ربانية المساجد والساجد

المساجد بيوت الله، تحن إليها قلوب المؤمنين؛ حيث تتحين لقاء الله، لترتوي القلوب حبًّا وإجلالاً وتعظيمًا، فيثمر لقاء العبد مع ربه التقوى والإيمان؛ حيث الذكر والتسبيح وقراءة القرآن، ولا تؤدي المساجد هذا الدور إلا إذا كانت مهيأة تهيئة ربانية، بناؤها خالص لله ليس لغرض دنيوي ولا لإحداث ضرر بمسجد آخر أو لعباد الله.

 قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) أي: أن المساجد لعبادة الله وحده، فلا تعبدوا فيها غيره، وأخلصوا له الدعاء والعبادة فيها؛ فإن المساجد لم تُبْنَ إلا ليُعبَدَ اللهُ وحده فيها، دون من سواه، وفي هذا وجوب تنزيه المساجد من كل ما يشوب الإخلاص لله، ومتابعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. (التفسير الميسر مجموعة من العلماء 10/ 287).

فالمساجد الربانية بناؤها لله ورُفعت ليُذكر فيها اسم الله كثيرًا، ويعمرها الرجال الذين لا تلهييهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ونقل نور المسجد للحياة ليحيى الكون بربانية المسجد {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور:36 -38).

وقال سبحانه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التوبة:108).

وقيل: كل مسجد بُني مباهاةً أو لغرض ليس به إخلاص أو بمال مشتبه فهو لاحق بمسجد الضرار. [انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي4/16].

ولن يعمر الكون عمارة حقيقية في جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية إلا الذين تلقوا النور من نور السموات والأرض وهو الله؛ لذا استحال على الكافرين والمشركين تعمير الكون؛ لأنهم حرموا أنفسهم من تلقي الإيمان في بيت الرحمن، وتلقوا وحي الشيطان، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (التوبة:17).

ربانية الساجد:

إن الاتصاف بالربانية ليس من نافلة القول، بل جاء به الأمر الإلهي، قال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران:79).

وقوله تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: فقهاء علماء، وهو قول مجاهد.

والثاني: حكماء أتقياء، وهو قول سعيد بن جبير.

والثالث: أنهم الولاة الذين يربّون أمور الناس، وهذا قول ابن زيد.

وفي أصل الرباني قولان:

أحدها: أنه الذي يربُّ أمور الناس بتدبيره، وهو قول الشاعر:

وكنت امرأً أفضت إليك ربابتي ... وقبلك ربتني - فضعت - ربوبُ

فسُمي العالم ربّانيًّا لأنه بالعلم يدبر الأمور.

والثاني: أنه مضاف إلى عالم الرب، وهو علم الدين، فقيل لصاحب العلم الذي أمر به الرب ربّاني. (النكت والعيون 1/241).

وقيل أيضًا: {كونوا ربانيين} أي: علماء بالله، فقهاء في دينه، حلماء على الناس، تُربون الناس بالعلم والعمل والهمة والحال. (تفسير ابن عجيبة(1/298).

والدعوة إلى الربانية تنطلق من ربانية الشريعة الإسلامية، تلك الشريعة التي تشتمل على العقيدة، والعبادة، والأخلاق والمعاملات، وهذا يدفع كل المسلم أن يكون رباني العقيدة، تنبع عقيدته من مشرب الكتاب والسنة، ورباني العبادة يتقرب إلى ربه بما افترضه الله عليه وبالنوافل حتى تتجاوب جوارحه مع تلك الربانية، كما جاء في الحديث القدسي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"(أخرجه البخاري).

ويكون رباني الأخلاق والسلوك والمعاملات، فأصل البعثة المحمدية التركيز على الأخلاق والمعاملات، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق" (أخرجه أحمد 2/381، رقم 8939)، وابن سعد 1/192 قال الشيخ الألباني: (صحيح)، انظر حديث رقم : 2349 في صحيح الجامع).

ربانية العقيدة:

إن محور ربانية العقيدة القلب، وتوحد القلب حول غاية وهدف يجعل صاحبه سلمًا لمعبوده ومألوهه، وتشتت القلب حول المعبودات الحسية  كعبادة الأصنام والأماكن والأشخاص.. والمعنوية كحب المال والسلطان وغيرهما أشد من حب الله؛ كل ذلك يجعل القلب مشتتًا، يحتاج إلى من يلمّ شتته، ويجمع عليه شمله، ولم ولن يجد الإنسان ذلك إلا بالتوجه قلبًا وقالبًا إلى معبود واحد، يقول ابن القيم: "فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، وعبادته وحده فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خلق الخلق ولأجله خُلقت الجنة والنار، وله أُرسلت الرسل، ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاءً وكفى بفوته حسرة وعقوبة. (إغاثة اللهفان1/71).

