الخطباء وفن المقدمات

 تستعمل المقدمات -عادة- في المواضيع التي تحتاج إلى تجديد، أو المواضيع التي تحتاج إلى إقناع، وخصوصا إذا كان يحوم حولها شبهات كثيرة، أو كان يحيط بها غموض أو غبش في التصور.

كما أن المقدمات تستعمل في الخطابة –غالبا- في تهيئة المستمع إلى تلقي الخطبة التي يريد الخطيب إيصالها إلى المصلي الذي يجلس أمامه، مستعدا لسماع خطبته. فالمقدمات في الخطب تصنف ضمن مقدمات الواجب، فالواجب الذي يريد الخطيب أن يذكِّ المصلي به يحتاج إلى تمهيد معين، قد يكون التمهيد طويلا، وقد يكون قصيرا حسب موضوع الخطبة.
كما أن المقدمات قد تأخذ أكبر نصيب في الخطبة في بعض المواضيع التي يرى الخطيب أن المجتمع قد غفل عن مقدماتها، وكان نتيجة هذه الغفلة سقوطه في حمأة أثارها السلبية، فيكون دوره هنا كدور الطبيب، الذي يقدم مقدمات مناسبة ودقيقة للمريض الذي أصيب بمرض خطير فيمهد له عن طريق ملاطفته، ثم الحديث عن الأمل ورفع المعنويات، وأهمية التفاؤل، وسبب إقدام الطبيب على هذا الأمر، أي تطويل الممهدات والتركيز على الموطِئات، هو أن الطبيب يدرك أن الخطر قد وقع فعلا، وأن التركيز هنا يجب أن يكون على العلاج، وليس على المشكلة، لذلك ينطلق في حديثه مع المريض من خلال ذكر فوائد الأمل والتفاؤل والصبر والتحمل والجلد والشجاعة، ويجتهد في جعل المريض يتمسك بأسباب الحياة.
وكذلك الخطيب، فإنه يركز على المقدمات في المواضيع الخطيرة التي يرى أن المجتمع قد غرق فيها، أو قد تلبس بها، أو قد طالت غفلته فيها، فهو يرى أن تركيزه على المقدمات، وعلى الأسباب أمر يوقظ الفكر، ويعيد رسم صورة واضحة للموضوع وأثاره في عقل المستمع والمجتمع طبعا.
فالخطيب عندما يركز على المقدمات إنما يركز على العلاج، ونضرب لطلك مثالا: فالخطيب الذي يعرف أن الغيبة وقذف أعراض المسلمين والمسلمات أمر قد انتشر انتشارا واسعا، يعمد عادة إلى تمهيد خطبته بالتركيز على العناصر التالية:
1/يذكر حقيقة المسلم وكلمة المسلم، ثم يذكر النصوص الشرعية التي تتحدث عن هذا الحقيقة، فيذكر -مثلا-حديث عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجَر ما نهى الله عنه”(متفق عليه).
هناك يكون الخطيب قد أعاد تذكير المستمع إلى خطبته بالتصور الذي يرسمه الإسلام عن الحقيقة المسلم، وأن أهم المعاني التي تعنيها كلمة “المسلم” هي المعاني السلوكية، فالإسلام يركز على سلوكيات المسلم، ويمكن هنا أن يأتي بأدلة على كلامه، وأن السلوكات الإيجابية في الإسلام لا تعني فعل الخير فقط، بل تعني فعل الخير وعبادة رب العالمين، مع اجتناب ما يضادها، فيذكر للمصلين أحاديث تخدم موضوعه مثل: ما رواه الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “قال رجل: يا رسول الله إن فلانة يُذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: "هي في النار"، قال: يا رسول الله فإن فلانة يُذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال: "هي في الجنة".” (والحديث صححه الألباني).
ولو أضاف حديثا يؤكد على أهمية السلوكيات لكان قد تمكن من ترسيخ معاني كلمة “المسلم” في أذهان المستمعين إلى خطبته، فمن كان يعاني من اندراس تصوره الصحيح عن حقيقة المسلم فإنه يسترجع تصوره الصحيح، ومن كان يملك ذلك التصور الصحيح المقصود، لكنه في الواقع مفقود الأثر فإنه يكون بذلك قد شحنه بشحنة الفعالية، فيجعله أكثر فعالية في الواقع، خاصة إذا نبهه إلى أهمية السلوكيات مع كل ما خلقه الله -سبحانه وتعالى-، فيذكر مثلا حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض”. (حديث صحيح)، هنا يفهم المستمع أن إيذاء الحيوانات أمر مرفوض في دين الإسلام الحنيف، فكيف بإيذاء البشر في أرواحهم وأعراضهم وأولادهم وأموالهم. وهذه النتيجة المنطقية التي يصل إليها المصلي تكفي الخطيب عناء البحث عن الإقناع العسير، فقد ساهم بطريقة غير مباشرة بإثارة حوارات عاصفة في عقل المستمع، وجعله يعرض بينه وبين نفسه مقارنات قوية، تجعله في الأخير يمارس الاقتناع الذاتي، ويتماهى ضرورة مع موضوع الخطبة، ويتفاعل معه بحماس داخلي، سيكون له الأثر المباشر في التغيير الذي سيحصل في سلوكياته، وحتى لو تأخر في تحسين سلوكياته، فإن الخطيب يكون قد نجح في بعث ضمير المستمع من رقاده، فإن كان في الماضي يظلم الناس بغيبته إياهم ولا يشعر بوخز الضمير إلا بنسبة عشرة بالمئة فإن هذه النسبة سترتفع ربما إلى خمسين بالمئة، وقد يستمر ارتفاعها باطراد، حتى يصل إلى قرار التخلي عن هذه العادة الخطيرة المدمرة لراحته، المؤذية له ولغيره.
