وظائف ذي الحجة
ملخَّص الخطبة:
1- فضل عشر ذي الحجة.
2- استحباب الإكثار من ذكر الله تعالى فيها.
3- فضل صيام عشر ذي الحجة.
4- فضل الأُضحية.
5- من أحكام الأُضحية.
6- وقت الأُضحية وشروطها.
7- صفة الحج.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنَّ من رحمة الله لعباده أن جعلَ لهم مواسمَ للطاعات، يتنافسُ المسلمون فيها بصالح الأعمال، فضلًا من الله ورحمة، والله ذو الفضل العظيم.
أيُّها المسلم، من هذه الأيام أيامُ عَشْر ذي الحجَّة، فهي أيامٌ معظَّمة في شرع الله، لها خصوصيَّة في مزيد الطاعة والإحسان، وقد نوَّه الله بها في كتابه العزيز؛ قال تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1-2]، والمراد بها عشرُ ذي الحجة، وقال تعالى: ﴿ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ﴾ [الحج: 28]، والمراد بالأيام المعلومات: هي عشرُ ذي الحجَّة.
ودلَّت سنَّة رسول الله على فضلها، وأنَّه يُشرع التنافس فيها في صالح العمل، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما من أيَّامٍ العملُ الصالح فيهنَّ أحبُّ إلى الله من هذِه العَشْر)). قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيءٍ))[1].
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما من أيَّامٍ العملُ فيها أعظم عند الله سبحانه ولا أحبُّ إليه من العمل في هذه الأيام - يعني: عَشْر ذي الحجَّة - فأكثِروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد))[2].
قال البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العَشْر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما"[3]؛ بمعنى: أنَّهما يحيِيان هذه السنَّة، فيذكرون الله جلَّ وعلا، يقومان رضيَ الله عنهما بذكر الله، فيقتدي النَّاس بهما، فيذكرُ الجميع ربَّ العالمين.
وكان عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضيَ الله عنه بمنى يكبِّر عقِب الصلوات، ويكبِّر في فُسْطاطِه وعلى فراشِه وفي مجلسه، ماشيًا وقاعدًا، وهكذا كانوا يُحيون هذه السنَّة ويعظِّمونها، فيذكرون الله جلَّ وعلا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيُّها المسلم:
في هذه الأيّام المباركة يُشرَع لك التزوُّد من صالح العمل؛ والتوبة إلى الله ممَّا سلف وكان من سيِّئات الأقوال والأعمال.
أيُّها المسلم:
إنَّ هذه الأيامَ العشر اجتمعت فيها أنواعٌ من العبادة؛ الصلاة والصوم والصدقة والحجّ، فاجتمعت أنواع هذه الطاعة؛ الصلاة والصدقة والصوم والحج، فأكثِر من فعل الطَّاعة، وبادِر إلى الفرائض، وأكثِر من النوافل، وفي حديث ثوبان رضيَ الله عنه: ((عليك بكثرة السُّجود، فإنَّك لا تسجُد لله سجدة إلا حطَّ الله بها عنك خطيئة، ورفع لك بها درجة))[4].
ويُسنُّ صيامُ هذه التِّسع لمَنْ قدر على ذلك، ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله أنَّ النبيَّ كان يصوم تسعَ ذي الحجة ويومَ عاشوراء وثلاثةَ أيام من كلِّ شهر[5].
وأفضلها وآكدُها صومُ يوم عرفة لمَنْ لم يكن حاجًّا، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم في صيام يوم عرفة: ((أحتسبُ على الله أن يكفِّر سنةً قبله وسنةً بعده))[6].
فعظِّموا هذه الأيامَ، فإنَّها أيّامٌ عظيمة عند الله، شُرِع لكم فيها أنواعٌ من الطاعة، فتزوَّدوا من صالح العمل.
