تذكير الساجد بجملة من أحكام المساجد

مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فإنه من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

وبعد...

فقد وضع الله تعالى أول بيت من بيوته في الأرض وأشرفها وهو المسجد الحرام؛ ليقام فيه دينه، كما قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين)، وكما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو ذر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام ، قلت: ثم أيٌّ؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً" [رواه مسلم]، فأما المسجد الأقصى فقد بناه يعقوب عليه السلام على أحد روايات التاريخ بأمر من الله عز وجل ليُستعلن له فيه ـ أي: يجهر له فيه بالعبادة ـ حين استقر به المقام في (القدس)، وجدده بعد ذلك داود عليه السلام وكمله سليمان عليه السلام [البداية والنهاية 1/196، وفتح الباري 2/408، إعلام الساجد للزركشي 30]، وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن سليمان عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل اللهَ خلالاً ثلاثة: سأل الله عز وجل حُكماً يصادف حكمه فأُوتيه، وسأل الله عز وجل مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده فأًوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألاّ يأتيه أحد لا ينهزه إلاّ الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه". واختلف الناس فيمن بنى البيت الحرام أولاً: فقيل بنته الملائكة لما روى جعفر بن محمد قال: سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال: إن الله عز وجل لما قال (إني جاعل في الأرض خليفة) قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)؛ فغضب عليهم فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم، وقال لهم: ابنوا لي بيتاً في الأرض يتعوّذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي؛ فأرضى عنه كما رضيت عنكم فبنوْا هذا البيت. وقيل بناه آدم عليه السلام كما ذُكر عن ابن جريج وابن المسيب وغيرهما أن الله أوحى إلى آدم: إذا هبطت ابن لي بيتاً ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء [تفسير القرطبي 2/120 – 121].

 

الباب الأول

فضل المساجد

 

مكانة المسجد في الإسلام

إن مكانة المسجد في الإسلام لتظهر بجلاء في كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستقر به المقام عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في قباء، حتى بدأ ببناء مسجد قباء، وهو أول مسجد بُني في المدينة، وأول مسجد بني لعموم الناس كما قال ابن كثير رحمه الله [البداية والنهاية 3/209].

وكذلك عندما واصل صلى الله عليه وسلم سيره إلى قلب المدينة كان أول ما قام به تخصيص أرض لبناء مسجده صلى الله عليه وسلم . ولقد وعى هذا الأمر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاهتموا بذلك، واعتنى الخلفاء الراشدون بها فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ولاته أن يبنوا مسجداً جامعاً في مقر الإمارة، ويأمروا القبائل والقرى ببناء مساجد جماعة في أماكنهم. عن عثمان بن عطاء قال لما فتح عمر بن الخطاب البلد كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجداً فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة فشهدوا الجمعة [كنز العمال 8/313-314].

وكان المسجد في أول الإسلام مكان الطاعات كلها، كما صح أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك للرجل الذي بال في المسجد: "إنما هي لذكر الله والصلاة"، وفي رواية: "إنما بنيت لذكر الله والصلاة"، [رواه البخاري]، وإن هذا الحصر يدل على أنه لا يجوز غير الصلاة والذكر في المسجد إلا بدليل، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنزل وفد ثقيف في مسجده قبل إسلامهم، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد الحبشة في مسجده، ولعبوا فيه بحرابهم وهو ينظر إليهم، وفي كلا الفعلين مصلحة ظاهرة عائدة إلى الإسلام [السيل الجرار 1/180].

وكانت أغلب مشورته صلى الله عليه وسلم ـ وكذا خلفاؤه من بعده ـ تقع في المسجد لأنه مقر اجتماعاتهم، وكثير من الحوادث التي شاور فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أو شاور فيها خلفاؤه من بعده لا يذكر فيها مكان للشورى ولكنها في الغالب ما كانت تقع إلا في المسجد، قال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوى، ففيه الصلاة والقراءة والذكر وتعليم العلم والخطب، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، وكذلك عماله في مثل مكة والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى، وكذلك عماله على البوادي فإن لهم مجتمعاً فيه يصلون وفيه يسايسون، وكان الخلفاء والأمراء يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم، ولكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع" [الفتاوى الكبرى 35/39-40].

