظ أيضًا في القرآن بعد سياق أحكام الحج.
"ويدعو في سائره بما أحب".
أي ويدعو في سائر الطواف بما أحب، فليس هناك شيء يخص الطواف من الأدعية؛ غير هذا الدعاء الوارد عن النبي – صلى الله عليه وسلم - ولم يَثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من ذلك؛ لا من قوله، ولا من فعله، ولا من تعليمه؛ بل للإنسان أن يدعو، وأن يقرأ القرآن، وأن يُسبح الله وأن يحمده وأن يهلله، وأن يقول ما شاء من الذكر، وهو أقرب إلى خشوع القلب وإلى حضوره؛ لأن الإنسان حينما يقرأ من كتاب، أو يسمع مُطوِّفًا يطوِّفه، فإنه ربما لا يعقل معنى ما يقول، ويحصل أيضًا فيه إساءة للآخرين من الضجيج الذي يحصل حول الطواف، فكل إنسان يرفع صوته على الآخر، فيتشوش الطائف، ولا يعرف ماذا يقول.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ثم يصلي ركعتين خلف المقام".
لما ثبت في حديث جابر قال: "ثم نفذ النبي – صلى الله عليه وسلم - إلى المقام فقرأ:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، ويصلي ركعتين يقرأ في الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]".
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويعود إلى الركن فيستلمه".
وذلك لما ثبت في الصحيح من حديث جابر: "أنه رجع إلى الركن فاستلمه بعد الركعتين"، ثم يرجع إلى السعي.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ثم يخرج إلى الصفا من بابه، فيرقى عليه، ويكبِّر الله ويهلِّله ويدعوه، ثم ينزل فيمشي إلى العَلَم، ثم يسعى إلى العَلَم الآخر، ثم يمشي حتى يأتي المروة فيفعل كفعله على الصفا، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، حتى يُكمل سبعة أشواط، يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعية، يفتتح بالصفا ويختم بالمروة".
 
هذا ما ينبغي للإنسان أن يفعله في السعي، وقد ثبت هذا كله في حديث جابر الطويل في 
الصحيح في صفة حجة النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثم خرج مِنَ الباب إلى الصفا، فلما دنا مِنَ الصَّفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، ((أَبدأُ بما بدأَ الله به))، فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحَّد الله، وكبَّره، وقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لهُ الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده))، ثم دعا بين ذلك، قال مثل ذلك ثلاث مراتٍ، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبَّت قدماهُ في بطن الوادي سعى (أسرع بين العَلَمين، وهما الآن معروفان في المسعى فيهما أنوار خضراء)، حتى إذا صعدتا، مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا"؛ يعني يستقبل القبلة، ويوحد الله، ويكبره، ويدعو، ويفعل ذلك ثلاث مرات.
 
وليس في هذا الحديث ولا في غيره أن الإنسان يُشير إلى الكعبة؛ بل عليه أن يرفع يديه إذا أراد أن يدعو، ولكن كثير من الناس يصعد على الصفا ويُشير بيده فهذا لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - لكن الثابت هو الدعاء، ورفع اليدين في الدعاء.
وقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "و يمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع
سعيه"؛ يعني يمشي في قدومه من المروة في الموضع الذي يقابله من الصفا، الذي مشى فيه في الأول، فإذا وصلْتَ إلى المكان الذي أسرعتَ فيه في الأول في بطن الوادي أسرعتَ؛ كما أسرعتَ وأنت ذاهب إلى المروة؛ لأنه لم يكن هناك حاجز موضوع في القديم - كما هو الحال الآن - بين الذاهب إلى المروة والقادم منها؛ بل كان المكان واحدًا.
مسألة: لو أن إنسانًا سعى سبعة أشواط؛ لكنه بدأ بالمروة ولم يبدأ بالصفا، فما الحُكْم؟
الجواب: لا يحتسب له الشوط الأول الذي بدأ فيه من المروة، وعليه أن يأتي بآخر؛ لأنه إنما فعل ستة فقط.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ثم يقصر من شعره إن كان معتمرًا وقد حلَّ؛ إلا المتمتع إن كان معه هدْي، والقارِن والمُفرِد فإنه لا يَحل".
إن كان معتمرًا قصَّر من شعره، هذا إذا كان معتمرًا عمرةَ تَمتُّعٍ؛ فالتقصير أفضل له لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أَمَر مَن كان معهم هدي أن يقصروا؛ لكن إذا كانت هذه العمرة ليست عمرةَ تمتُّع، فالأحسن أن يَحلِق، والقارن والمفرد ليس فيه إشكال أنه لا يحل.
مسألة: جاء في صحيح مسلم من حديث جابر: أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لَمَا سُقْتُ الهدْي، ولجعلْتُها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة))، يُفهم منه أن مَن معه هدي لا يحل، فهل المراد بهذا القارن أم المتمتع؟
الجواب: هذه الصورة على المذهب فيها إشكال، وهو: أنه كيف يكون متمتِّعًا، ولا يحل من عمرته؟ قالوا: يُدخِل الحج على العمرة إذا كان معه هدي، لكن هل يكون قارنًا؟ قالوا:
لا يكون قارنًا؛ بل يكون متمتعًا، وعليه طواف وسعي للحج؛ لكنه لا يحل.
و يُلغز بهذه المسألة فيقال: متمتع لم يحل بعد عمرته؟ والجواب: هو المتمتع إذا ساق الهدي.
 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والمرأة كالرجل، إلا أنها لا ترمل في طواف ولا سعي".
المرأة كالرجل فيما تقدم في جميع الأحكام؛ لكن ليس عليها رمل لا في الطواف ولا في السعي؛ أي أنها لا تهرول في السعي، وهذا ثابت عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "ليس على المرأة سعي في طوافها بالبيت، ولا بين الصفا والمروة".
ويقصد بالسعي هنا: الإسراع، أي الرمل، والسبب في ذلك هو أن هذا يؤدي إلى تَكَشُّف المرأة، وأيضًا المراد من الإسراع هو إظهار الجَلَد، والمرأة لا يُراد منها ذلك.
 
شروط الطواف:
المؤلف - رحمه الله تعالى - لم يتكلم عن شروط الطواف، ويا حبذا - رحمه الله تعالى - لو تعرض لها هنا؛ فهذا الموطن المناسب دون غيره، فمن شروط الطواف:
1- النية.
2- الطهارة من الأحداث والأخباث؛ أي أن يكون متطهرًا في بدنه وثيابه، والطهارة في البقعة التي يطوف عليها.
3- ستر العورة؛ كما قال – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يطوف بالبيت عريان)). 
4- دخول الوقت فيما يُشترَط له وقت؛ كطواف الإفاضة.
5- الموالاة، أن يوالي بين الأشواط لا يقطعها، فإذا أحدث أستأنف الطواف، وكذلك إذا فصل بين الأشواط بفاصل طويل، فإنه يستأنف؛ لكن لو كان الفاصل يسيرًا، أو أُقيمت الصلاة، أو صلى على جنازة؛ فإن هذا لا يضر.
6- أن يطوف بجميع البيت، فلو دخل من الحِجْر، فلا يكون هذا الطواف صحيحًا؛ لأن الحِجْر من البيت كما ثبت في الحديث، كذلك لو طاف على جدار الكعبة لا يُعتَدُّ بذلك.
7- أن يجعل البيت عن يساره.
8- أن يطوف سبعًا، أي أن يستوعب المطاف، فلو بدأ بعد الحجر بقليل أو بخطوة فلا يعتبر له ذلك الطواف، ويحل الثاني محل الأول.
فعُلِم من هذا أنه لو لم يتم السبعة؛ كأن يطوف ستة أو خمسة، أن طوافه لا يصح.
شروط السعي: 
1- النية. 2- أن يكون بعد طواف، ولو كان مسنونًا.
3- في المذهب الموالاة؛ لكن الصحيح عدم اشتراطها.
4- ينبغي أن يستوعب جميع المسعى؛ أي يستوعب جميع المكان بالسعي، فلو ترك خطوة منه لم يصح، والمراد باستيعاب المسعى هو: ما بين الصفا والمروة، أما صعود الصفا والمروة، فهذا ليس بشرط.
5- تكميل السبعة.
 
باب صفة الحج 
سيتكلم المؤلف - رحمه الله تعالى - في هذا الباب عن صفة الحج، وهو على وجه التحديد
ما يتعلق بفعل الحاج بيوم التروية، ومِنى، وعرفة، والنحر، فهو في هذا الباب يركز على الأعمال المتعلقة بهذه الأيام.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وإذا كان يوم التروية، فمَن كان حلالاً أحرم من مكة وخرج إلى عرفات".
ويوم التروية هو: اليوم الثامن من ذي الحجة، سُمي بذلك لأن الناس يتروون فيه الماء لمنى وعرفة.
وكل يوم من أيام الحج له اسم خاص به:
فاليوم الثامن: يوم التروية.
واليوم التاسع: يوم عرفة.
واليوم العاشر: يوم النحر.
واليوم الحادي عشر: يوم القر؛ لأن الناس يقرون فيه بمنى.
واليوم الثاني عشر: يوم النفر الأول.
واليوم الثالث عشر: يوم النفر الثاني. 
 
وهذه العبارة من المؤلف فيها اختصارٌ يُفهِم غير المراد، فهو في الحقيقة لا يخرج إلى عرفة؛ إنما يخرج إلى منى كما في حديث جابر - رضي الله عنه - في صفة حجة النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقُبَّة من شَعَر تُضرب له بنمرة".
 
ما يُسنُّ أن يفعله الحاج يوم التروية بمنى، سواء كان من أهل مكة المُقيمين بها أو كان ممن أتاها من الحجاج:
1- أن يُحرِم يوم الثامن من أي موضع، وليس بالضرورة أن يكون بمكة؛ بل يُحرم من المكان الذي هو نازلٌ فيه.
2- أن يُحرِم قبل الزوال؛ حتى يصلي بمنى خمس صلوات، كما صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر قال: "وركب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فصلى بها - أي بمنى - الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر".
3- أن يبيت بمنى ليلة عرفة؛ أي ليلة التاسع.
4- أن لا يخرج منها حتى تطلع الشمس، كما في حديث جابر قال: "وركب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فصلى بها - أي بمنى - الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس".
 
فهذه هي السنن التي لا ينبغي للإنسان أن يفرِّط فيها، فإن كثيرًا من الناس يتساهلون في هذه السنن، وذلك لسرعة المواصلات في هذا العصر، نعم قد يطرأ على الإنسان الحج؛ أمَّا أن يتساهل، وأن لا يذهب إلا في اليوم التاسع بعد أن يصلي الظهر، فهذا فيه مخاطرة بحجه؛ لأنه قد يفوته الحج، وتفوته سنن عظيمة أتى بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن فيها خيرًا عظيمًا.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: 
"وخرج إلى عرفات، فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر، يَجمَع بينهما بأذان وإقامتين، ثم يروح إلى الموقف - وعرفات كلها موقف إلا بطن عُرَنَةَ - ويستحب أن يقف في موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قريبًا منه على الجبل، قريبًا من الصخرات، ويجعل حبل المشاة بين يديه، ويستقبل القبلة، ويكون راكبًا، ويكثر من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، ويجتهد في الدعاء والرغبة إلى الله - عز وجل - إلى غروب الشمس".
 
هذه الأعمال التي يقوم بها الحاج في يوم عرفة، فالحاج يتوجه إلى عرفة بعد منى بعد أن تطلع الشمس - كما علمنا - والأصل في هذا حجة النبي – صلى الله عليه وسلم - لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - بيَّن الحجَّ بفعله وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم))، وقد جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - الطويل في صحيح مسلم: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - جاء نَمِرَة، ووجدها قد نُصبَ له بها قبةٌ من شعر، فنزل بها النبي – صلى الله عليه وسلم - حتى إذا زاغت الشمس، أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بالقصواء فرُحلَتْ له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أُذِّن ثم أُقيمت الصلاة، فصلى الظهر، ثم أُقيم فصلى العصر - أي جمع النبي – صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر - ثم ركب الرسول – صلى الله عليه وسلم - حتى أتى بطن الوادي، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، ولم يزل – صلى الله عليه وسلم - حتى غربت الشمس".
وما يفعله الحاج في يوم عرفة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ركن:
وهو الوجود بعرفة، وهذا يشترط فيه:
1- أن يكون في نفس عرفة؛ أي في أرضها، وليس في عُرَنَة ولا في نَمِرَة.
2- أن يكون أهلاً للعبادة؛ يعني لا يكون كافرًا، ولا مجنونًا ولا مغمى عليه، وأن يكون
مُحرِمًا.
3- أن يكون وقوفه في الوقت المحدد للوقوف، وهو من زوال الشمس يوم عرفة إلى فجر يوم
النحر.
والعلماء متفقون على أن آخر الوقوف هو طلوع الفجر من يوم النحر؛ لكنهم اختلفوا في أول الوقوف متى يكون؟ 
فعند الحنابلة أن الوقوف يوم عرفة يكون من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، واستدلوا على قولهم بحديث عُرْوَةَ بنِ مُضَرِّس أنه أتى إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - حين خرج للصلاة في مزدلفة، فقال: "يا رسول الله، جئت من جبال طيئ، أكلَلْتُ راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبلٍ إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟!" فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا؛ فقد تم حجه وقضى تفثه))، فبناءً على هذا قالوا: وقف ليلاً أو نهارًا؛ أي في أي ساعة، أو أي لحظة من ليل أو نهار وقف، ولو قبل الزوال؛ فالحج صحيح.
وجمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنفية على أن وقت الوقوف يكون من بعد زوال يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر.
وثمرة الخلاف: عند الجمهور مَن وقف قبل الزوال، ثم خرج من عرفة؛ فإن حجَّه ليس
بصحيح، وعند الحنابلة حجه صحيح، وإن كان ترك واجبًا، وهو الوقوف إلى غروب الشمس.
 