أيُّها المسلم:
شُرِع لنا أيضًا في يوم النَّحر أن نتقرَّب إلى الله بذبح الأضاحي عبادةً لله، وقربةً نتقرَّب بها إلى الله، والله جلَّ وعلا قد حثَّنا على ذلك، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ ﴾ [الأنعام: 162-163]، وقال جلَّ وعلا: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [التكاثر: 2].
وكان نبيُّكم صلَّى الله عليه وسلَّم كثيرَ الصلاة، كثيرَ النَّحْر، وقد حثَّ على الأضاحي ورغَّب فيها بقوله وفعله؛ فمن قوله: ما ثبت عنه أنَّه قال: ((ما عمل ابنُ آدم يومَ النَّحر أحبُّ إلى الله من إراقة دمٍ، وإنَّه يأتي يومَ القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإنَّ الدَّم ليقع من الله بمكانٍ قبلَ أن يقَع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا))[7]. وقال لمَّا سُئل: ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنَّةُ أبيكم إبراهيم)). قالوا: ما لنا منها؟ قال: ((بكلِّ شعرةٍ حسنة)). قالوا: الصوف؟ قال: ((وبكلِّ شعرةٍ من الصوف حسَنة))[8].
ونبيُّكم حافَظ عليها مدَّةَ بقائِه في المدينة، فما أخَلَّ بها سنَةً من السنين كلَّ مدةِ بقائِه في المدينة، منذ هاجَر إلى أن توُفِّيَ، وكان يُعلِن هذه السنَّة ويظهرها للملأ؛ قال أنسٌ رضيَ الله عنه: "كان رسول الله إذا صلَّى يومَ النَّحر أُتيَ بكبشَيْن أقرنَيْن أملحَيْن، فرأيتُه واضعًا قدمَه على صفاحهما، يسمِّي ويكبِّر، فيذبحهما بيده، صلوات الله وسلامه عليه"[9]، ممَّا يدلُّ على عظيم هذه السنَّة.
أيُّها المسلم:
ليس الهدفُ منها اللَّحم، ولكنَّها قربةٌ تتقرَّب بها إلى الله، قال الله جلَّ وعلا: ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾ [الحج: 37]، إذًا فذبحُها أفضلُ من الصَّدقة بثمنها.
والمسلم يضحِّي عن نفسه وعن أهل بيته، أحيائهم وأمواتهم، فإنَّ نبيَّنا كان يضحِّي بكبشَيْن؛ أحدُ الكبشين عن محمَّد وآل محمَّد، والثاني عمَّن لم يضَحِّ من أمَّة محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه[10]. فضحِّ عن نفسك، وضحِّ عن أهل بيتك، قليلٍ وكثير.
وسنَّة محمَّدٍ دلَّت على أنَّ الشاةَ الواحدة تغني الرجلَ وأهلَ بيته؛ قال أبو أيوب الأنصاري رضيَ الله عنه لمَّا سُئل عن الأضاحي في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "كان الرَّجل منَّا يضحِّي بشاةٍ واحدةٍ عنه وعن أهل بيته، حتى تباهى الناس فكانوا كما ترى"[11]. بمعنى: أنَّ الرجلَ إذا ذبح أضحيةً واحدةً عنه وعن أهل بيته، الأحياء منهم والأموات، وأشركهم جميعًا في ثوابها؛ نالهم ذلك الثوابُ بفضل الله، فليس الهدف التعدُّد، إنّما الهدفُ التقرُّب إلى الله تعالى.
أيُّها المسلم:
وأمّا الوصايا التي أوصى بها الأمواتُ؛ فينفِّذها المسلم كما كانت، لا يزيد ولا يُنْقِص، لا يُدخِل فيها ما ليس منها، ولا يُخرج منها من هو فيها، وإذا عجز ريع الأوقاف عن الأضحية في عام فأخِّرها ولو عامًا آتيًا، وإذا كان الرجلُ قد أوصَى بعدّة أضاحي وعجز في ثلثه عن القيام بها كلِّها؛ فلا بأسَ أن تجعلها في شاةٍ واحدةٍ، وتُشرك الجميع، إذا كان الموصي واحدًا أوصى بعدَّة أضاحي فلم يكن غلَّة ذلك الوقف تغطِّي الجميع.