فضل بناء المساجد

لبناء المساجد فضل عظيم؛ لما رُوي عن عثمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة) [متفق عليه]. قال الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ: "يدل على أن الأجر المذكور يحصل ببناء المسجد لا بجعل الأرض مسجداً من غير بناء، وأنه لا يكفي في ذلك تحويطه من غير حصول مسمى البناء، والتنكير في مسجد للشيوع؛ فيدخل فيه الكبير والصغير" [نيل الأوطار 2/156].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً في سفر أو حرب وبقي فيه مدة اتخذ فيه مسجداً يصلي فيه بأصحابه رضي الله عنهم، كما فعل في خيبر، [وفاء الوفا بأخبار المصطفى للسمهودي 3/1028].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمِفْحَص قطاة لبيضها بنى الله له بيتاً في الجنة) [رواه الإمام أحمد].

والأصل الاقتصار على الواحد إن وسع الناس، ولا يشرع بناء آخر إلا لضيق الأول ونحوه، قال القرطبي رحمه الله تعالى: "قال علماؤنا: لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيُبنى حينئذ، وكذلك قالوا: لا ينبغي في المصر الواحد جامعان أو ثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تُجْزِه، وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه" [تفسير القرطبي 8/254].

 

الباب الثاني

وجوب أداء الصلوات الخمس مع الجماعة

 

الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبة

قال تعالى آمراً عباده بالمحافظة على صلاتهم : (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين).وقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم)، وقال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله" [متفق عليه].

بل جعل الإسلام الصلاة مما يُعصم به دم المسلم مع الشهادة والزكاة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" [متفق عليه].

وعدّها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يتسبب في دخول العبد الجنة إذا وافى بها تامة كاملة فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل من عند الله تبارك وتعالى فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: إني فرضت على أمتك خمس صلوات، فمن وافى بهن على وضوئهن ومواقيتهن وركوعهن وسجودهن؛ كان له عندي بهن عهد أن أدخله بهن الجنة، ومن لقيني قد انتقص من ذلك شيئاً؛ فليس له عندي عهد، إن شئت عذبته، وإن شئت رحمته" [رواه الطبراني بإسناد صحيح وصححه الألباني].

أدلة وجوب صلاة الجماعة من الكتاب العزيز

تضافرت أقوال أهل العلم قديماً وحديثاً على وجوب صلاة الجماعة في المساجد، دل على هذا الآيات، والأحاديث، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فأما آيات الكتاب الحكيم فقوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم...) الآية. ودليلها كما قال العلماء أنها - أي الجماعة - لم تسقط عنهم حال الحرب والخوف فكيف بحال الأمن والسلامة [انظر آداب المشي إلى الصلاة لشيخ الإسلام محمد بن سليمان التميمي 98].

وقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين). قال القرطبي: "(مع الراكعين) تقتضي المعية والجمعية، ولهذا قال جماعة من أهل التأويل بالقرآن: إن الأمر بالصلاة أولاً لم يقتض شهود الجماعة فأمرهم ـ بقوله (مع الراكعين) ـ بشهود الجماعة" [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج1 ص 56]].

وجوب المحافظة على الصلاة وأدائها في الجماعة من السنة

اعلم أخي المسلم أن التهاون في الصلاة مع الجماعة في المساجد في أوقاتها معصية عظيمة، وكبيرة من الكبائر، ووسيلة إلى التهاون بها وتركها بالكلية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة؛ فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" وفي رواية: "لولا ما فيها من النساء والذرية لأحرقتها عليهم" [متفق عليه].

وروى مسلم أن رجلاً أعمى قال: "يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد"؛ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له في أن يصلي في بيته، فرخّص له، فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداء قال نعم قال فأجب"، فكون الأعمى لا رخصة له في ترك الجماعة فكيف يرخص للبصير؟ قال الخطابي ـ رحمه الله ـ: "وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب، ولو كان ندباً لكان أولى من يسعه التخلف أهل الضرورة والضعف، ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم، وكان عطاء ابن أبي رباح ـ رحمه الله ـ يقول:" ليس لأحد من خلق الله في الحضر وبالقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة" [كتاب الصلاة للشيخ: عبد الملك علي الكليب 222].

وعن أن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر" [رواه أبو داود والدارقطني وصححه النووي والألباني].

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" [رواه أبو داود وأحمد وهو صحيح].

ذكر الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في وجوب صلاة الجماعة وعقوبة المتخلف عنها:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ما بال قوم يتخلفون عن الصلاة؛ فيتخلف لتخلفهم آخرون لأن يحضروا الصلاة أو لأبعثن عليهم من يجافي رقابهم" وقد كتب رضي الله عنه إلى الأمراء في الأمصار: "إنّ أهم أمركم عندي: الصلاة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ومن المحافظة عليها أداؤها جماعة في المساجد".

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته؛ لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم؛ لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق" [رواه مسلم].

يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "لأن تمتلئ أذنا ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يسمع حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح ثم لم يجب". وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "من سمع المنادي بالصلاة ثم لم يجب لم يرِد خيراً ولم يُرَد به، إلا من عذر". وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: "من سمع المنادي بالصلاة فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له".

وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: "من سمع المنادي بالصلاة فلم يأته؛ لم تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر". وقال علي رضي الله عنه: "من سمع النداء من جيران المسجد فلم يجب وهو صحيح من غير عذر فلا صلاة له" [آداب المشي إلى الصلاة لشيخ الإسلام محمد بن سليمان التميمي 134-135]].

ذكر الآثار الواردة عن التابعين ومن بعدهم

في وجوب صلاة الجماعة في المساجد

قال عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل وأبو ثور رحمهم الله: "إن حضور الجماعة في المسجد فرض". وقال الشافعي رحمه الله: "لا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها في المسجد".

وقال الخطابي: "حضور الجماعة في المساجد واجب لأنه لو كان مسنوناً لكان أولى بالتخلف والرخصة ابن أم مكتوم وأمثاله من الضعفة".

وقال الأوزاعي رحمه الله: "لا طاعة للوالد في ترك الجمع والجماعات". وقال ابن حزم رحمه الله: "لا ذنب بعد الشرك أعظم من تأخير الصلاة عن وقتها وقتل المؤمن بغير حق" [تحذير الأمة عن التهاون بصلاة الجماعة والجمعة للشيخ: عبد العزيز بن عبد الرحمن الشثري 150].

بعض أقوال أهل العلم في وجوب صلاة الجماعة:

قال البغوي في [شرح السنة 3/349]: "ذهب غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له". قال عطاء بن أبي رباح: "ليس لأحد من خلق الله في الحضر والقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة"، قال الحسن البصري رحمه الله: "إن منعته أمه عن العشاء في جماعة شفقة لم يطعها". قال الأوزاعي: "لا طاعة للوالد في ترك الجمعة والجماعات سمع النداء أو لم يسمع" [كتاب الصلاة للشيخ: عبد الملك علي الكليب ص 222].

قال الشاعر :

لابـدّ مـن صـــنع الـرجــــــال

ومثلـــه صــنع الســــلاحْ

وصنــاعــــة الأبطـــال عــلم

قــد دراه أولــو الصـــــلاحْ

مـــن لــم يـلـقّــن أصـــــــله

مـن أهلــه فقـد النجـــاحْ

لا يصـــــنــع الأبطــــــــال إلاّ

في مســاجدنا الفِســاحْ

في روضــــــة القـــــرآن في

ظـل الأحــاديث الصحــاحْ

شــــــعـب بـغـيـــر عـقـيـدة

ورقٌ تـذرّيـــــه الـريــــــاحْ

من خان (حيّ على الصلاة(

يخون (حيّ على الكفاحْ(

فوائد صلاة الجماعة:

شرع الله سبحانه وتعالى صلاة الجماعة لحكم عظيمة وفوائد جسيمة منها ـ والله أعلم ـ ما يلي:

1- اختبار العباد وامتحانهم: ليعلم الله من يمتثل أوامره ممن يعرض عنها ويستكبر.

2- التعارف والتآلف: والترابط بين المسلمين، ليكونوا كالجسد الواحد وكالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، والذي لا يصلي في المسجد لا يعرفه أهل الحي إلاّ من كان بينه وبين أحدهم مصلحة دنيوية.

3- تعليم الجاهل وتذكير الغافل: فالجاهل يرى العالم فيقتدي به والغافل يسمع الموعظة فينتفع بها.

4- ما يشعر بع المصلي في الجماعة من الخشوع، والتدبر والانتفاع بالصلاة، بخلاف من يصلي في بيته فإنه قد لا يشعر بشيئ من ذلك، بل إنّ الصلاة تثقل عليه في الغالب؛ فينقرها نقر الديك فلا ينتفع منها بشيء.

5- إغاظة أعداء الله وإرهابهم وعلى رأسهم إبليس لعنه الله ـ وجنوده ـ من شياطين الإنس والجنّ، الذين يؤرقهم أن يعود المسلمون إلى المساجد خاصة الشباب.

6- ما في الخروج للمساجد من النشاط والحركة ورياضة البدن بكثرة المشي ذهاباً وإياباً، لا سيما إن كان المسجد بعيداً، بخلاف الصلاة في البيت وما يصاحبها في الغالب من الكسل والخمول وهذا أمر مجرب.

صلاة أهل الأعذار

يجب أن يصلي المريض قائماً في الصلاة المفروضة؛ لحديث عمران رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صلّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب" [رواه ا لبخاري]، وزاد النسائي " فإن لم تستطع فمستلقياً"، ويومئ لركوعه وسجوده برأسه ما أمكنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" [رواه مسلم وأحمد].