وأجاب الجمهور عن حديث عروة بن مضرّس بقولهم: إن هذا الحديث صحيح؛ لكن يُخصَّص بفعل النبي – صلى الله عليه وسلم - وبفعل الصحابة؛ فإنهم لم يقفوا إلا بعد الزوال، وفِعلُ – صلى الله عليه وسلم - مفسِّرٌ لقوله الثابت في حديث عروة بن مضرس. فلو وقف الإنسان بها بعد الزوال، ولو لحظة، ولو كان نائمًا؛ فإن وقوفه صحيح.
القسم الثاني: واجب:
وهو البقاء بعرفة إلى غروب الشمس، وسيأتي هذا في الواجبات حيث يذكرها المؤلف.
القسم الثالث: سُنة: وهي كثيرة منها:
1- النزول بنَمِرَة؛ كما نزل النبي – صلى الله عليه وسلم - إن تيسر ذلك، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: نزل النبي – صلى الله عليه وسلم – بنمرة، وصلى بعُرَنَة، ووقف بعرفة.

2- أن لا يدخل عرفة إلا بعد الزوال.
3- أن يغتسل ليوم عرفة؛ فقد ورد ذلك عن الصحابة، رضي الله عنهم.
4- أن يَجمَع بين الظهر والعصر جَمْعَ تقديم، ويقصر الظهر والعصر، وهذا على أصح الأقوال لجميع الحجاج، سواء منهم مَن كان مِن خارج مكة أو مَن كان مِن أهل مكة. 
5- أن يقف في موقف رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عند الصخرات؛ كما جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - والصخرات هي: مجموعة أحجار في أسفل جبل عرفة، وهذا غير الصعود إلى الجبل، فإنه لم يَرِدْ عن النبي – صلى الله عليه وسلم - وذكر النووي وشيخ الإسلام أنه لا مزية لهذا الجبل (المسمى جبل الرحمة) على غيره.
 
6- أن يكون مستقبلاً القبلةَ، كما جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: "واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس".
7- أن يكون مُفطِرًا في ذلك اليوم، كما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - ولأن هذا مما يُعينه على الدعاء، وعلى التضرع لله، عز وجل.
8- أن يكون راكبًا؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - وقف راكبًا على القصواء، وبعض العلماء قال: إن كان هذا ممن يُقتدَى به أو يستفتى؛ فينبغي له أن يقف راكبًا، وإلا فله أن يفعل ما يراه أصلح لقلبه، فإن رأى الأصلح له أن يركب ركب، سواء كان على راحلة، أو على سيارة، أو ما أشبه ذلك، وإن رأى أن الأفضل له ولقلبه هو أن يدعو الله جالسًا، ويذكره جالسًا فعل ذلك، والأمر واسع في هذا.
9- أن يفرغ نفسه وقلبه من الشواغل، وأن يكون همه ذكر الله - عز وجل - وأن يجتهد في هذا اليوم العظيم وفي هذا اليوم الكريم، الذي جاء في فضله عن رسول – صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم أنه قال: ((ما من يومٍ أكثر أن يعتق الله فيه عبدًا من النار مِن يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟))، وفي مسند أحمد: ((أن الله - عز وجل - يباهي بأهل عرفات أهلَ السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي؛ جاؤوني شُعْثًا
غُبْرًا))، فيجتهد العبد في هذا اليوم العظيم بالذكر والدعاء، وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أفضلُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))، والزيادة التي ذكرها المؤلف وهي قوله: "بيده الخير" في "شُعَب الإيمان" للبيهقي.
 
وإن قال قائل: إن هذا ثناء؛ وليس بدعاء؟ 
قلنا: قد وُجِّهَ هذا السؤالُ إلى سفيان بن عيينه - رحمه الله تعالى - فقال: "ألم تسمع قول القائل:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي = حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا = كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ"
فالله - عز وجل - رحيم بعباده، فينبغي للإنسان أن يُظهر فاقته في هذا اليوم العظيم، وأن يُظهر حاجته، وأن يتذلل و يخضع إلى الله، وأن يُظهر التوبة بين يدي الله - عز وجل - وأن يتوب إليه صادقًا من قلبه؛ فإن الله لن يَردَّه خائبًا، فعلى الحاج أن يجتهد في هذا اليوم العظيم، الذي يجتمع فيه الناس على ذلكم الصعيد، وكلٌّ يرجو من ربه مغفرة الذنوب، وكلٌّ يُنزل حوائجه بربه - تبارك وتعالى - فتراهم متضرعين خاشعين، القلوب منهم وجلة، والأبصار منهم خاشعة، والعيون دامعة، وكلهم يدعو ربه تبارك وتعالى، ولا تكاد تغيب الشمس في ذلك اليوم إلا ورأيت نفوسًا تكاد أن تتقطع؛ خوفًا ألا تعود إلى هذا اليوم مرة أخرى، فينبغي للإنسان أن يجتهد، وأن يُري الله من نفسه خيرًا في هذا اليوم العظيم.
 
وليس هناك ذِكْر محدد، لكنه يُكثر من هذا الذي ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - ويدعو بما شاء، ويحرص على جوامع الدعاء.
10- أن يُكثر من أعمال الخير في هذا اليوم، وأن يُحسن للمسلمين؛ لأن هذا اليوم من عشر ذي الحجة، التي قال فيها النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من عشر ذي الحجة))، قالوا: "ولا الجهاد في سبيل الله؟"، قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء))، فكيف إذا كان هذا اليوم اجتمع فيه هذا الفضل مع فضل يوم عرفة؟!
وقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "حبل المشاة"؛ يعني طريق المشاة، وأصل الحبل هو تَجمُّع الرمل، لكن أُطلق على مكان تجمع المشاة.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: 
"ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة على طريق المأزِمَيْن، وعليه السكينة والوقار، ويكون مُلبِّيًا، ذاكرًا لله عز وجل، فإذا وصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء قبل حطِّ الرحال، يَجمَع بينهما، ثم يبيت بها، ثم يصلي الفجر بغَلَسٍ، ويأتي المَشْعرَ الحرام فيقف عنده ويدعو، ويُستحب أن يكون من دعائه: اللهم وقفتنا فيه، وأريتنا إياه؛ فوفِّقْنا لذكْرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198 – 199]، ويقف حتى يسفر جدًّا، ثم يدفع قبل طلوع الشمس".
 
هذه الجملة التي ذكرها المؤلف وردت أيضًا في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: "فإن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً وغاب القرص، ثم دفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وشنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليُصيب مَوْرِكَ رَحْله، ثم قال للناس بيده اليمنى: ((السَّكينةَ السَّكينةَ))، فإذا أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما ثم اضطجع - صلى الله عليه وسلم - حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبيَّن له الصبح، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، ثم دفع حين طلعت الشمس"، وهذا هو مجموع ما ذكره المؤلف، رحمه الله تعالى.
ما يفعله الحاج في طريقه إلى مزدلفة:
1- ينبغي ألا يدفع قبل دفع الإمام، والمراد بالإمام هنا أمير الحج؛ لأن الحج لا بد له من أمير، وهذا منقول عن السلف. 
2- عليه بالسَّكينة كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - لما قال لهم: ((السكينةَ السكينةَ))، وفي حديث الفضل بن عباس: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - سمع وراءه زجرًا شديدًا وضربًا وصوتًا للإبل، فأشار – صلى الله عليه وسلم - بسوطه: ((أيها الناس، عليكم بالسكينة، فإن البِرَّ ليس بالإيضاع - أي ليس بالإسراع -)).
 
3- يدفع عن طريق المأزِمين، والمأزِمان تثنية مأزِم، والمأزِمُ هو الموضع بين جبلين، وهو بعد عرفة، فالنبي – صلى الله عليه وسلم - ذهب من طريق وهو متجهٌ إلى عرفة، وذلك عن طريق ضَبٍّ، ثم لما رجع عن طريق المأزمين.
وطريق ضَبٍّ: هو الطريق الموجود الآن، الذي إذا جئت معه كانت المزدلفة عن يسارك، وأنت ذاهب إلى عرفة، وطريق المأزمين هو الذي إذا جئت معه كانت المزدلفة عن يمينك، وأنت ذاهب إلى مزدلفة.
فالنبي – صلى الله عليه وسلم - ذهب من طريق ورجع من طريق آخر، وهذا كثير في فعل النبي - – صلى الله عليه وسلم - كما ورد في العيد، فإنه ذهب من طريق، ورجع من طريق آخر، وكذلك كما مرَّ معنا في دخول مكة، أنه دخل من كَداء وخرج من كُدًا.
4- أن يكون ملبيًا ذاكرًا لله - عز وجل - لأن الله - عز وجل - قال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 198]، وكما ثبت في حديث الفضل: "أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة".
ما يفعله الحاج إذا وصل مزدلفة:
1- أن يصلي بها المغرب والعشاء.
 
2- أن يعجِّل الصلاة قبل حطِّ الرحْل؛ كما في حديث أُسامة: "أنه أفاض مع النبي – صلى الله عليه وسلم - من عرفة، فنزل النبي – صلى الله عليه وسلم - الشِّعْب فبال، ثم توضأ ولم يُسبغ، فقال له أُسامة: "الصلاةَ"، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((الصلاةُ أمامك))، حتى أتى المزدلفة، فأُقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كلُّ إنسانٍ بعيرَه في منزله، ثم أُقيمت الصلاة فصلى العشاء، ولم يُسبح بينهما".
مسألة: هل يصلي الوتر ليلة مزدلفة؟ 
الجواب: الأحاديث التي تكلَّمتْ عن حجة النبي – صلى الله عليه وسلم - ليس فيها ذكر للوتر، وحتى كُتُب العلماء لم تتعرض للوتر: هل يُصلى أو لا يصلى؟ ففي حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في الصحيح قال: "إنه لم يسبح بينهما - أي بين المغرب والعشاء - ولا على أثر كل واحدةٍ منهما"؛ لكن قال بعض العلماء: إن الوتر يُصلى لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - ما كان يَدَعُه في سفرٍ ولا حضر، ولم يُذكْر للعِلْم به.
3- أن يبيت بمزدلفة، وسيأتي حكم هذا المبيت في واجبات الحج - إن شاء الله تعالى - وتفصيل ذلك من حيث الوقت.
4- يصلي بها الفجر، والسُّنة أن يصلي الفجر بمزدلفة في أول وقتها، وفي حديث ابن مسعود "حتى يقال أطلع الفجر أم لم يطلع؟"؛ حتى يتسع الوقت للذكر والدعاء.
 
5- ثم يقف بالمَشعَر الحرام، وسمي حرامًا؛ لحرمة الصيد به، أو لأنه من الحرم، أو لأنه ذو حرمة. والمشعر الحرام هو: جبلٌ صغير يسمى قُزَح. ومن العلماء من يرى أن المشعر الحرام مزدلفة كلها. ومزدلفة لها عدة أسماء منها: المشعر الحرام، وجمع، ومزدلفة.
فيقف بالمشعر الحرام كما وقف النبي – صلى الله عليه وسلم - إن تيسر له ذلك؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((وقفت ها هنا، ومزدلفة كلها موقف)). وكذلك قال في عرفة: ((وقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف)) وقال في منى: ((نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر))، وهذا من رحمة الله - عز وجل – بعباده؛ أنه لو لزم جميعَ الحجاج أن يقفوا في الموقف الذي وقف فيه الرسول – صلى الله عليه وسلم - لحصلت مفسدة عظيمة، ولا يمكن لأحدٍ أن يأتي بالحج بحال من الأحوال على هذه الصورة.
 