أيُّها المسلم:
إنَّ نبيَّنا جعل للأضاحي وقتَ ابتداء، فابتداءُ ذبحها من بعد نهاية صلاة عيد النَّحر، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ صلَّى صلاتَنا ونسك نسكنا؛ فقد أصاب السنَّة، ومَنْ ذبَح قبل الصلاة؛ فليُعِد مكانها أخرى))[12].
وبيَّن السِّنَّ المعتبَر في الأضاحي، وأنَّها الثني أو الجذع من الضأن، وفي الإبل خمس سنين، وفي البقر سنتان، وفي المَعز سنة، وفي الجذع من الضأن ستَّة أشهر، فلا يجزئ الأضاحي إلا من بهيمة الأنعام؛ من الإبل والبقر والغنم.
ولابدَّ من سلامتها من العيوب التي تمنَع الإجزاء؛ لأن المقصدَ التقرُّبُ إلى الله بالطيِّب؛ قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾ [البقرة: 267]؛ فنهى أن يُضحَّى بالعوراء البيِّن عَوَرُها، وهي التي انخسفت عينُها أو برزت، فلا تبصِر بها ولو كانت قائمة، ونهى أن يضحَّى بالمريضة البيِّن مرضُها، والتي ظهر أثر المرض عليها في مشيها وفي أكلها وفي شربها، ونهى بأن يضحَّى بالعرجاء البيِّن ضَلْعُها، ونهى أن يضحَّى بالعَجْفاء الهزيلة التي لا تُنْقِي.
وجاء أيضًا النهيُ عن أعضَب القرن والأُذُن؛ ما كان القَطْع في الأُذُن أو القَرْن أكثر من النِّصف، وكُره نقصٌ فيها، قال عليٌّ رضيَ الله عنه: "أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن نستشرف العينَ والأذن".
فكلُّ ذلك مكروهٌ التضحيةُ به، أمَّا العيوب الأربعة من العرَج والعوَر والمرَض والهُزال؛ فتلك لا تجزئ مطلقًا، وما كان أشدَّ منها كذلك.
أيُّها المسلم:
تقرَّب إلى الله بها، وتولَّ ذبحَها إن كنت تقدر على ذلك اقتداءً بنبيِّك، واحضُر ذبحَها؛ فإنَّها من شعائر الدين، وعظِّموها رحمكم الله كما أمركم بذلك ربُّكم، واذبحوا أضاحيكم في بلادكم، ولا تكِلوها إلى مَنْ لا تعلمون أمانته ونزاهته، من أولئك الذين يطلبون إخراجها والتبرُّع بها، ليتولَّوا ذبحَها في غير بلادكم، وكثيرٌ منهم ليسُوا على مستوى المسؤولية في ذلك، فتولُّوا بأنفسكم الإشرافَ على هذه السنَّة، الإشرافَ على هذه العبادة ومباشرتها، فإنَّها طاعةٌ لله وقُرُبةٌ تتقرَّبون بها إلى الله.
يُروى في الحديث وإن كان فيه مقالٌ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لفاطمة رضيَ الله عنها: ((قُومي إلى أُضحيتِكِ فاشهديها، فإنّه يُغفَر لكِ بأوَّل قطرةٍ من دمها))[13].
لا شكَّ أنَّها طاعةٌ لله، وقربةٌ يتقرَّب بها العبادُ إلى الله، يُحيون سنَّة نبيِّهم وسنَّة أبيهم إبراهيم، يتقرَّبون بذلك إلى الله، ليس الهدفُ اللَّحْم، ولكن الهدف العبادة لله، ليرغموا أعداءَ الإسلام الذين يتقرَّبون إلى قبور الأموات، ويذبَحون لهم وينذرون لهم، والمسلمُ يتقرَّب بذبحه إلى الله طاعةً لله: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 - 163].