وتصح صلاة الفرض على راحلة واقفة أو سائرة خشية تأذٍ بوحل ومطر؛ لحديث يعلى بن أمية الذي رواه الترمذي وقال: العمل عليه عند أهل العلم.

والمسافر يقصر الرباعية خاصةً، وإن ائتمّ المسافر بإمام غير مسافر يلزمه الإتمام فإنه يتمُّ صلاته مؤتماً به، ويجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت أحدهما للمسافر، وترك الجمع أفضل غير جمعي عرفة ومزدلفة؛ كما رجحه الحنابلة [آداب المشي إلى الصلاة للإمام محمد بن سليمان التميمي رحمه الله].

الترغيب في الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي

والمسجد الأقصى ومسجد قباء

وردت الآثار الصحيحة في بيان فضل الصلاة في المسجد الحرام الذي هو أول بيت وضع للناس للعبادة، وكذلك الصلاة في المسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى ـ فكّ الله أسره من يد أحفاد القردة والخنازير وردّه لأهله آمين ـ وكذا الصلاة في مسجد قباء، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" [رواه أحمد وابن ماجة، وصححه الألباني]، وهذا نص واضح في فضل الصلاة فيهما.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الأقصى" [رواه أحمد وقال المنذري: رواته رواة الصحيح].

وعن أسيد بن حضير الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة في مسجد قباء كعمرة" [رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والبيهقي والحاكم وصححه الألباني].

ترغيب الإمام في تخفيف الصلاة وبيان قدر هذا التخفيف

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" [رواه الجماعة إلا ابن ماجة].

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وجدِ أمه من بكائه" [رواه الجماعة إلا أبا داود].

قال الشوكاني: "وأحاديث الباب تدل على مشروعية التخفيف للأئمة وترك التطويل؛ للعلل المذكورة من الضعف والسقم والكبر والحاجة واشتغال خاطر أم الصبي ببكائه، ويلحق بها ما كان في معناها" [نيل الأوطار 3/137].

وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "صلِّ بـ(الشمس وضحاها) ونحوها من السور" [رواه أحمد وصححه الألباني].

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: "والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا"، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضباً منه يومئذ ثم قال: "إن منكم منفرين، فأيكم صلى بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة" [رواه البخاري].

وعن إبراهيم بن يزيد التيمي قال: "كان أبي قد ترك الصلاة معنا فقلت له: يا أبة مالك تركت الصلاة معنا؟ قال: إنكم تخففون، قلت: فأين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن فيكم الضعيف والكبير وذا الحاجة"؟، فقال: قد سمعت ابن مسعود يقول ذلك وكان يمكث في الركوع والسجود ثلاثة أضعاف ما تصلون" [رواه الطبراني في الكبير والأوسط ووثق رجاله الهيثمي].

قال أبو عمر ابن عبد البر: "التخفيف لكل إمام أمر مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه، إلا أن ذلك إنما هو أقل الكمال. وأما الحذف والنقصان فلا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن نقر الغراب، ورأى رجلاً يصلي فلم يتم ركوعه فقال: "ارجع فصلِّ فإنك لم تصل" وقال: "لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده"، ثم قال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافاً بين أهل العلم في استحباب التخفيف لكل من أمّ قوماً على ما شرطنا من التمام" [نيل الأوطار 3/137].

الترغيب في المشي إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة

قال تعالى: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين) وقال تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم والآخر).

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين درجة؛ ذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة" [متفق عليه].

وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح" [متفق عليه].

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:" صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فرجع من رجع وعقّب من عقّب ـ الجلوس بعدها لدعاء أو ذكر ـ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً قد حفزه النفس ـ أي: أتعبه من شدة سعيه ـ قد حسر عن ركبتيه، قال: "أبشروا هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى" [رواه ابن ماجة وقال المنذري: رجاله ثقات، وصححه الألباني].

وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بشر المشّائين في الظُلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" [رواه أبو داود وصححه الألباني].

وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة كلهم ضامن على الله إن عاش رُزق وكُفي، وإن مات أدخله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله، ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله، ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله" [رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها" [رواه مسلم].

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تطهر الرجل ثمّ مرّ إلى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقائد يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه" [رواه أحمد و أبن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الألباني].

وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ونحن في الصُّفة فقال: "أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق ـ موضعان بالمدينة ـ فيأتي كل يوم بناقتين كوماوين ـ أي: عظيمتي السنام ـ زهراوين ـ أي بيضاوين حسنتين ـ فيأخذهما في غير إثم ولا قطع رحم؟ قلنا : كلنا يا رسول الله يحب ذلك، قال: فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل" [ مسلم وأحمد واللفظ له].