وربانية العقيدة تحتّم وتوجب على العبد أن يكون ربانيًّا في غايته ومقصده؛ تحقيقًا لقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين}، وهذه الربانية في القصد تؤمِّن النفس البشرية من التمزق والصراع الداخلي والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات وشتى الاتجاهات، فرباني العقيدة أقبل على طاعة الله مخلصًا له العبادة لا يلتفت إلى غيره من سائر خلقه وهو عين الاستمساك بالعروة الوثقى، قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (لقمان:22).

ولا يريح النفسَ شيءٌ مثل وحدة الغاية والوجهة في الحياة، فتعرف من أين تبدأ وإلى أين تسير ومع من تسير، ولا يُشقي الإنسانَ شيءٌ مثل تناقض غاياته وتباين اتجاهاته وتضارب نزاعاته، قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج:30)، وقال سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(الزمر:29).

وربانية المقصد والغاية لا تكفي وحدها بل لا بد أن يُضاف إليها ربانية الاتباع والمنهج، وربانية المنهج تقوم على قواعد أساسية، وهي:

الاستمساك بالكتاب والسنة قولاً وعملاً وتطبيقًا، والاحتجاج بما أجمعت عليه الأمة وخصوصًا إجماع الصحابة، واحترام أئمة الإسلام وعلى رأسهم التابعون وأئمة المذاهب المعتبرة، فكل عمل أجهد العبد فيه نفسه ولم يتبع النبي – صلى الله عليه وسلم- فلن يُقبل منه؛ لأن الله قال: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} أي: خلقكم وخلق كل شيء لأجلكم، ليختبركم أيكم أطوع له وأحسن عملاً أي: بإخلاصه لله تعالى وحده، وبفعله على نحو ما شرعه الله وبيّنه رسوله. (أيسر التفاسير أبو بكر الجزائري 2/ 158).

ربانية العبادة:

العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبرّ الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله. وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خَلق الخلق لها كما قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، وبها أرسل جميع الرسل..) (العبودية، لابن تيمية 1/44).

فالعبد الرباني أقواله وأفعاله الظاهرة والباطنة لله، وتترجم هذه الأقوال والأفعال في أداء ما فرضه الله من أركان الإسلام، ويمتثل الأخلاق الإسلامية، ويسعى ليل نهار في أداء الرسالة التي خُلق من أجلها، وهي: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام:161-163).

ربانية الأخلاق والمعاملات:

تُعد الأخلاق الربانية ركنًا أساسيًّا من أركان الدين لا يقوم إلا به، فقد سئل -صلى الله عليه وسلم- ما الدين؟ قال: "حُسن الخُلق" (أخرجه مسلم).

 وما يميز الأخلاق الربانية عن غيرها أن مصدرها "الوحي" فهي قيم ثابتة ومُثُل عليا تصلح لكل إنسان بصرف النظر عن جنسه وزمانه ومكانه ونوعه، وأنها أخلاق عملية هدفها التطبيق الواقعي، وأن مصدر الإلزام فيها هو شعور الإنسان بمراقبة الله تعالى، ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سُئل عن أكثر ما يُدخِل الناسَ الجنة قال: "تقوى الله وحُسن الخُلق" (أخرجه الترمذي 4/363  برقم 2005، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/194).

والأخلاق الربانية تشمل الحقوق الإلهية أي: ما يجب علينا من الإيمان بالله وطاعة أوامره، وحقوق شخصية تتمثل بحقوق التملك والتصرف ضمن حدود الأخلاق، وحقوق جماعية تتمثل بحقوق التعاون والدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ... (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. د. صيدلي/ جمال محمد الزكي 1/2).

والأخلاق الربانية هدفها إباحة كل وسائل الفضيلة والمعروف، وتحريم كل ذرائع الفساد والشر، والمسلم المتربي على العقيدة الربانية أخلاقه ثابتة معه في ليله ونهاره، في سره وعلانيته، في سرائه وضرائه.

وعمومًا الربانيون لا تلهيهم تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة، مشغولون بالتجارة الحقيقية الباقية التي لن تبور، قال تعالى: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية يرجون تجارة لن تبور" (فاطر:29).

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.