ليس الهدفُ غلاء الثمَن مطلقًا، إنّما الهدفُ السلامة من العيوب، وخيرُ الأمور أوساطُها، ولا يلزَم التقصِّي في أغلى الثمَن وفي نحو ذلك، فإنَّ الهدفَ الطاعةُ، والمهمُّ السلامةُ من العيوب، وخلوِّها من العيوب التي تمنَع الإجزاءَ أو التي تنقص الثوابَ، فاتقوا الله يا عباد الله، وتقرَّبوا إلى الله بما يُرضيه.
أسأل اللهَ لي ولكم التوفيق والسَّداد لما يحبُّه ويرضى، إنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
حجاجَ بيتِ الله الحرام، أتَيتم لهذا البلد الكريم من أقطار الدنيا، وتجشَّمتم المشاقَّ، وفارقتُهم البلد والولدَ والوالد والأهل والمال، وأنفقتم في سبيل ذلك ما استطعتم، استجابةً لأمر الله؛ حيث يقول: ﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، وإجابةً لنداء الخليل عليه السَّلام حيث قال الله عنه: ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ *لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 27 - 28]، ويقينًا ببشرى محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسق؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه))[14].
فاحرِصوا على الإخلاص لله في القول والعمل، وأن يكونَ العمل موافقًا لشرع الله، فإنَّ الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه، يَبتغي به عامله وجهَ الله والدَّار الآخرة: ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ﴾ [الكهف: 110].
يا أخي الحاجُّ:
اعلَم أن نبيَّنا جعل للبيت مواقيتَ أربعة، أمَر كلَّ حاجٍّ أو معتمرٍ أن ينوي الحجَّ أو العمرة من هذه المواقيت الأربعة التي جعلها الله حمًى للحرم، كما جعل الحرم حمًى لمكة، وجعل مكة حمًى لبيته العتيق. ونبيُّنا وقَّت هذه المواقيت، وأمر المسلمين أن يُهلُّوا بالنسك منها، فقال: ((يهلُّ أهلُ المدينة من ذي الحُلَيْفَة، وأهل الشام ومصر من الجُحْفة، وأهل اليمن من يَلملَم، وأهلُ نجد من قَرْن، هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممَّن أراد الحجَّ والعمرة، ومن كان دونَ ذلك فمهلَّه منذ أنشأ، حتَّى أهل مكَّة يُحرِمون من مكَّة))[15].
أخي الحاجُّ المسلم:
إذا أتيتَ عند واحدٍ من هذه المواقيت فانوِ النسكَ الذي تريد، وأنتَ مخيَّر بين أنساكٍ ثلاثة، بين أن تقول: "لبَّيك اللهمّ حجًّا"، فهذا حجّ مفرد، وبين أن تقول: "لبَّيك اللهمَّ حجًّا وعمرة"، فهذا قِرانٌ بين نُسكين، وبين أن تقول: "لبّيك اللهمّ عمرة متمتعًا بها إلى الحج"، فهذا يسمَّى تمتّعًا. وهذه النّسك بإجماع المسلمين أنَّ كلَّ واحدٍ منها مجزئ، ولكنَّ المحقِّقين قالوا: إنَّ أفضلَها لمن ساق الهديَ أن يقرِن، ومن لم يسُق الهديَ أن يتمتَّع، وإن أفرد فلا شيءَ عليه، الكلّ جائزٌ ومؤدٍّ للواجِب.
فإذا قلتَ: "لبّيك اللهمَّ حجًا"، وأتيتَ بيتَ الله الحرام، فإن شِئت فطُف بالبيت واسعَ بين الصفا والمروة، ولكن يبقى عليك إحرامُك إلى يومِ النحر، فتذَهب إلى عرفة ومزدلفة، فإذا رميتَ جمرةَ العقبة وحلقتَ أو قصَّرت من رأسك حللتَ من إحرامِك، ويبقى عليك طوافُ الإفاضة والسعي، هذا إن لم تسعَ مع طوافِ القدوم، وإن سعيتَ مع طوافٍ قبلَ الحجّ سَقَط عنك السعي، لكن طواف الإفاضة لابدَّ منه.