وهنا قاعدة عظيمة لو علمها كثيرٌ من الناس، لأراحوا أنفسهم من كثيرٍ من التعب والعناء الذي يجدونه، وهي:
"أن الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أَوْلى من الفضيلة المتعلقة بمكانها أو زمانها"؛ أي إذا كان الإنسان يمكن أن يؤدي عبادته بخشوع، في أي مكان من أجزاء المكان الجائز شرعًا من مزدلفة أو من عرفة، فهو أولى من أن يتحرى الفضيلة التي في المكان؛ لأن الخشوع صفة ذاتية للعبادة. وبعض الناس يُتعب نفسه حتى يقف عند الصخرات، فربما بسبب حرصه على هذه الفضيلة يؤذي مسلمًا، وربما يشتم، وعلى أقل الأحوال يكون في كرْبٍ عظيم، وفي مشقة وفي عناء، لا يستطيع أن يذكر الله - عز وجل - على الوجه اللائق، وكذلك الحال في مزدلفة، فالإنسان يعمل الأيسر له، وينظر دائمًا فيما يتحقق به الخشوع على أكمل الوجوه، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
6- فإذا وقف بالمشعر الحرام، دعا الله وكبَّره وهلَّله، مستقبلَ القبلة كما في حديث جابر قال:
"فدعا الله وكبره وهلله ووحَّده"، ويستقبل القبلة في دعائه وفي ذكره لله عز وجل. وهذا الدعاء الذي ذكره المؤلف - رحمه الله تعالى - ليس له خصوصية في المشعر الحرام؛ بل بأي دعاء له أن يدعو.
7- ثم يبقى في المشعر الحرام حتى يُسفر جدًّا؛ يعني حتى يتبين له النهار إلا أن الشمس لم تطلع، فيخرج منها إلى منى، مخالفةً لحال المشركين؛ لأن المشركين لم يكونوا يخرجون من مزدلفة حتى تطلع الشمس، ويقولون: أَشْرِقْ ثَبِير كيما نُغِير، وثَبِير هو: (الجبل الذي يقع على يمينك، وأنت متجه إلى منى؛ لأن الشمس تطلع من جهته)، والرسول – صلى الله عليه وسلم - في حجته خالف المشركين في مواقف كثيرة؛ منها:
1- أمر بفسخ الحج إلى عمرة، وكان المشركون يرون من أفجر الفجور العمرة في أشهر الحج.
2- لما اتجه النبي – صلى الله عليه وسلم - من مِنى لم تَشُكَّ قريش أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لن يتجاوز المشعر الحرام؛ لأن قريشًا لم تكن تتجاوز ذلك المكان، ويقولون: نحن أهل الحرم فلأنخرج منه.
3- لم يخرج من عرفة حتى غربت الشمس وغاب القرص، وكانوا يخرجون منها إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال؛ كالعمائم على رؤوس الرجال.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: 
"فإذا بلغ مُحَسِّرًا أسرع قدْر رمية بحَجَر، حتى يأتي مِنًى فيبتدئ بجمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف، يُكبِّر مع كل حصاة، ويرفع يديه في الرمي، ويقطع التلبية بابتداء الرمي، ويستبطن الوادي، ويستقبل القبلة، ولا يقف عندها، ثم ينحر هديه، ثم يحلق رأسه أو يقصره، ثم قد حَلَّ له كل شيء إلا النساء، ثم يفيض إلى مكة فيطوف للزيارة، وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج، ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعًا، أو ممن لم يسعَ مع طواف القدوم، ثم قد حلَّ من كل شيء.
ما يفعله الحاج في طريقه من مزدلفة إلى منى:
1- من السنة الثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه لما أتى مُحَسِّرًا حرك قليلاً - يعني أسرع - وكذلك كان ابن عمر يحرك دابته بمقدار رمية حجر - كما ذكر المؤلف - وكما نُقل عن ابن عمر في موطَّأ مالك. ومُحَسِّر: وادي بين مزدلفة ومنى، فهو ليس من مزدلفة، وليس من منى، كما أن هناك واديًا وهو عُرَنَة ليس من عرفة، ولا من مزدلفة، فكل مَشْعَرٍ بينه وبين المشعر الآخر فاصلٌ، ليس من هذا، ولا من هذا.
وبعض العلماء قال: إن هذا الإسراع من أجل أن هذا الوادي أُحسر فيه الفيل، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كعادته إذا مر بمواطن العذاب؛ فإنه يُسرع، فإنه لما مر بدار ثمود تقنَّع - صلى الله عليه وسلم - وأسرع وقال: ((لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين؛ إلا وأنتم باكون، أو متباكون؛ لا يصيبكم ما أصابهم))، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَحذَر هذا ويُحذِّر المؤمنين أيضًا من مواطن العذاب، فلا ينبغي للإنسان أن يقصد هذه الأماكن، التي عُذِّب فيها أقوام لكفرهم بالله - عز وجل - وأن يجعلها موطن زيارة له، يزورها ويذهب إليها. 
2- يلتقط في طريقه حصيات، وإن التقطها من مِنى فلا بأس، و أن تكون الحصاة كحصى الخذف، والخذف أصله الرمي، وهو الذي يرمى به بين السَّبَّابة والإبهام، فهو حصى صغير حتى قال العلماء عنه: إنه أكبر من الحمص، وأصغر من البندق، والبعض قال: هو أصغر من أنملة الإصبع عرضًا وطولاً، يعني حجمه ما يقارب حجم الزيتون، أو أقل، أو حول هذا الحجم. والمسألة تقريبية وليست مسألة محددة، فبعض الناس يأتي بحجر، فيقول: هل هذا يُرمى به أو لا يرمى به؟! فالمسألة يستوي فيها جميع الناس إذا عرفوا الضابط، فالمهم أن يتركوا الغلو؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر ابن العباس أن يلتقط له حصى، ثم لما التقط له حصى أخذه وقلَّبَه في يده، وقال: ((بمثل هؤلاء فارموا، وإياكم الغلوَّ في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين)).
ما يفعله الحاج إذا وصل منى:
يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات كما رماها النبي – صلى الله عليه وسلم - ضحى يوم النحر إذا تيسر له ذلك؛ وإلا فإن الوقت يمتد إلى الليل، والأحسن أن يرميها قبل المغرب، لكن لو رمى بعد المغرب فإنه لا شيء عليه في أصح أقوال العلماء. وقد تقدمت القاعدة عندنا: "أن الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من الفضيلة المتعلقة بزمانها أو مكانها"، فإذا كان أمامك وقت ترمي فيه بخشوع، وتأتي بالأذكار الواردة في العبادة، فتكبِّر مع كل حصاة من غير زحام، أولى من الوقت الآخر الذي يمكن أن تحقق فيه فضيلة الوقت فترمي في الضحى؛ لكن لا تستطيع أن تذكر الله، ولا أن تتأكد من الحصى هل وقع في المرمى أو لا؟ 
وقالوا: رمي جمرة العقبة هو تحية منى. والعقبة: جبل صغير هناك عليه هذه الجمرة، وكانت من جهة واحدة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرماها، والسُّنة أن يستقبل الجمار، فتكون منى عن يمينه، ومكة عن يساره، فيرميها بسبع حصيات، يُكبِّر مع كل حصاة كما ثبت في حديث جابر - رضي الله عنه - ولا يقف عندها؛ لأنها ليست موقفًا، ويأتي معنا في رمي الجمرات الثلاث أنه يقف عند الصغرى والوسطى، ولا يقف عند جمرة العقبة في جميع الأيام.
مسألة: متى يقطع التلبية؟ هل يقطع التلبية عند آخر حصاة أو عند أول حصاة؟
الجواب: جاء في صحيح ابن خزيمة أنه يقطع التلبية عند آخر حصاة.
مسألة: هل يحصل التحلل الأول إذا فعل اثنين من الثلاثة: (الرمي أو الحلق أو الطواف)، أو يحصل بمجرد رمي جمرة العقبة؟
الجواب: عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - روايتان:
الرواية الأولى: لا يحصل إلا باثنين من الثلاثة: (رمي جمرة العقبة أو الحلق أو الطواف).
الرواية الثانية: يحصل بمجرد الرمي، وذهب إليه الإمام مالك وأبو ثَوْر، واختاره ابن قدامة وقال: وهو الصحيح إن شاء الله، ويدل عليه حديث عائشة في مسند الإمام أحمد، وإسناده على شرط الشيخين قالت: "طيبت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بذَرِيرَة لإحرامه قبل أن يُحرِم، وللحل بعد أن رمى جمرة العقبة، وقبل أن يطوف بالبيت"، وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي في سنن أبي داود وغيره: ((إذا رميتم جمرة العقبة، وحَلَقْتُم فقد حللتم))؛ فهذا الحديث ضعيف، ولو صح هذا الحديث لكان نصًّا في محل النزاع.
ويحصل التحلل الأكبر بإتمام الأمور الثلاثة: الرمي، والحلق، وطواف الإفاضة، والسعي لمن كان عليه سعي كالمتمتِّع، وكذلك القارن والمفرد إذا لم يسعَ بعد طواف القدوم فإن عليه سعيًا.
وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج، وسيأتي الكلام عنه - إن شاء الله تعالى - في الأركان.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: 
"ويُستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحبَّ، ويتضلع منه، ثم يقول: اللهم اجعله لنا عِلْمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وريًّا وشبعًا وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك وحكمتك".
ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه شرب من ماء زمزم، وقال عنه: ((ماء زمزم لما شُرِبَ له))؛ فينبغي للإنسان أن يشرب منه وأن يدعو الله، عز وجل.
وهذا الدعاء الذي ذكره المؤلف - رحمه الله تعالى - منقول عن ابن عباس؛ لكنه ليس بصحيح. والدعاء الأمر فيه واسع، فما دام قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ماء زمزم لما شرب له))؛ فينبغي للإنسان أن يشربه للعِلْم، أو للظمأ، أو للشفاء، أو لغير ذلك؛ فهو لما شرب له، وعلى الإنسان أن يشربه وهو مصدِّق بقول الرسول – صلى الله عليه وسلم - وسينفعه بإذن الله.
باب ما يفعله بعد الحِلِّ 
يتحدث المؤلف - رحمه الله تعالى - الآن عن ما يعمله الإنسان بمنى، وما يكون آخر أعماله في الحج.
فيقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ثم يرجع إلى منى، ولا يبيت لياليها إلا بها".
أي بعد أن يطوف طواف الإفاضة، ويسعى إن كان عليه سعي، يرجع إلى منى ولا يبيت إلا بها؛ أي في ليالي التشريق، وهي: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر.
والمبيت بمنى في هذه الليالي واجبٌ من واجبات الحج، والدليل على ذلك:
1- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - رخَّصَ للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، كما في الصحيحين.
2- ما في سنن ابن ماجه عن ابن عباس: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لم يرخّص لأحدٍ أن يبيت بمكة إلا للعباس؛ من أجل سقايته".
قال العلماء: وهذا يدل على أن المبيت بمنى واجب؛ لأن الرخصة لا تكون إلا في مقابل عزيمة، فرخَّص الرسول – صلى الله عليه وسلم - للعباس من أجل سقايته، ومن أجل ما يقوم به من مصلحةٍ عامة، وهو سقاية الحجاج، وكذلك مَن كان في حُكْمه، أو مَن توفر فيه هذا المعنى، هذا يدل على وجوب المبيت بمنى، وقصدهم بالمبيت: هو أن يبقى الإنسان أكثر الليل بمنى.
وسيأتي معنا - إن شاء الله تعالى - في واجبات الحج.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: 
"فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها، كل جمرة بسبع حصيات، يبتدئ بالجمرة الأولى، فيستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات، كما رمى جمرة العقبة، ثم يتقدم فيقف فيدعو
الله، ثم يأتي الوسطى فيرميها كذلك، ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها، ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك".
تكلم المؤلف - رحمه الله تعالى - في هذه الجملة عن واجب الرمي، وشروطه، وكيفيته:
وجوب الرمي:
يجب على الحاج أن يرمي الجمرات الثلاثة في أيام التشريق عند جمهور العلماء؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر قال: "رمى النبي – صلى الله عليه وسلم - جمرة العقبة يوم النحر ضُحًى، وأما بعدُ فإذا زالت الشمس"؛ أي في أيام التشريق يرمي النبي – صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس.
وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: "كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا".
شروط الرمي:
الشرط الأول: أن يكون في الوقت، وهو بعد الزوال، فلا يجوز لأحدٍ أن يرمي في أيام التشريق قبل الزوال؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - كما تقدم - إنما رمى بعد زوال الشمس، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((لتأخذوا عني مناسككم))، ولأن الرمي قبل الزوال ليس عليه أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - وقد قال: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رَدٌّ))؛ أي مردود على صاحبه، وهو عمل باطل، فلا يجوز لأحدٍ أن يرمي قبل الزوال بحال.