إذن من خلال هذه المقدمة يكون الخطيب قد وضع المصلين في جو الخطبة، وجعلهم يندمجون في خطبته اندماجا مدروسا بدقة، حيث ركز على تبيين التصور السليم لكلمة المسلم، وأعاد إحياء معانيها، ونفى عنها الخبث الذي التصق بها، وبدد ظلمات الغفلة التي حجبتها عن أداء دورها، وأهم من كل هذا أنه ربح نفسية المستمع، وجعله قابلا للتغيير من الداخل.
وهذه المهارة يفتقدها الكثير من الخطباء، فبعضهم يسرد الآيات والأحاديث بعشوائية، ولا يحسن ترتيبها في سرده للخطبة، وهذا راجع أساسا إلى ضعف التحضير، والذي يورث ضعف ملكة التصورات، ومن لا يملك ملكة صناعة التصورات، فإنه يكون أعجز من عجوز في جريه وراء لص سرق مالها.
وعليه فإن التركيز على التصورات إحياءً وتذكيرا، وتصفية وترسيخا، ضرورة خطابية –محلها المقدمة- لا يتقنها إلا فحول الخطباء، ممن يملكون ناصية التحضير، ويعرفون خطورته، وأثره على خطبهم سلبا وإيجابا. وما دمنا قد تحدثنا عن أهمية امتلاك الخطيب لملكة بناء التصورات في مقدمات الخطبة، فإنه يحسن بنا أن نذكر أن الواقع الحالي للخطابة يظهر ضعف اهتمام الخطيب –الغالبية- بنوعية المقدمة وأهدافها، وهذا ما يجب تلافيه مستقبلا ممن يملك ضميرا، ويرى الخطابة رسالة لا وظيفة.
ولأن الخالق -تبارك وتعالى- أعلم بما يناسب الإنسان، وبما يؤثر فيه، فإنه يعلمنا أن مخاطبة الإنسان عن المواضيع الخطيرة بأسلوب مباشر يؤثر فيه بصورة قوية، ويزعزع سكونه، ويهز وجدانه، خاصة إذا كان لهذا الموضوع تأثير على مصيره في الدنيا والآخرة.
2/بعد أن ركز الخطيب في المقدمة على بناء وإحياء التصورات الصحيحة المرتبطة بكلمة مسلمة، فإنه مطالب بالتركيز على بعد ذلك على السلوكيات التي يراها الخطيب والمجتمع مناقضة لهذا التصور، ويطيل في ذلك. 
وهناك يكون قد نبّه المصلين إلى وجود تناقض بين الإسلام الذي يدينون به وبين سلوكياتهم، وأن إسلامهم ضعيف، بدليل أنهم لم يحققوا الأهداف والغايات التي جاء من أجل صيانتها ومن بينها أعراض المسلمين والمسلمات.
3/وبعد هذه المقدمات الطويلة، يركز في العرض على أثار الاستهانة بالأعراض بشكل موجز، ثم يختم خطبته بذكر العلاج بشكل موجز، وسبب الإيجاز هنا هو أن الخطيب يكون قد ركز في المقدمة على الفكر والتصور، ولو نجح في ترسيخ التصور الصحيح فإن التغيير سيحصل في سلوكيات المصلين بشكل عفوي، ويصبح الحديث عن الحلول نوعا من مساعدته على سلوك الطريق المستقيم الصحيح.
في الأخير يجب أن يتذكر الخطيب أن الخطبة فن لا يتقنه جميع الخطباء، وليس كل من ارتقى منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسلم له امتلاكه مهارة الخطابة، وأن السعي إلى إتقان الخطابة فرض شرعي، يؤثم من يخل به؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن مقدمات التبليغ التمكن من أساليبه وفنونه؛ ولأن الخطابة شأن عام لا شأن شخصي، وأن الخطيب سفير ومتحدث باسم الإسلام عادة.
ومن بين المسائل التي يطلب من الخطيب إتقانها مسألة التحكم في المقدمات، وأن يعرف الخطيب ماذا يريد في خطبته، وهل يركز على التصور أم السلوك، أو الأثار، أو العلاج، فإن كان يريد التركيز على سلوم معين، وجب عليه أن يقدم للموضوع بالحديث عن التصورات الصحيحة التي يجب أن يرسخها في ذهن المستمع وفي روحه ووجدانه، فالخطيب الذي لا يعلم أن السلوك نتيجة لاختلال التصورات لا يمكنه أن ينفع من يجلسون بين يديه.
كما نعيد التنبيه في الأخير إلى أهمية عقد مؤتمرات محلية وعالمية تتناول الأساليب القرآنية في تناول المواضيع الحياتية، والتركيز على التكوين، فلا يعقل أن نترك الخطابة دون زمام أو قياد يأخذ بيدها إلى الإتقان والفعالية، ولا يمكن أن نضيع فرصة استماع مليار ونصف مليار مسلم في أقطار الأرض إلى خطبة الجمعة التي هي أحد وسائل ثبات المسلمين عبر التاريخ.
ولعل أهم موضوع يجب أن تركز عليه المؤتمرات والندوات قضية مهارة الاستهلال أو التحكم في المقدمات، التي يعني التحكم فيها سهولة نفاذ الخطيب إلى الوعي الباطن للمستمع وتحريك مشاعره وترتيب تصوراته. ولو نجح العالم الإسلامي في تكوين هذا النوع من الخطباء فإن تغييرا هائلا سيمس واقع المسلمين بإذن الله.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.