والقارنُ بين الحجِّ والعمرة، القائل: "لبَّيك اللهمَّ حجًّا وعمرةً" هو كالمُفرِد، له أن يسعى مع طوافه للقدوم، وله أن يؤخِّر السعيَ إلى أن يَسعى مع طواف الإفاضة يوم النَّحْر.
أمَّا المتمتِّع؛ فإنَّ عليه طوافًا وسعيًا لعمرته؛ لأنَّه يتحلَّل بعد ذلك، وعليه طوافٌ وسعيٌ آخَر لحجِّه، هكذا سنَّة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
أخي الحاجُّ المسلم:
فإذا دخل اليومُ الثامن من ذي الحجة، إن كنت متمتِّعًا فأحرِم للحج، وإن كنتَ قارنًا أو مُفرِدًا باقيًا على إحرامك فاذهب مع الحجَّاج جميعًا إلى منى، ويصلِّي بها المسلمون الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كل صلاةٍ في وقتِها، يصلُّون الظهر في وقتها ركعتين، والعصر في وقتها ركعتين، والمغرب ثلاثًا في وقتها، والعشاء في وقتها ركعتين، والفجر بلا شكٍّ غير مقصورة ركعتين؛ لأنَّه لا جمع إلا في عرفة ومُزْدَلِفَة.
ثمَّ يتوجَّه الحجَّاج يومَ التاسع بعدَ طلوع الشمس إلى عرفة، يقِفون في ذلك الموقِف العظيم وفي هذا اليوم العظيم طاعةً لله، واقتداءً بنبيِّهم، يُكثِرون من ذكر الله والثناء عليه، ودعائه ورجائه، والتضرُّع بين يديه، فما رُئي الشيطان في موضعٍ هو أصغَر ولا أحقَر ولا أغيَظ منه ما رُئي يومَ عرفة.
ثم بعد غروب الشمس ينصرِف الحاجُّ إلى مُزْدَلِفَة، فيصلُّون بها المغرب والعشاء إذا وصلوا إليها جمعًا وقصرًا، كما يصلُّون الظهر والعصر بعرفَة جمعًا وقَصْرًا في وقت الظهر، ويبيتون بها، وللعَجَزَة من النساء والضعفاء الانصرافُ من بعد نصف الليل، والأقوياء يبقون حتى يصلُّوا بها الفجر، فيذكرون الله ويُثنون عليه.
وقبل طلوع الشمس يفيضون إلى منى، فيرمي المسلم جمرةَ العقبة بسبع حصيات، ثمَّ يحلق أو يقصِّر من رأسه، ثمَّ قد حلَّ له كلُّ شيءٍ حرم عليه بالإحرام من الطِّيب ولبس المَخِيط وتقليم الأظافر وقصِّ الشَّعر وغير ذلك، ما عدا النساء؛ فلا يحصل له إلا بعدما يكمل نسكَه، ثمَّ يطوف بالبيت، ويسعَى بين الصَّفا والمروة، وقد حلَّ من كلِّ نسكه.
يبيت الحاجُّ بمنًى ليلةَ الحادي عشر والثاني عشر، يرمُون الجمارَ بعد زوال الشمس، ويمتدُّ الرميُ إلى طلوع الفجر من اليوم الثاني، ومَنْ تعجَّل في يومين خرج من منًى قبل غروب الشمس، ومن تأخَّر باتَ بها ورمَى بعد زوال الشمس.
فاتَّقوا الله في نسككم، وأدُّوه كما أمركم بذلك ربُّكم، والزموا السكينة والوقار في كلِّ أحوالكم، واعلموا أنَّ لهذا البيت حرمته وأمنه، قال الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ﴾ [العنكبوت: 67]، وقد توعَّد الله مَنْ همَّ بسوءٍ في الحرم أن يعاقبَه بمجرَّد نيَّته، وإن لم يفعل: ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].