الشرط الثاني: الترتيب بين هذه الجمرات، فيرمي الجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، ثم يرمي الوسطى، ثم يرمي جمرة العقبة، وعلى هذا الترتيب يرمي الحاج، فإن عكس لم يصح رميه، فإنما تصح له جمرة العقبة الصغرى؛ لأنها آخر ما يرمي، فيرمي الوسطى ثم الكبرى، والترتيب شرط عند جمهور العلماء؛ لأنه فعل النبي – صلى الله عليه وسلم - وقد أمر أن نأخذ عنه مناسكنا.
الشرط الثالث: العدد، فلا يجوز للإنسان أن يرمي الجمرة بأقل من سبع حصيات على أصح أقوال العلماء؛ لثبوت ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة. ولو أن إنسانًا رمى الحصيات السبع دفعةً واحدة، فإنها لا تقع إلا عن حصاة واحدة، فعليه أن يرمي ست حصيات. 
الشرط الرابع: أن يقع الحجر في المرمى، وهو مكان الرمي، وليس المراد أن يصيب العمود الشاخص، فهذا ليس مقصودًا.
كيفية الرمي:
أو الصفة التي يرمي بها الجمرة، فإنه يرمي الجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلاً يعني عن الجمرة، ويرفع يديه ويدعو طويلاً كما ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنه - في صحيح البخاري: "أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يُكبِّر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يُسْهِل فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهِل، ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو، ويرفع يديه، ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يفعله"،
وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: "أن ابن عمر كان يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة".
وهذا موقف من مواقف الدعاء، وقد قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه الدعاء ورفع اليدين في ستةِ مواضع في حجه:
1- على الصفا.
2- على المروة.
3- في عرفة.
4- على المشعر الحرام.
5- عند الجمرة الصغرى.
6- عند الجمرة الوسطى.
مسألة: هل يجوز للإنسان أن يؤخر الرمي في اليوم الحادي عشر، ويرمي في اليوم الثاني عشر؟
الجواب: هذه المسألة مبنية على مسألة: هل أيام التشريق كيوم واحد في الرمي، أو أن لكل يومٍ حُكْمًا يخصه؟
الذي ذهب إليه الحنابلة والشافعية أن أيام التشريق كيومٍ واحد؛ فبناءً على ذلك يجوز للإنسان أن يؤخر الرمي في اليوم الحادي عشر، ويرمي في اليوم الثاني عشر، ويكون هذا أداءً وليس
قضاءً.
وذهب بعض العلماء أنه لا يجوز؛ بل لكل يوم حُكْم يخصه، وهذا هو الأظهر، والله أعلم.
مسألة: يتساهل كثير من الناس في التوكيل في الرمي، وليس هناك عذر إلا الزحام، فهل يجوز هذا؟ 
الجواب: الزحام ليس عذرًا على كل حال، فيمكن للإنسان أن يتحين الأوقات التي ليس فيها زحام، وقلَّ أن يحتاج الإنسان إلى التوكيل، لو علم أن وقت الرمي متسع جدًّا إلى الليل، فبعض الناس يريد أن يرمي بعد الزوال مباشرةً، فيُهلِك نفسه ومن معه، والأولى أن يؤخر وأن ينتظر ويرمي بنفسه، والرمي بنفسه متى ما أمكن واجبٌ؛ فلا يجوز أن يوكل غيره، وبعض الناس يرى أن التوكيل عن المرأة على كل حال، فيرمي عن امرأته، سواء كانت ضعيفة أو ليست ضعيفة، وهذا لا يجوز.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل الغروب، فإن غربت الشمس وهو بمنى، لزمه المبيت بمنى، والرمي من غد".
فإن أحب أن يتعجل في يومين؛ لقول الله – تعالى -: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، فالله - عز وجل - أجاز في كتابه التعجلَ والتأخير.
والمراد بالتعجل: أن يتعجل في اليومين الأولين من أيام التشريق، فمن أراد أن يتعجل؛ فعليه أن يخرج من منى قبل غروب الشمس، وهو قول جمهور العلماء، ويدل على هذا قول ابن عمر - رضي الله عنه -: "مَن غربت عليه الشمس بمنى فعليه أن يبقى حتى يرمي من الغد"، ولأن الله - عز وجل - قال: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ}، والذي غربت عليه الشمس لم يتعجل في يومين؛ لأن اليوم اسم للنهار، كما ذكر ابن قدامة، رحمه الله تعالى. لكن لو غربت عليه الشمس وهو مستعد للرحيل، وهو سائرٌ بسيارته أو بدابته، فإن هذا يخرج، ولا شيء عليه في أصح أقوال العلماء، والله أعلم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فإن كان متمتعًا أو قارنًا فقد انقضى حجه وعمرته، وإن كان مفردًا خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه، ثم يأتي مكة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، فإن لم يكن له شعر استحب أن يمر الموس على رأسه، وقد تم حجه وعمرته".
هذا الكلام الذي ذكره المؤلف - رحمه الله تعالى - فيه نظر من جهتين:
أولاً: في قوله أن المفرد يأتي بعمرة بعد حجه، فإنه لم يثبت عن – صلى الله عليه وسلم - لا من قوله ولا من فعله أن يأمر مَن كان مفردًا أن يأتي بعمرة. لكن لو أراد الإنسان أن يأتي بعمرة، ولم يكن قد أتى بعمرة قبل حجه - إذا قلنا بوجوب العمرة - فإنه يأتي بها لا على أنها مستحبة، أو أنها مكملة لحجه؛ بل يأتي بها على أنها عمرة كأيِّ عمرةٍ يأتي بها في حياته، أما أن تكون مكملة للإفراد، أو يكون هذا مما يستحب للإنسان أن يفعله، فهذا مما لا دليل عليه فيما يظهر، والله أعلم.
ثانيًا: قوله: "إن لم يكن له شَعْر فعليه أن يمر الموس على رأسه"، فكثير من العلماء لا يستحب هذا؛ لأن الحلق هو وسيلة إلى التحلل، فإذا لم يكن هناك شعر سقطت الوسيلة، لسقوط مقصدها؛ لأن الوسائل تسقط إذا سقطت المقاصد، والله تعالى أعلم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرِد؛ لكن عليه وعلى المتمتع دمٌ؛ لقوله – تعالى -:
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
الكلام عن الصيام، وكيفيته، ومتى يكون: هل يكون قبل النحر، أو يكون في أيام
التشريق؟ وهل يكون قبل العمرة، أو بعد أن يُحرِم بالعمرة، أو لا يجوز حتى يُحرِم بالحج؟
قد تكلمنا عنه في باب الفدية.
ولا فرق بين المُفرِد والقارِن، إلا أن القارن عليه دم، وهذا عند جمهور العلماء؛ لأن القارن متمتِّع من حيث العموم؛ لأنه ترفَّهَ بإسقاط أحدِ السفرين، فهو من حيث المعنى في حُكْم المتمتِّع عند جمهور العلماء، أما من حيث الأعمال، فعملُ المفرِد وعمل القارن سواءٌ من حيث الطواف
والسعي...
إذًا لا فرق بين المفرد والقارن إلا من حيث النية عند الإحرام، ووجوب الدم على القارن.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وإذا أراد القفول لم يخرج حتى يودع البيت بطواف عند فراغه من جميع أموره؛ حتى يكون آخر عهده بالبيت، فإن اشتغل بعده بتجارة أعاده". 
هذا طواف الوداع، وهو واجب من واجبات الحج وذلك:
1- لما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كان ينصرف الناس في كل وجه، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينفرن أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت)).
2- ولما في الصحيحين من حديث ابن عباس أنه قال: "أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت؛ إلا أنه خُفِّف عن الحائض".
فيجب على كل حاج إذا أراد أن يخرج من مكة أن يودع البيت، كما أمر – صلى الله عليه وسلم - وأن ينصرف مباشرةً بعد الوداع ولا يبقى بمكة، فإن بقي فيها وعمل ما يدل على رغبته في البقاء، فإنه يُعيد؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، فإذا بقي بمكة فعليه أن يُعيد الطواف، وأما لو اشترى شيئًا في طريقه، أو انتظر رفقته فإنه لا يُعيد الطواف. والله أعلم.
مسألة: ما حُكْم مَنْ نوى مع طواف الإفاضة طوافَ الوداع؟
الجواب: طواف الوداع وقته بعد الانتهاء من مناسك الحج، فإذا انتهى الحاج من مناسك الحج، فإنه يطوف طواف الوداع، كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - لكن لو أخَّر طواف الإفاضة، فإن طواف الوداع يدخل فيه ضمنًا؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر أن يكون آخر العهد بالبيت، ومَنْ أخَّر طواف الإفاضة، فإن آخر عهده بالبيت هو الطواف؛ فيدخل فيه طواف الوداع، لكن يطوف بنية طواف الإفاضة، ويجزئه ذلك.
مسألة: هل صلاة ركعتين خلف المقام تصلى بعد طواف الوداع أو لا؟
الجواب: هاتان الركعتان سُنة مؤكدة لا ينبغي للإنسان أن يخل بها، وبعض العلماء يرى وجوبها، وتُفعل بعد كل طواف، سواء كان طواف وداع أو غيره.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: 
"ويستحب له إذا طاف أن يقف في المُلْتَزَم بين الركن والباب، فيلتزم البيت ويقول: "اللهم هذا بيتك، وأنا عبدك وابن عبدك وابن أَمَتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدِل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك. اللهم أصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير"، ويدعو بما أحب، ثم يصلي على النبي، صلى الله عليه وسلم".
أولا ً: مسألة الوقوف بالملتزم، هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، و نُقل عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما آثارٌ في هذه المسألة: أنهم وقفوا في الملتزم - والملتزم بين الحجر والباب - وهذه الآثار الواردة في الوقوف بالملتزم لا تخلو من ضعف، وقد ذَكَرَ الوقوفَ بالملتزم بعضُ العلماء، منهم شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - وابن قدامة وغيرهم، وقالوا: "يستحب للإنسان أن يقف بالملتزم". وإذا وقف يُرجى أن يكون لا شيء فيه؛ لأن هذه الآثار، وإن كانت ضعيفة، لكن ربما يُقال إنها تقوي بعضها بعضًا.
ثانيًا: هذا الدعاء الذي ذكره المؤلف - رحمه الله تعالى - لم أقف عليه إلا أنه قال في "المغني": "قال بعض أصحابنا يستحب أن يقول..." وذكره، والله تعالى أعلم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فمَن خرج قبل الوداع رجع إليه إن كان قريبًا، وإن بَعُدَ بعث بدم، إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما، ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء".
يعني من خرج قبل أن يطوف طواف الوداع له حالتان: 
الحالة الأولى: ألا يتباعد عن مكة؛ أي يكون قريبًا منها، وهو من كان بينه وبين مكة أقل من مسافة القصر، فالمذهب في هذا أنه يرجع قالوا: "لأن عمر أرجع رجلاً من مرِّ الظهران لم يطف طواف الوداع"، فإذًا هذا يرجع ويطوف، ولا شيء عليه.
الحالة الثانية: أن يتباعد عن مكة؛ يعني سار مسافة القصر، فهذا عليه دم، فيبعث دمًا إلى الحرم.
ويستثنى من هذا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما؛ لحديث ابن عباس: "إلا أنه خُفِّف عن الحائض"، وكذلك النفساء في حُكْم الحائض، ويدل عليه أن عائشة - رضي الله عنها - قالت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "إن صفية قد حاضت"، قال: ((أحابستُنا هي؟))، قالوا: "إنها قد أفاضت"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فلتنفر إذًا))، فلم يأمرها بطواف الوداع.
وقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء" لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه أمر الحائض والنفساء أن تقف عند الباب، فإذا لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - فإن الاستحباب حُكْمٌ يحتاج إلى دليل. والله أعلم.
باب أركان الحج والعمرة 
الأركان في اللغة: جمع ركن، والركن هو جانب الشيء الأقوى.
أما في الاصطلاح: جزء الماهية، يعني جزء حقيقة الشيء.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة".
ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - هنا ركنين للحج فقط، وعن الإمام أحمد ثلاث روايات:
الرواية الأولى: أن أركان الحج اثنان: الوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، وهذه الرواية هي التي اختارها المؤلف، رحمه الله تعالى.
الرواية الثانية: أن أركان الحج ثلاثة: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة.
الرواية الثالثة: أن أركان الحج أربعة وهي: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي.
والذي يظهر - والله أعلم - أن أركان الحج أربعة، وهي:
الركن الأول: الوقوف بعرفة: 
وهو ركن من أركان الحج بإجماع العلماء، لا يصح الحج بدونه، والدليل على ركنيته:
1- ما ثبت في مسند أحمد - رحمه الله تعالى - وعند أصحاب السنن، وفي سنن البيهقي والدارقطني، ومستدرك الحاكم من حديث عبدالرحمن بن يعمر قال: "شهدت رسول – صلى الله عليه وسلم - وهو واقفٌ بعرفة، وجاءه أُناس من أهل نجد، فقالوا: "يارسول الله:
كيف الحج؟"، قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((الحج عرفة، فمن أدرك عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جَمْعٍ فقد تم حجه))، ووجه الدَّلالة أن النبي – صلى الله عليه وسلم -
قال: ((الحج عرفة))؛ يعني هذا هو الركن الأعظم والمهم في الحج.
2- فِعْل النبي – صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة من بعده.
وقد تقدم معنا شروط الوقوف بعرفة في باب صفة الحج.
الركن الثاني: طواف الإفاضة:
وهو ركنٌ بإجماع العلماء، لا يصح الحج بدونه، والدليل عليه:
1- قوله – تعالى -: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، فإن المراد بذلك طواف الإفاضة.
2- قول الرسول – صلى الله عليه وسلم - في صفية: ((أحابستنا هي؟))، قالوا: "إنها قد أفاضت يارسول الله"، قال: ((فلتنفر إذًا))؛ فدلَّ هذا على أن مَن لم يأتِ بطواف الإفاضة
لا يخرج حتى يأتي به، يعني يحبس مَن معه من الرفقة حتى يأتي بطواف الإفاضة.
وقد تقدم معنا شروط صحة الطواف، ذكرناها في باب دخول مكة، ولكن مما يخص طواف الإفاضة (أو طواف الزيارة) من الشروط:
1- أنه لا بد أن يكون في الوقت، والوقت عند الحنابلة والشافعية يبدأ من منتصف ليلة النحر، وهذا عندهم مطرد في الدفع من مزدلفة، وفي رمي جمرة العقبة، وفي طواف الإفاضة، فكل هذه الأشياء عندهم تجوز بعد منتصف الليل.
وعند الحنفية والمالكية أنه لا يصح إلا بعد الفجر من يوم النحر.
والذي يظهر - والله أعلم - أنه لا يصح إلا بعد الفجر من يوم النحر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما طاف بعدما نحر.
2- أن يكون بعد الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، فلو أن إنسانًا جاء في الليل ثم طاف بنية طواف الإفاضة، ثم ذهب إلى عرفة، ثم إلى مزدلفة؛ لكان هذا الطواف غير صحيح، فيما يظهر 
والله أعلم.
الركن الثالث: السعي:
والسعي اختُلف فيه: هل هو ركن أو واجب أو سنة؟ والمؤلف - رحمه الله تعالى - ذكر السعي في الواجبات.
وأصح الأقوال فيه - والله أعلم - أنه ركنٌ من أركان الحج، وذلك:
1- لأن الله - عز وجل - قال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، والشعائر أمرها عظيم، لا يجوز التساهل بها ولا تركها.
2- لما ثبت في الصحيح عن هشام بن عروة عن أبيه، أنه قال لعائشة - رضي الله عنها -: "إني لأظن أن رجلاً لولم يطف بين الصفا والمروة ما ضره ذلك"، قالت: "لِمَ قلتَ هذا؟!"، قال: "لأن الله يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] - فقوله:{فلا جناح عليه}؛ أي رفع الله عنه الجناح، وذلك لا يدل على الوجوب - فقالت: "ما أتمَّ اللهُ حجَّ امرئٍ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة!"، فإذا كان لا يتم حجه، فمعنى هذا أن حجه غير صحيح.
3- لما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - في حديث أم حبيبة بنت أبي تِجْراه أنها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي))؛ أخرجه الحاكم، والطبراني، وابن سعد في "الطبقات".
4- فِعل النبي – صلى الله عليه وسلم - وفعله يدل على الإلزام من جهتين:
الجهة الأولى: أنه امتثال للأمر، وإذا جاء فعله امتثالاً لأمر، أو بيانًا لمُجْمَل؛ فإنه يأخذ حُكْمه.
الجهة الثانية: أنه – صلى الله عليه وسلم - قال: ((لتأخذوا عني مناسككم)).
وقد تقدم معنا في صفة الحج شروط السعي في باب صفة الحج.
الركن الرابع: الإحرام:
وهو: نية الدخول في النسك؛ يعني ليست مجرد النية أنه سيحج هذا العام، فهذه لا تسمى إحرامًا، وليس الإحرام هو لبس الإحرام كما تقدم - بل هو نية الدخول في النسك.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وواجباته: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل، والسعي، والمبيت بمنى والرمي، والحلق، وطواف الوداع".
واجبات الحج هي:
الواجب الأول: الإحرام من الميقات: 
وقد تقدم معنا في باب المواقيت حديث ابن عباس قال: "وقَّت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ..."، فإذا كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وقَّت ذلك؛ فلا يجوز لأحدٍ أن يتجاوز ما وقَّته الرسول – صلى الله عليه وسلم - وكذلك تقدم معنا في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "فرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ...".
الواجب الثاني: الوقوف بعرفة إلى الليل:
عرفنا أن الوقوف بعرفة ركن؛ لكن الركن أن يوجد بعرفة، ولو لحظة في وقت الوقوف، أما الوقوف إلى الليل فهذا هو واجب، فمَن خرج من عرفة قبل الغروب له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: ألا يرجع إليها، فهذا يلزمه دمٌ عند جمهور العلماء.
الحالة الثانية: أن يرجع إليها قبل الغروب، فهذا في مذهب الحنابلة لا شيء عليه.
الحالة الثالثة: أن يرجع إليها بعد أن تغرب الشمس، فهذا في ظاهر المذهب أنه لا شيء عليه، وقال بعضهم: عليه دم؛ لأن المطلوب منه أن يقف حال الغروب، كما ثبت في حديث جابر أن الرسول – صلى الله عليه وسلم -: "لم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص"، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((لتأخذوا عني مناسككم)).
والظاهر والله أعلم: أن الدم مستقر عليه بمجرد خروجه من عرفه، كما قلنا في ما لو تجاوز الميقات ثم أحرم، ورجع إلى الميقات أن الدم لا يسقط عنه.
الواجب الثالث: المبيت بمزدلفة:
اختلف العلماء في المبيت بمزدلفة: هل هو ركن أو واجب أو مستحب؟ 
والصحيح من هذه الأقوال الثلاثة: أنه واجب، وليس بركن، والدليل على عدم الركنية أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - قال في حديث عبدالرحمن بن يعمر السابق: ((من جاء عرفة قبل صلاة الفجر فقد تم حجه))، قال العلماء: يلزم من هذا أنه إذا وقف في آخر جزء من الليل بعرفة أن حجه صحيح، وإذا وقف في آخر لحظة من الليل بعرفة فمعنى هذا أنه فاته المبيت بمزدلفة، ولو كان المبيت بمزدلفة ركنًا لم يصح حجه، فدلَّ هذا على أن الوقوف بمزدلفة ليس ركنًا؛ لكنه واجب لفعل الرسول – صلى الله عليه وسلم - وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم))، ولأن الرسول – صلى الله عليه وسلم - رخَّص للضعفة أن يخرجوا من مزدلفة قبل الفجر، والرخصة لا تكون إلا في مقابل عزيمة، أو في مقابل واجب، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يأذن لغيرهم.
مسألة: متى يخرج من مزدلفة؟
الجواب: بَيْنَ العلماءِ خلافٌ في القدر الذي يجب أن يمكثه الإنسان في مزدلفة، فالمؤلف - رحمه الله تعالى - يقول: "يبقى بمزدلفة إلى نصف الليل"؛ أي إذا انتصف الليل جاز له أن يخرج من مزدلفة، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة - كما تقدم - أنهم حددوا الخروج من مزدلفة بمنتصف الليل، وبناءً عليه أجازوا رمي جمرة العقبة بعد منتصف الليل، وأجازوا طواف الإفاضة بعد منتصف الليل.
وبعض العلماء يرى: أنه لا يجوز الخروج من مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر.
ومنهم من يقول: يكفي الوقوف بها ولو لحظة واحدة، وهو قول المالكية.
والصحيح والله أعلم: أنه لا يجوز الخروج من مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر؛ وذلك:
1- لفعل النبي، صلى الله عليه وسلم.
2- أنه لم يأذن لأحدٍ أن ينصرف منها إلا للضعفة، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كانت سودة امرأةً ضخمةً ثَبِطَةً، فاستأذنت الرسول – صلى الله عليه وسلم - ليلة جَمْعٍ أن تفيض بليلٍ، فأذن لها النبي – صلى الله عليه وسلم –"، ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "أنا ممَّن قدَّم رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم - في ضعفة أهله".
مسألة: متى ينصرف الضعفة؟ 
الجواب: الظاهر - والله تعالى أعلم - أنه يجوز لهم الانصراف بعد مغيب القمر؛ لما في الصحيحين عن عبدالله مولى أسماء - رضي الله عنها -: "أن أسماء نزلت ليلة جَمْع عند المزدلفة، فصلَّتْ ساعة، ثم قالت: "يابني هل غاب القمر؟" قال: قلت: لا ، فصلَّت ساعة، ثم قالت: "يابني هل غاب القمر؟" قال: قلت: نعم، قالت: "فارتحلوا"، فارتحلنا، فمضتْ حتى رمتْ جمرة العقبة، ثم رجعت فصلَّت الصبح في بيتها، فقلت: يا هَنْتَاهْ: ما أُرانا إلا قد غلَّسنا، قالت: "إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ للظُّعُن".
فهذا يدل على أن الضعفة يخرجون من مزدلفة إذا غاب القمر، والله تعالى أعلم.
الواجب الرابع: المبيت بمنى:
تقدم في صفة الحج أن المبيت بمنى المراد به: المكث بمنى أكثر الليل، وذهب إلى وجوبه جمهور العلماء، والدليل على ذلك:
1- فعل النبي، صلى الله عليه وسلم.
2- ترخيص النبي – صلى الله عليه وسلم - للعباس أن يبيت ليالي منى بمكة من أجل السقاية.
3- قول عمر - رضي الله عنه -: "لا يبيتن أحد من الحاج وراء جمرة العقبة"؛ أي
لا بد أن يبيتوا بمنى.
مسألة: إذا قلنا إنه واجب، فمن تركه فعليه دم، لكن هل يجب الدم بترك مبيت ثلاث ليالٍ؟ أو بترك مبيت ليلة واحدة؛ لأنه مَن تعجل فله ليلتان، ومَن لم يتعجل فله ثلاث ليالٍ؟.
الجواب: ظاهر مذهب الحنابلة أن مَن لم يَبِتْ ليلة واحدة، فإنه يتصدق أو لا شيء عليه، وأما مَن فاته المبيت ثلاث ليالٍ، فعليه دم، وبين العلماء اختلاف كبير في هذه المسألة فيما يجب فيه الدم.
الواجب الخامس: الرمي:
لفعل النبي – صلى الله عليه وسلم - فمَن فاته الرمي، فحُكْم الرمي حكم المبيت. فإذا فات الإنسان الرمي كاملاً، فعليه دم؛ لأنهم اعتبروا النسك هو المبيت كاملاً، أو الرمي كاملاً، ولم يعتبروا بعضه، ولم يوجبوا فيه دمًا، والله أعلم.
الواجب السادس: الحلق: 
كان ينبغي أن يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -: "الحلق أو التقصير"، والحلق أفضل؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللهم ارحم المُحَلِّقِين))، قالوا: "والمقصِّرين!"، قال: ((اللهم ارحم المحلقين))،.... ثم قال بعد ذلك: ((اللهم ارحم المحلقين والمقصرين))، فدعا للمحلقين ثلاث مرات، ودعا للمقصرين مرة واحدة.
والتقصير هو أن يأخذ الإنسان من جميع رأسه؛ لأنه بدل عن الحلق، والبدل يأخذ حكم المبدل منه، ولا يجزئ أن يقصر الإنسان ثلاث شعرات، كما هو قول الشافعية.
الواجب السابع: طواف الوداع:
تقدم أنه واجب من واجبات الحج في صفة الحج.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وأركان العمرة: الطواف، وواجباتها: الإحرام، والسعي، والحلق".
المؤلف - رحمه الله تعالى - لم يذكر إلا ركنًا واحدًا للعمرة، وذكر ابن قدامة في "المقنع" أن الإحرام والسعي فيه روايتان: رواية أنهما ركن، ورواية أنهما واجب.
والصحيح أن العمرة أركانها ثلاثة:
1- الإحرام، الذي هو نية الدخول في النسك.
2- الطواف.
3- السعي.
ولها واجبان:
1- الإحرام من الميقات.
2- الحلق أو التقصير.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فمَن تَرَكَ ركنًا لم يتم نسكه إلا به".
مَن ترك ركنًا فحجه باطل؛ إلا إذا أمكنه أن يتدارك ذلك الركن ويأتي به.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ومن ترك واجبًا جبره بدم".
وهذه قاعدة عند العلماء، وأصلها ما ثبت في الموطأ عن ابن عباس - رضي الله عنه -:
"أن من نسي نسكه أو تركه فليهرق دمًا"، فهذا أصل هذا القول.
والظاهر - والله أعلم - أن قول ابن عباس - رضي الله عنه - لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: إما أن يكون مما لا مجال للرأي فيه؛ فيكون حُكْمه الرفع، فهنا يجب الأخذ به.
الحالة الثانية: أن يقال إنه اجتهاد صحابي وفتوى صحابي، فمَن يأخذ بقول الصحابي
يأخذ به.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ومَن ترك سُنة فلا شيء عليه". 
من ترك سنة فلا شيء عليه، لكن لا ينبغي للإنسان أن يتساهل في السنن، فإن هذه التي يراها سنة في مذهب من المذاهب، قد تكون واجبًا؛ بل قد تكون ركنًا في مذهب آخر، وربما يكون الصواب مع مَن رأى أنها ركن أو واجب؛ فلا ينبغي للإنسان أن يتساهل في السنن، كما أن في السنن فائدة عظيمة، وهي رفع الدرجات، وتحصيل الثواب والمغفرة من الله عز وجل.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر؛ فقد فاته الحج، فيتحلل بطواف وسعي، وينحر هديه إن كان معه هدي، وعليه القضاء".
تقدم حكم الفوات وتكلمنا عنه في باب الفدية، وذكرنا أن دليل هذا هو ما قضى به عمر في حق هَبَّار بن الأسود، وفي حق أبي أيوب الأنصاري.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وإن أخطأ الناس العدد، فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك، وإن فعل ذلك نفر منهم فقد فاتهم الحجُّ".
إن وقف جميع الحجاج يوم عرفة خطأ؛ كأن يقفوا بها يوم الثامن؛ أو يقفوا بها يوم العاشر، فإن هذا الوقوف يجزئهم، لكن لو وقف بعض الحجاج خطأ؛ فحجهم ليس بصحيح، والأصل أنهم إذا أجمعوا على أمرٍ أن إجماعهم صحيح، فجماعة المسلمين لو أخطؤوا جميعًا فلا شيء عليهم؛ لأنهم لو أُمروا بذلك لحصلت مشقة، ثم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الأضحى يوم تضحون))، فدل ذلك على اعتبار هذا الأمر، لكن لو وقف البعض دل على خطئهم وتفريطهم؛ فلم يصح حجهم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويُستحب لمَن حجَّ زيارةُ قبر النبي – صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه، رضي الله عنهما". 
كان الواجب أن يقول - رحمه الله تعالى -: "يستحب زيارة مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم -" بدلاً من أن يقول: "يستحب زيارة قبر النبي – صلى الله عليه وسلم –"؛ فزيارة القبر في حد ذاتها مشروعة؛ لكن شدَّ الرحال إلى القبور لا يجوز؛ لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد))، وهذه المسألة تكلم عنها شيخ الإسلام، وفهم منه خصومه فَهْمًا خاطئًا، فقالوا: "شيخ الإسلام يمنع زيارة قبر النبي – صلى الله عليه وسلم –"، وهو لم يمنع زيارة قبر النبي – صلى الله عليه وسلم - ولكن مَنَعَ شدَّ الرحال إلى قبر النبي – صلى الله عليه وسلم - أما أصلُ الزيارة فيُزار قبر النبي – صلى الله عليه وسلم - كما تزار بقية القبور؛ لكن شد الرحال والسفر من أجل زيارة القبر، فهذا لا يجوز.
باب الهدي والأضحية 
الهدي هو ما يُهدى إلى الحرمِ من النَّعَمِ وغيرها.
وأما الأضحية فهي بضم الهمزة (أُضْحِيَّة)، وكسرها (إِضْحِيَّة)، وتقال أيضًا: ضَحِيَّة بوزن سرية، وأَضْحَاه بوزن أرطاه، وهي ما يُذبح يوم النحر وفي أيام التشريق.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والهدي والأضحية سُنة لا تجب إلا بالنذر".
أما الهدي فإنه سنة لا يجب إلا بالنذر، ومنه أيضًا قسم واجب، وهو هدي التمتع والقِران، وأما الأضحية فاتفق العلماء على مشروعيتها، ومشروعيتها ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب، فقوله – تعالى -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وقالوا: إنه ذبح الأضحية بعد الصلاة.
وأما السنة، فما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - مِن فعل الأضحية.
وأما الإجماع، فقد أجمع العلماء على مشروعيتها، واختلفوا في حكمها، هل هي سنة مؤكدة أو واجبة؟ اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: أن الأضحية سنة مؤكدة، فلو تركها الإنسان فلا شيء عليه، ذهب إلى هذا جمهور العلماء من المالكية والشافعية، والحنابلة في المشهور عندهم، واستدلوا على ذلك
بما يلي: 
1- ما في صحيح مسلم من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - أن رسول – صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي؛ فلا يَمَسَّ من شعره وبشره شيئًا)). قالوا: علَّق الحكم على إرادة الأضحية، فدل على أنها ليست واجبة؛ لأنها لو كانت واجبة لما وكلت إلى إرادة المكلف.
والجواب عن هذا: أن هذا لا يدل على عدم الوجوب، كما يقال: إذا أردت أن تصلي فتوضأ، فلا يدل على أن الوضوء ليس شرطًا في الصلاة، أو ليس واجبًا فيها.
2- ما ورد عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث جابر: قال: "شهدت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - صلاة عيد الأضحى، فأتي بكبش فذبحه، وقال: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن مَن لم يضحِّ من أمتي))، قالوا: فمن لم يضحِّ، فقد ضحى عنه رسول – صلى الله عليه وسلم - فليست واجبة في حقه.
القول الثاني: أنها واجبة على الموسر، ذهب إلى هذا الحنفية، والحنابلة في رواية، وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- ما ورد في الصحيحين من حديث جندب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن ذبح قبل الصلاة فليُعِدْ مكانها أخرى، ومَن لم يذبح فليذبح))، قالوا أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - مَن ذبح قبل الصلاة أن يعيد، ولو لم تكن واجبة لما أمره النبي – صلى الله عليه وسلم - بالإعادة.
2- ما في مسند أحمد وسنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن وجد سَعَةً ولم يضحِّ فلا يقربن مُصلاَّنا))؛ وهو حديث حسن، وصححه الحاكم، فقالوا: دل ذلك على وجوبها.
فمن خلال هذه الأدلة، يظهر أن القول الصحيح أنها واجبة على الموسر المستطيع القادر، أما غير المستطيع فإنها ليست بواجبة في حقه.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها".
يعني ذبح الأضحية أفضل من أن يتصدق الإنسان بثمنها، حتى ولو كان الثمن أكثر؛ وذلك
لأمور: 
1- أنها شعيرةٌ مقصودةٌ لذاتها، لقوله - تبارك وتعالى -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، فأَمَرَه بالنحر بعد الصلاة ولم يأمره بالصدقة عنها. ولما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة الدم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا))، فهي شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام، لا ينبغي أن تخفى وأن يوزع بدلاً منها المال.
2- أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - ضحى وداوم على ذلك، ولا يفعل – صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل والأكمل، وكذلك من بعده من الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والأفضل فيهما الإبل ثم البقر ثم الغنم".
استُدل لهذا القول بما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول – صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بدنة، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر))، قالوا: ذكر أفضل ما يُهدى وهي الإبل ثم البقر ثم الغنم، فجعلهم مراتب: أعظمهم مرتبة مَن قرَّب بدنة، ثم من قرب بقرة، ثم من قرب شاة.
فقالوا: هذا يدل على الأفضل.
لكن حقيقةً هذا الحديث عارضه فِعلُ النبي – صلى الله عليه وسلم - فإن المعروف عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه لم يَرِدْ عنه في حديث صحيح أنه ضحى بالإبل ولا بالبقر، فمداومة النبي – صلى الله عليه وسلم - على التضحية بالغنم يدل على أفضليتها في الأضحية، أما في الهدي فالأفضل الإبل، وهذا التفصيل عند المالكية، وهو قوي من حيث المأخذ أن الإبل هو الأفضل في الهدي، والغنم أفضل في الأضحية؛ لمداومة النبي – صلى الله عليه وسلم - ولا يفعل – صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل والأكمل.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ويستحب استحسانها واستسمانها". 
وذلك لقوله - تبارك وتعالى -: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]،قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "تعظيمها: استسمانها واستعظامها واستحسانها"، فتعظيم الأضحة - التي هي شعيرة من شعائر الله - يكون باستسمانها واستحسانها، واختيار الأحسن منها والأفضل من حيث السمن، ومن حيث الصورة، فإن أفضل الأضاحي ما كان على صفة أُضحية النبي – صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في حديث عائشة - رضي الله عنها - في صحيح مسلم: "أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر بكبشٍ أقرن، يطأ في سواد، ويَبْرُك في سواد، وينظر في سواد"، فهذه هي أُضحية النبي – صلى الله عليه وسلم - وثبت في حديث أنس في الصحيح أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "ضحَّى بكبشين أملحين أقرنين". قال بعض العلماء: الأملح هو الأبيض الخالص، وقال بعضهم: هو الأبيض المشوب بالسواد.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ولا يجزئ إلا الجَذَعُ من الضأن، والثَّنِيُّ مما سواه".
يدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تذبحوا إلا مُسِنَّة؛ إلا أن يَعسُرَ عليكم، فتذبحوا جَذَعَةً من الضأن))، والمسنة: هي الثنية من الإبل والبقر والغنم.
لكن ظاهر هذا الحديث أنه لا يذبح الجذعة من الضأن؛ إلا إذا تعسرت المسنة، لكن ثبت في أحاديث أخرى؛ كحديث مجاشع بن سُليم عند أبي داود وغيره، أن رسول – صلى الله عليه وسلم - قال: ((يوفي الجذع من الضأن ما توفي به الثنية))، فهذا الحديث يدل على أنه يجزئ مطلقًا؛ مع وجود الثنية، ومع عدمها.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
وثني المعز ما له سنة، وثني الإبل ما كمل له خمس سنين، ومن البقر ماله سنتان.
الجذع من الضأن ما له ستةُ أشهر، والثنية من البقر مالها سنتان ودخلت في الثالثة، ومن الإبل ما لها خمس سنين ودخلت في السادسة، ومن الغنم ما لها سنة ودخلت في الثانية.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة".
هذا هو الاشتراك في الأضحية وهو على قسمين:
القسم الأول: اشتراك مِلْك. 
القسم الثاني: اشتراك ثواب.
أما اشتراك الملك، فلا تجزئ الشاة إلا عن واحد، وأما الإبل والبقر فتجزئ عن سبعة؛ لحديث جابر - رضي الله عنه -: "أنهم كانوا ينحرون الإبل عن سبعة، والبقر عن سبعة".
وأما تشريك الثواب - وهو أن يُشرك أحدًا معه في ثواب أضحيته - فهذا لا حدَّ له لا في الإبل، ولا في الغنم، ولا في البقر؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم - ذبح كبشًا فقال: ((اللهم هذا عني وعن مَن لم يضحِّ من أمتي))، وقال: ((اللهم هذا عن محمد وآل محمد، وعن أمة محمد))، وهو كبش عن هؤلاء جميعًا، فهذا تشريك في الثواب.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"(1) ولا تجزئ العوراء البيِّن عَوَرُها، (2) ولا العجفاء التي لا تنقي، (3) ولا العرجاء البيِّن ظَلْعُها، (4) ولا المريضة البيِّن مرضُها، (5) ولا العضباء التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها".
ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - خمسة عيوب لا تجزئ معها الأضحية، أما الأربعة الأولى التي ذكرها، فهي واردة في حديث البَرَاء بن عازب - رضي الله عنه - قال: ((أربعٌ
لا تجوز في الأضاحي - وفي رواية لا تجزئ في الأضاحي - العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضَلْعُها، والعجفاء التي لا تنقي))، وقد نقل المؤلف - رحمه الله تعالى - في "المغني" أنه لا تجزئ باتفاق العلماء.
ويلحق بهذه الأربعة ما كان أشد منها في الصفات أو العيوب، وأما إذا كان أقل من ذلك فإنه مجزئ عن طريق المفهوم.
فعندنا الآن: نص، ومفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، في حديث البراء بن عازب: 
((العوراء البين عورها)): وهي التي انخسفت عينها (هذا نص)، أما العوراء التي لا تبصر بعينها؛ لكنه ليس بيِّنًا ذلك، فهذه تجزئ، أما العمياء: فهذا مفهوم موافقة؛ يعني أنه مثل المنطوق وزيادة، وأما إذا كان أقل من ذلك؛ كالشاة التي على عينها شيء؛ لكنه ليس بيِّنًا فهذه عن طريق المفهوم، نفهم منه أنه تجزئ؛ لأنه قال: ((البين عورها))، فإذا انتفى هذا البيان والظهور، انتفى الحكم.
((المريضة البين مرضها)): وهي التي ظهرت عليها آثار المرض، وأثَّر ذلك في جسمها؛ فهذه
لا تجزئ في الأضحية.
((والعرجاء البين ضلعها)): وضابط ذلك قالوا: إنها لا تستطيع المشي مع الصحيحة؛ بل تسبقها الصحاح إلى المرعى، فهنا نص على العرجاء؛ فمقطوعة الساق من باب أولى؛ لكن التي فيها ضلع بسيط ليس بيِّنًا؛ فهذه لا تمنع الإجزاء.
((والعجفاء التي لا تنقي)): يعني الهزيلة التي لا مخ فيها؛ فهذه لا تجزيء في الأضحية.