فالزَموا السكينة في أحوالكم كلِّها، وتدرَّعوا بالصبر والحلم والأناءة، وكونوا أعوانًا على الخير والتقوى، جمع الله القلوب على طاعته، وتقبَّل من الحجَّاج حجَّهم، وردَّهم سالمين آمنين، إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير.
واعلموا رحمكم الله: أن أحسن الحديث كتابُ الله، وخير الهَدْي هَدْي محمَّدٍ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلُّوا رحمكم الله على عبد الله ورسوله محمَّد، امتثالاً لأمر ربِّكم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (969) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (2/ 75)، والبيهقي في الشعب (3750) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير (3/ 110)، جوَّد إسناده المنذري في الترغيب (2/ 24)، وقال الهيثمي في المجمع (4/ 17): "رجاله رجال الصحيح". وأورد الألباني الحديث في ضعيف الترغيب والترهيب (733، 735).
[3] صحيح البخاري: كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق. وقد وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين. كما في فتح الباري لابن رجب (9/ 8).
[4] أخرجه مسلم في الصلاة (488).
[5] أخرجه أحمد (5/ 271، 6/ 248، 423)، وأبو داود في الصوم (2437)، والنسائي في الصيام (2372)، والبيهقي في الكبرى (4/ 284) عن بعض أزواج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وقد اختلف في إسناده، وصححه الألباني صحيح أبي داود (2129).
[6] أخرجه مسلم في الصيام (1162) من حديث أبي قتادة رضيَ الله عنه.
[7] أخرجه الترمذي في الأضاحي (1493)، وابن ماجه في الأضاحي (3126) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/ 222)، وتعقبه الذهبي والمنذري، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (526).
[8] أخرجه أحمد (4/ 368)، وعبد بن حميد (259)، وابن ماجه في الأضاحي (3127)، والطبراني في الكبير (5/ 197)، والبيهقي في الكبرى (9/ 261) من طريق عائذ الله عن أبي داود عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وصححه الحاكم (3467) لكن في السند أبو داود قال البوصيري في الزوائد (3/ 223): "اسمه نفيع بن الحارث وهو متروك"، وقال البخاري ـ كما في سنن البيهقي-: "عائذ الله المجاشعي عن أبي داود روى عنه سلام بن مسكين لا يصح حديثه"، وانظر تخريجه في السلسلة الضعيفة (527).
[9] أخرجه البخاري في الأضاحي (5554، 5558، 5564، 5565)، ومسلم في الأضاحي (1966) بمعناه.
[10] أخرج أبو داود في الضحايا، باب: في الشاة يضحى بها عن جماعة (2810)، والترمذي في الأضاحي، باب: العقيقة بشاة (1521)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: أضاحي رسول الله صلى الله عليه وسلم (3121) عن جابر رضي الله عنهما قال: شهدت مع رسول الله الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره وأتي بكبش فذبحه رسول الله بيده وقال: ((بسم الله والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضحِّ من أمتي))، قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، والعمل على هذا عند أهل العلم"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2436).
[11] أخرجه مالك في الضحايا (1050)، والترمذي في الأضاحي، باب: ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت (1505)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: من ضحى بشاة عن أهله (3147)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1216).
[12] أخرجه البخاري في الجمعة (955، 983)، ومسلم في الأضاحي (1961) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ولفظه: ((من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم)).
[13] أخرجه أحمد (1/ 95، 105، 108، 125، 128، 132، 149، 152)، وأبو داود في الضحايا (2804)، والترمذي في الأضاحي (1498)، والنسائي في الضحايا (4372، 4373، 4376)، وابن ماجه في الأضاحي (3143)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2914)، وابن حبان (5920)، والحاكم (1720)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2544).
[14] أخرجه الحاكم (4/ 222) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وصححه، وتعقبه الذهبي، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (528).
[15] أخرجه البخاري في الحج (955، 983)، ومسلم في الحج (1961) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
التعليقات