"ولا العضباء التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها": هذه في المذهب أنه لا تجزئ، واستدلوا على ذلك بحديث علي - رضي الله عنه - قال: "نهى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم - عن العَضَبِ في القَرْن والأذن)) قال قتادة: "سألتُ سعيد بن المسيب عن ذلك، فقال: العَضَبُ نصف القرن فأكثر"؛ يعني العضب ما ذهب نصف القرن أو أكثر، وكذلك الأذن، فهذه لا تجزئ، وكذلك في حديث علي - رضي الله عنه - قال: "أمرنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن؛ فلأنضحي بمُقَابَلَة، ولا مُدَابَرَة، ولا شَرْقَاء، ولا خَرْقَاء".
والمقابلة: هي التي شُقَّتْ أذنُها من الأمام عرضًا، والمدابرة: هي التي شُقَّت أُذنُها من الخلف عرضًا، أما الشرقاء: فهي التي شُقت أذنها طولاً، والخرقاء: وهي التي خُرقت أذنها.
لكن في هذا الحديث ليس فيه النهي على أنها لا تجزئ في الأضحية؛ بل أمرهم أن يستشرفوا؛
أي هذا من باب الأفضل، ويكره التضحية بهذه.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وتجزئ الجَمَّاء والبَتْرَاء والخصي، وما شقت أذنها أو خرقت، أو قطع أقل من نصفها". 
الجماء: هي التي ليس لها قرن؛ أي التي لم يُخلق لها قرون، فهذه تجزئ؛ لأن هذا من أصل الخلقة، ولا يؤثر في لحمها.
البتراء: هي التي لا ذنب لها إما خلقة، أو كان ذلك مقطوعًا، قال بعض العلماء: القطع في ألية الضأن يعتبر عيبًا مانعًا من الإجزاء.
الخصي: وهو ما قُطعت خصيتاه، فهذا مجزئ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين موجوءين، وهما في معنى واحد، ولأنه ذهاب عضو غير مستطاب، فلا يضر ذلك في الإجزاء.
وما شُقت أذنها أو خرقت: فهذه مجزئة؛ لأن التحرز من هذه العيوب فيه عسر ومشقة.
أو قُطع أقل من نصفها: هذا احتراز من العضب الذي ذكره سابقًا؛ لأن العضب هو ذهاب أكثر من النصف، فما كان أقل فهو مجزئ.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والسُّنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، وذبح البقر والغنم على صفاحها، ويقول عند ذلك: (بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك)".
السنة في نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى: قال ابن عباس في قوله – تعالى -: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]: "قائمة على ثلاث قوائم، معقولة يدها اليسرى"، وثبت في الصحيح أن ابن عمر - رضي الله عنه - رأى رجلاً ينحر بدنة له فقال له ابن عمر - رضي الله عنه -: "ابعثها قائمةً مقيدة؛ سُنة أبي القاسم – صلى الله عليه وسلم –".
وأما الغنم فعلى صفاحها: أي على جنوبها، ومستقبلاً بها القبلة.
التسمية على الذبيحة واجبة لا بد منها، والنبي – صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أنس - رضي الله عنه -: "أنه أتى بكبشين أملحين أقرنين، فذبحهما بيده، وسمَّى وكبَّر"، وأما التكبير فمستحب.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ولا يُستحب أن يذبحها إلا مسلمٌ، وإن ذبحها صاحبها فهو أفضل".
التوكيل في الجملة جائز؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – "نحر ثلاثًا وستين بدنة، ووكَّل عليًّا في ما بقي"، وإن كان الإنسان الأفضل أن يذبحها بنفسه؛ لأنه ربما يبحث عن مساكين يعرفهم، وأهل البلد أولى بذلك. 
مسألة: هل يجوز للمسلم أن يوكل على أضحيته كِتَابِيًّا؟ ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله تعالى - أنه يجوز؛ لكن الأفضل ألا يذبحها إلا مسلم.
وبعض العلماء منع من ذلك وقال: إن هذه قُرْبَى، والكتابي ليس من أهلها.
والظاهر الجواز؛ لأن ذبيحتهم حلال وجائزة؛ فيجوز أن يوكّل كتابيًّا؛ لكن الأفضل أن يوكّل مسلمًا، والأفضل من ذلك أن يذبحها بنفسه؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – "أتى بكبشين أملحين أقرنين، فذبحهما بيده، وسمَّى وكبَّر".
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ووقت الذبح يوم العيد بعد صلاة العيد إلى آخر يومين من أيام التشريق".
والوقت يتعلق به في بدايته ونهايته، أما بداية الذبح لأهل الأمصار، تكون بعد صلاة الإمام:
1- لما تقدم من قول النبي – صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: ((مَن ذبح قبل الصلاة فليُعِدْ مكانها أُخرى، ومَن لم يذبح فليذبح)).
2- قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صلى صلاتنا، ونسك نُسكنا؛ فقد أصاب النسك، ومَن ذبح قبل ذلك؛ فشاتُه شاةُ لحم)).
أما غير أهل الأمصار؛ كأهل القرى الذين لا تُصلَّى فيهم صلاةُ العيد، فيبدأ الذبح عندهم بمقدار وقت الصلاة؛ يعني المقدار الذي تمضي فيه وقت الصلاة، ثم يحل لهم الذبح بعد ذلك.
أما آخر وقت، فالمؤلف يقول: "يوم النحر وبعده يومان"، يعني ينتهي الذبح ثاني أيام التشريق، قالوا: لأن الرمي في اليوم الثالث ليس واجبًا؛ فلا يجوز فيه الذبح.
والصحيح أن الذبح يمتد إلى آخر أيام التشريق؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال:
((أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله – تعالى -))، وكذلك ورد عن ابن عباس في تفسير قوله – تعالى -: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، قال: "هذه الأيام المعلومات: هي يوم النحر، وثلاثة أيام بعده".
إذًا شروط الأضحية أربعة شروط:
الشرط الأول: أن تكون من بهيمة الأنعام.
الشرط الثاني: أن تبلغ السن المعتبرة شرعًا.
الشرط الثالث: أن تكون سالمةً من العيوب.
الشرط الرابع: أن تُذبح في الوقت المحدد لذبحها. 
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وتتعين الأضحية بقوله: هذه أضحية، والهدي بقوله: هذا هدي، وإشعاره وتقليده، مع النية".
يتكلم المؤلف هنا عما يحصل به تعيين الأضحية، وتعيينها يحصل بأحد أمرين:
الأمر الأول: بالقول، وذلك بأن يقول: هذه أضحية، يقصد بها إنشاء التعيين، وأن يُعيِّن أنها أضحية؛ فتقع أضحية.
الأمر الثاني: أن يذبحها بنية الأضحية، فإذا ذبحها بنية الأضحية؛ كانت أُضحية.
ومن العلماء مَن قال تتعين بأمر ثالث، وهو: النية عند الشراء؛ أي إذا اشتراها بنية الأضحية، وذهب إلى هذا بعض العلماء، واختاره شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى.
ماذا نستفيد من تعيين الأضحية؟
متى ما قلنا إن الأضحية تتعين؛ يعني يتعلق الحكم بعينها، وإذا تعلق الحكم بعينها؛ فإنه يترتب على ذلك جملة من الأحكام، منها:
1- أنه لا يجوز نقل المِلْك فيها، فلا يجوز للإنسان أن يبيعها ولا يهبها؛ لكن يجوز له أن يبدلها بخيرٍ منها، أو أن يشتري خيرًا منها بدلاً عنها.
2- أنه لا يجوز له أن يتصرف فيها فيما يخصه؛ فلا يجوز له أن يحنث عليها، ولا أن يركبها إلا إذا احتاج إلى ذلك، ولا أن يحلب لبنها فيما ينقصها أو يضر بولدها، ولا أن يجز صوفها إلا إذا كان ذلك أنفع لها.
3- إذا تعيَّبتْ عيبًا يمنع من الإجزاء، أو ضاعت، أو سُرقت، أو تلفت بأي نوع من أنواع التلف، فإن كان عن تفريط منه؛ فإنه يضمنها، وإن كان بغير تفريط؛ فإنه لا يضمن.
أما الهدي، فيقول المؤلف يتعين بأحد أمرين:
الأمر الأول: بقوله: هذا هديٌ، ويقصد بذلك إنشاء التعيين؛ يعني يقصد به أن يجعلها هديًا؛ ففي هذه الحالة تتعين.
الأمر الثاني: أن يُشْعِرَها أو يُقَلِّدَها.
والإشعار هو: شق صَفْحَة سنام الإبل اليمنى حتى تدمى، ويدل على هذا:
1- ما في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "فَتَلْتُ قلائد هدي النبي – صلى الله عليه وسلم - فأَشْعَرَهَا وقَلَّدَهَا". 
2- حديث ابن عباس - رضي الله عنه – "أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – صلى الظهر بذي الحليفة، ثم أمر ببدنةٍ فأشعرها من صَفْحَةِ سنامها الأيمن، ثم سَلَتَ الدم بيده".
والإشعار خاص بالإبل والبقر دون الغنم؛ لأنها ضعيفة، ولأن شعرها وصوفها يستر مكان الإشعار.
والتقليد: هو جعل النعال وأفواه القِرَب وعراها في أعناق الهدي، سواء كان إبلاً أو بقرًا أو غنمًا، وقال بعض العلماء لا تُقَلَّد الغنم، والصحيح أنها تقلد؛ لما ثبت في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أفتل قلائد النبي – صلى الله عليه وسلم - فيقلد الغنم"، فالغنم تقلد كما تقلد الإبل والبقر؛ وذلك حتى لا تختلط بغيرها، ولتعرف من بين سائر الأنعام.
ويقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"ولا يعطي الجزار بأجرته شيئًا منها".
لما ثبت في صحيح مسلم عن علي - رضي الله عنه -قال: "أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها - وفي رواية: وبجلالها - وألا أُعطي الجزار منها"، وقال: ((نحن نعطيه من عندنا))، ولأن هذه الذبيحة تعينت لله
- عز وجل - وجُعلت قربةً لله؛ فلا يجوز بيع شيء منها، ولا المعاوضة على شيء منها، لكن يعطيه الإنسان بأمر خارج من عنده، أما أن يجعل لحمها أو جلودها، أو شيئًا منها عوضًا عن أُجرةٍ أو غيرها فلا يجوز.
لكن لو كان هذا الجزار فقيرًا، فهل يجوز أن يعطى منها أو لا؟ نعم، يجوز أن يعطى منها لفقره؛ لا لأجرته، أو يجوز أن يعطى منها هدية؛ لكن أن يعطى من أجل جزارته فلا.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"والسُّنة أن يأكل ثلث أضحيته، ويهدي ثلثها، ويتصدق بثلثها، وإن أكل أكثر جاز". 
النصوص في الجملة دلت على أن الإنسان يأكل من الهدي، ومن الأضحية، ويتصدق، قال الله - تعالى -: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، وقال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]؛فدلت على أن في الهدي إطعامًا للمساكين، وأنهم يُعطون منها، فقسمتها إلى قسمين، ولهذا قال بعض العلماء: تكون أنصافًا؛ أي نصف يأكله صاحب الأضحية، ونصف يعطيه للفقراء، وهذا قول عند الشافعية. وبعض العلماء قال: تجعل أثلاثًا: ثٌلث يأكله، وثلث يتصدق به، وثلث يهديه لمن شاء، واستدلوا على ذلك بما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال علقمة: "أمرني عبدالله - يعني ابن مسعود - أن أقوم على هديه، وأن آكل ثلثه، وأن أُعطي أهل أخيه عتبة ثلثًا، وأن أتصدق بثلث"، وكذلك ورد عن ابن عمر أنه قال: "الهدايا والضحايا: ثلث لك، وثلث لأهلك، وثلث للمساكين"، والمراد: بأهلك يعني الذين لا تنفق عليهم، فتهدي لهم.
وقوله: "وإن أكل أكثر جاز"؛ لأن توزيعها أثلاثًا ليس على سبيل الوجوب، وإنما هو على سبيل الاستحباب، فلو أكل أكثرها جاز.
مسألة: إذا أكلها كلها ولم يتصدق منها، هل يجوز أو لا يجوز؟
مذهب الحنابلة أنه إذا أكلها كلها؛ فإنه يضمن مقدار أُوقية من لحمها؛ لأنه لم يَصْدُق عليه أنه تصدق بشيء منها، والله - عز وجل - قد أمره بأن يطعم الفقراء، وأن يطعم القانع والمعتر، وأن يطعم البائس والفقير، والأمر للوجوب، وهذا لم يفعل.
وقال الشافعية: له أن يأكلها كلها.
والصحيح هو أنه يجب عليه أن يطعم من أضحيته.
مسألة: لو أنه لم يأكل من الأضحية؛ بل تصدق بها كلها، هل يجوز أو لا يجوز؟ أي هل يجب الأكل من الأضحية أو لا يجب؟ 
اختلف العلماء في هذا، والصحيح أنه لا يجب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر خمس بدنات، ولم يأكل منها شيئًا وقال: ((من شاء فليقتطع))ـ فدل ذلك على أنه ليس بواجب، أما الأمر بالأكل الوارد في القرآن، فهو كالأمر بالأكل الوارد في الثمار، فإنه ليس للوجوب؛ بل للاستحباب أو للإباحة، ويصرح المؤلف أنه للاستحباب.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وله أن ينتنفع بجلدها ولا يبيعه، ولا يأكل شيئًا منها".
لأن الجلد جزء من الأضحية أو الهدي، فله أن ينتفع به كما ينتفع بسائر لحمها وأجزائها؛ ولكن ليس له أن يبيعه، ولا أن يبيع شيئًا منها، لما تقدم من أنها قربة لله - عز وجل - فلا يجوز له أن يبيع شيئًا منها.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فأما الهدي - إن كان تطوعًا - استحب له الأكل منه؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر مِن كل جزورٍ ببضعة فطُبخت، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها، ولا يأكل من واجب؛ إلا من هدي المتعة والقِران".
قول المؤلف: "إن كان تطوعًا"، هذا القيد يُفهَم منه أنه إذا لم يكن تطوعًا لم يَجُزْ له أن يأكل منه؛ إلا في هدي القِران والمتعة؛ كما صرح بهذا في الأخير، يعني أن الهدي الذي كان بسبب فعل محظور، أو ترك مأمور، لا يجوز له أن يأكل منه، لأنه كفارة، وكذلك يدخل تحت هذا العموم أشياءُ كثيرة سنبينها، إن شاء الله تعالى.
أما قوله: "يستحب أن يأكل منه"؛ فلأن النبي – صلى الله عليه وسلم - لما نحر بدنه أَمَرَ من كل بدنة ببضعة منها، فجعلت في قِدْرٍ وطُبخت، فأكل الرسول – صلى الله عليه وسلم - من لحمها، وشرب من مرقها، كما في صحيح مسلم من حديث جابر: "أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - أخذ من كل بدنة جزءًا أو قطعة، ووضعها في قِدْر وطبخت، فشرب من مرقها، وأكل من لحمها)).
وقوله: "ولا يأكل من كل واجب" يدخل تحت هذا ما بسبب محظور، أو ترك مأمور؛ فإنه 
لا يأكل منه، ويدخل تحته أيضًا الكفارات، ويدخل تحته ما تعيَّن على الإنسان بالنذر أو بغيره، فإنه لا يأكل منه؛ إلا دم المتعة والقِران، فإنه يأكل منه؛ لأنه دم شكران، وليس دم جبران.
باب العقيقة 
العقيقة لغةً: فَعِيلَة من العَقِّ، وهو القطع، ومنه عقوق الوالدين؛ أي قطعهما.
أما العقيقة شرعًا: فهي الذبيحة التي تذبح عن المولود.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وهي سنة، عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة".
قوله: "وهي سنة" يحتمل احتمالين: يحتمل أنه أراد أنها مشروعة، ويحتمل أنه أراد السُّنة المقابلة للواجب، لأن السنة تطلق على عدة إطلاقات؛ تطلق على السُّنة المقابلة للبدعة، يقال: هذا العمل سُنة؛ يعني مشروع، ويقال: هذا العمل بدعة؛ أي ليس بمشروع، ولهذا يقال: أهل السُّنة، وأهل البدعة.
فيكون مراد المؤلف حينئذ الرد على الذين ينكرون مشروعية العقيقة، ويحتمل أن يكون أراد أنها سُنة على ما يقابل الواجب، فأراد المؤلف أن ينفي وجوبها، فإذا كان المراد الاحتمال الثاني، فإنه ظاهرٌ في نفي الوجوب، وأما إذا كان الأول، فإنه لا يدل على نفي الوجوب، ولهذا لو قال الإنسان في أمر: أنه سُنة، وأراد المعنى الأول؛ فإنه يشمل المستحب والواجب، وأما المعنى الثاني؛ فإنه لا يشمل إلا الواجب، وأحيانًا تطلق السُّنة على ما كان عليه العمل في الصدر الأول في عصر السلف، فيقال: هذا سُنة، يعني عمل به الصحابة والتابعون، ومن بعدهم من سلف الأمة.
والأقرب هو الاحتمال الثاني: أنها مشروعة ومستحبة، والدليل على مشروعيتها:
1- ما في صحيح البخاري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ((مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى)).
2- ما في السنن من حديث سَمُرَة - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل غلامٍ رهينةٌ بعقيقته، تُذبح عنه يوم سابعه، ويُسمَّى، ويُحلق رأسه)). 
3- ما في مسند أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - سأُل عن العقيقة، فقال: ((لا أُحب العقوق - فكأنه كره الاسم -))، فقالوا: "يارسول الله: إنما نسألك عن أحدنا يولد له ولد؟))، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أحبَّ أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة))؛ وهو حديث حسن، فهذا الحديث يدل على أن قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((كل غلام رهينةٌ بعقيقته))، أنه ليس للوجوب؛ بل للاستحباب لأنه قال: ((من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل))، فهذا دليل على الاستحباب.
قوله: "متكافئتان"؛ أي متماثلتان سنًّا وشبهًا.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"تذبح يوم سابعه، ويحلق رأسه، ويتصدق بوزنه وَرِقًا".
قوله: "تذبح يوم سابعه" لحديث سمرة المتقدم: ((كل غلامٍ رهينةٌ بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى، ويُحلق رأسه)).
وقوله: "يتصدق بوزنه وَرِقًا"؛ أي فضة، وهذا ورد عند الترمذي، والحاكم أن الرسول – صلى الله عليه وسلم -: "عَقَّ عن الحسن، وأمر فاطمة أن تَحلِقَ رأسَه، وأن تتصدق بوزنه وَرِقًا".
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"فإن فات يوم سابعه ففي أربعة عشر، فإن فات ففي أحد وعشرين".
هذا مروي عن عائشة - رضي الله عنها - عند الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، فهو موقوف عليها، فمعنى هذا أنه إذا مرت السبعة الأولى، ففي السبعة الثانية، أو في السبعة الثالثة.
فإذا زاد عن واحد وعشرين هل يعتبر السابع عنه، فيقال: تذبح في الثامن والعشرين، أو في خمس وثلاثين، أو في الثاني والأربعون... أو لا يعتبر؟ فيه احتمال أنه يعتبر، واحتمال آخر أنه لا يعتبر، والظاهر أنه لا يعتبر ذلك، فليس هذا واجبًا؛ بل للإنسان أن يذبح قبل السابع، وليس شيء في ذلك.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وينزعها أعضاء، ولا يكسر لها عظمًا".
استحباب هذا مروي عن عائشة - رضي الله عنها - فإنه يفعل ذلك تفاؤلاً بسلامة المولود، وليس في هذا دليل مقنع كافٍ في المسألة، والظاهر أنه لا بأس بكسر عظمها، ومسألة التفاؤل مسألة تحتاج إلى توقيف من الشارع في مثل هذه الأمور.
والمراد بقوله: "ينزعها أعضاء"؛ أي ينزعها من المفصل، ولا يكسر العظم.
يقول المؤلف - رحمه الله تعالى -:
"وحُكْمها حكم الأضحية فيما سوى ذلك".
فالعقيقة تشترك مع الأضحية في بعض الأحكام، وتخالفها في بعض الأحكام:
فتشترك معها في شروطها: فلابد أن تكون من بهيمة الأنعام، وأن تبلغ السن المعتبرة شرعًا، وأن تكون سليمةً من العيوب، وتشترك معها أيضًا في صفة التوزيع؛ فتوزع أثلاثًا كما توزع الأضحية.
وتخالف الأضحية فيما ذكر المؤلف، أنه تنزع أعضاءً ولا تكسر، وتخالفها أيضًا أنه لا يُشتَرك في العقيقة؛ يعني لأنذبح جملاً عن سبعة أولاد، فلو أن إنسانًا جاء له سبعة أولاد، وقال أذبح عنهم جملاً، فإن هذا لا يجزئ، قالوا: لأنها لم تَرِد، ولأن هذه فدية، والفدية لا تكون بالبعض.
مسائل:
س1: إذا تجاوز الميقات ولم يُحرِم بسبب النسيان، ثم تذكر وأحرم، فما الحُكْم؟
ج1: النسيان لا أثر له في إسقاط المأمورات، فمَن ترك مأمورًا فعليه أن يأتي به، فالنبي – صلى الله عليه وسلم - كما في رواية ابن عمر فرضَ هذه المواقيت، فإن أحرم من مكانه - وإن كان ناسيًا - فعليه دم.
س2: شخص أحرم من الميقات بالعمرة؛ ولكنه ذهب إلى جدة، ثم نزل منها إلى مكة، هل يجوز فعله؟
ج2: إذا أحرم من الميقات وبقي على إحرامه، فإنه لا شيء عليه، حتى وإن أخر فترة الإحرام؛ فبقي مُحرِمًا عشرة أيام أو أكثر من ذلك، لا يضر.
س3: كثيرٌ من الحجاج ينزلون بمطار جدة، ثم يتجهون إلى المدينة، ويمكثون بها عدة أيام قبل الحج، ثم يُحرِمُون من ذي الحُلَيْفة، فما حُكْم ذلك؟
ج3: هذا إذا كان يريد عند أول خروجه المدينةَ، ولا يريد الحج منذ قدومه من بلده، فهذا ليس عليه إحرام، فمثل هذا إن كان يريد المدينة ابتداءً؛ فإنه يأتي إلى المدينة ولا شيء عليه، وإن كان يريد من هناك مكةَ؛ أي من بلده يريد مكة للعمرة أو الحج، فعليه أن يذهب إليها، ويمكن أن يأتي بعمرة، ثم يأتي إلى المدينة.
لكن هناك محظور عظيم يقع فيه بعض الحجاج؛ أنه يأتي مُحرِمًا ثم يفسخ إحرامه في مطار جدة، ثم يأتي إلى المدينة، فهذا لا ينفسخ إحرامه؛ بل يبقى مُحرِمًا، فلو ارتكب محظورًا فعليه ما يترتب على ذلك المحظور؛ يعني كثير من الناس يقع في هذا، وهو لا يشعر أن الإحرام
لا ينفسخ بفسخ الإنسان له، قال – تعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فلا ينفسخ الحج إلا إذا اشترط في بداية الإحرام: إن حبسه حابس فمحِلُّه حيث حَبَسَه، أو يُحصَر عن الحج، أو يُتم الحج، وأما من تلقاء نفسه فلا يجوز، فكثير من الناس يقع في هذا الأمر العظيم، فبعض الناس يأتي بعمرة، ثم ينتظر رفيقه في الطريق فلا يلحق به، فيفسخ إحرامه ويرجع، هذا من التلاعب بهذه العبادة، فينبغي على الإنسان ألا يدخل فيها ابتداءً، أما أن يدخل فيها ثم لا يتمها فهذا جهل.
س4: ما الحِكمة من الإحرام لأهل مكة بالحج من منازلهم، وبالعمرة من الحِلِّ؟
ج4: الحِكمة من إحرام أهل مكة بالحج من منازلهم؛ لأنهم في الحج يجمعون بين الحل والحرم، لأن عرفة من الحل، ومنى ومزدلفة من الحرم، وأما في العمرة لا يجمعون إلا إذا خرجوا إلى الحل، ولأن العمرة الزيارة، ولا يَصْدُق ذلك إلا على مَنْ وفد على البيت من خارج الحرم.
س5: هل يجوز أن ينوي العمرة من الميقات، ثم يلبس إحرامه إذا تجاوز الميقات؟
ج5: هذا أحسنَ من جهة، وأساء من جهة أُخرى، فهو أحرم من الميقات؛ ولكنه أتى بمحظور وهو أنه لبس مخيطًا، فعليه دم؛ ولكن إذا كان هذا لابسًا ثيابًا ليس فيها مخيط، فإحرامه صحيح، ولا شيء عليه.
س6: ما هي حدود الحِل بمكة؟ 
ج6: مكة موجود بها علامات، فمثلاً العمرة من الحل، كذلك من جهة عرفة هذه من الحل، وأيضًا من جهة الحديبيه فهي من الحل.
س7: شخص أراد الذهاب إلى الطائف لزيارة الأقارب وهو من أهل المدينة، ثم أراد مكة وأحرم من السيل الكبير، فما الحُكْم؟
ج7: هذا إذا كان يريد العمرة من المدينة، فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات إلا مُحرِمًا، أما إذا كان ليس عنده نية جازمة، فيقول مثلاً: أذهب إلى الطائف فإذا وجدت أحدًا يوافقني للعمرة اعتمرنا، أو يقول إن تيسرت الظروف أعتمر أو أحج، فهذا يُحرم من السيل الكبير، أما إذا كانت عنده نية جازمة للعمرة أو الحج من المدينة، فلا يتجاوز الميقات إلا مُحرِمًا، ثم يذهب إلى الطائف بإحرامه، فلا مانع من ذلك.
س8: إذا أرادت المرأة أن تحج، فماذا يشترط عليها أن تلبسه؟
ج8: المرأة ليس لها لبس تختص به، يعني في أي لون من الثياب، وفي أي شيء من الثياب لها أن تحرم، لكن لا تغطي وجهها؛ إلا إذا كان هناك أجانب فلها أن تغطي، ولا تنتقب ولا تلبس القفازين (المعروف بالجونتي)، المهم أنها ممنوعة من هذا الأمر، أما غير ذلك فلها أن تلبس ما شاءت من الثياب.
س9: إذا لم يشترط الإنسان، فعاقه عائقٌ، فما الحكم؟
ج9: إذا لم يشترط فإنه يكون كالمحصَر، والمُحْصَر عليه هدي للحرم، ويحلق، ويحل.
س10: ما حكم مَن أمسك إحرامه بمجموعة من الأزارير أو بالمشابك؟
ج10: هذا لا ينبغي؛ لأن هذا في حكم الخياط، لكن لو كان شيء يشده على إحرامه؛ كالكمر أو غيره الذي يوضع لحفظ المال، فهذا لا بأس به، أما غير هذا فلا.
س11: هل مَن رجع إلى أهله يكون متمتعًا، ويلزمه دم أو لا؟
ج11: هذه المسألة فيها خلاف:
من العلماء من قال: مَن خرج عن مكة مسافة قصر، فلا يكون متمتعًا. 
ومنهم من قال: إن رجع إلى أهله فإنه لا يكون متمتعًا، وإن رجع إلى مكان آخر فإنه يكون متمتعًا؛ لأنه إذا رجع إلى أهله لم يترفَّه بترْك أحد السفرين؛ بل يكون أتى بسفر للعمرة وسفر للحج، أما إذا رجع إلى مكان آخر بقي ترفهه بأحد السفرين، ولعل هذا هو الأظهر، والله تعالى أعلم.
س12: ما هو الفسخ؟ وما حِكْمته؟
ج12: الفسخ هو أن يفسخ الحج إلى عمرة، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم – أصحابه. وقال العلماء: حكمة الفسخ أن المشركين كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، ويرونها من أفجر الفجور، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيِّن فساد هذا الاعتقاد، فأمر أصحابه أن يفسخوا الحج إلى عمرة، ولما قال له سراقة بن مالك - رضي الله عنه -: "أرأيت عمرتنا هذه، ألنا خاصة أم للأبد؟"، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إلى الأبد، وشبك بين أصابعه))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة))، فدل على أن هذا الحكم ثابت، وأن العمرة داخلة في الحج، وأنه يجوز فعلها في أشهر الحج.
وبعض العلماء قال: هذا كان واجبًا في حق الصحابة؛ لأنهم هم الذين عنوا بهذا الأمر، وليس واجبًا في حق غيرهم،واختاره شيخ الإسلام.
ومن العلماء من قال: هذا واجب في حق الجميع، وكان ابن عباس - رضي الله عنه - يرى ذلك ويقول: "من طاف بين الصفا والمروة فقد حلَّ، شاء أم أبى"، وذهب إلى هذا الظاهرية، واختاره ابن القيم، رحمه الله تعالى.
لكن الصحيح الذي عليه جمهور العلماء - رحمهم الله تعالى - وعليه الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - أنه يجوز للإنسان أن يُحرِم بأي الأنساك الثلاثة السابقة شاء. انتهى.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.