الدعاء عند التوجه إلى المساجد

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة وهو يقول: "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وخلفي نوراً، وفي عصبي نوراً، وفي لحمي نوراً، وفي دمي نوراً، وفي شعري نوراً، وفي بَشَري نوراً"، وفي رواية لمسلم: "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم أعظم لي نوراً".

ويسنُّ لمن أراد دخول المسجد أن يدخل برجله اليمنى ويقول: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" [رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم]. أو يقول: "بسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك" [رواه أحمد وابن ماجة].

وإذا أراد الخروج خرج برجله اليسرى ويقول: "بسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم اغفر ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك" [رواه أحمد وابن ماجة].

السعي إلى المسجد بالسكينة

عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع جلبة رجال فلما صلى قال: "ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" [متفق عليه].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" [رواه الجماعة إلا الترمذي].

قال الشوكاني -رحمه الله- : "والحديثان يدلان على مشروعية المشي إلى الصلاة على سكينة ووقار، وكراهية الإسراع والسعي، والحكمة في ذلك ما نبّه عليه صلى الله عليه وسلم كما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة"، أي أنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتنابه ما ينبغي للمصلي اجتنابه "[نيل الأوطار 3/135].

والحكمة في التقييد بسماع الإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصِل إليها وقد انبهر، وأسرعت أنفاسه، فيقرأ وهو في تلك الحالة؛ فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره، بخلاف من جاء قبل ذلك، فإن الصلاة قد لا تقام فيه حتى يستريح، إلا أنه يسنّ له أيضاً عدم الإسراع لعموم النهي في قوله صلى الله عليه وسلم : "إذا أتيتم الصلاة"، لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيد الحديث بالإقامة لأنه الحامل في الغالب على الإسراع، والإسراع في المسير أو السعي الشديد لإدراك الصلاة في المسجد أو لإدراك الركوع يفوت السكينة واحترام الصلاة ويشوش على المصلين [فتح الباري 2/ 117، والقول المبين في أخطاء المصلين 185].

الترغيب في الأذان والإقامة والدعاء بينهما

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير ـ التبكير إلى الصلاة ـ لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة ـ العشاء ـ والصبح لأتوهما ولو حبواً" [متفق عليه].

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعوة بين الأذان والإقامة لا تردّ فادعوا" [رواه ابن خزيمة وصححه الألباني]. وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نودي بالصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء" [رواه الطيالسي وأبو يعلى، وصححه الألباني].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن؛ اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين". قالوا: يا رسول الله لقد تركتنا نتنافس الأذان بعدك. فقال: "إنه يكون بعدي ـ أو بعدكم ـ قومٌ سفلتهم مؤذنوهم" [رواه البزار والهيثمي، ورجاله كلهم موثوقون، وصححه الألباني].

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن؛ فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" [رواه مسلم].

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً غُفر له ذنبه" [رواه مسلم].

ومما يجدر التنبيه عليه الخطأ الشائع عند كثير من المسلمين من تقبيل الإبهامين ومسح العينين بهما عند قول المؤذن "أشهد أنّ محمداً رسول الله" واعتمادهم في ذلك على حديث أورده أبو العباس بن أبي بكر اليماني في كتابه: [موجبات الرحمة وعزائم المغفرة] بسند فيه مجاهيل مع انقطاعه عن الخضر ـ عليه السلام ـ أنه قال: "من قال ـ حين يسمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله ـ : مرحباً بحبيبي وقرّة عيني محمد بن عبد الله صلى الله عليه سلم ثم يقبّل إبهاميه ويجعلهما على عينيه لم يرمد أبداً. قال السخاوي ـ رحمه الله ـ بعد أن أورد هذا الحديث وآخر نحوه: ولا يصح في المرفوع من كل هذا شيء [المقاصد الحسنة ص384، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع رقم300، والسلسلة الضعيفة رقم 73].

وعن عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري عن أبيه أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: "أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة"، قال أبو سعيد رضي الله عنه : "سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" [رواه البخاري].

وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أذن اثنتى عشرة سنة وجبت له الجنه وكتب له بتأذينه في كل مرة ستون حسنة وبإقامته ثلاثون حسنة" [رواه ابن ماجة والحاكم وصححه الألباني].

كراهة الخروج من المسجد بعد الآذان إلا لعذر حتى يصلي

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم في المسجد فنودي للصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي" [رواه أحمد].

وعن أبي الشعثاء قال: خرج رجل من المسجد بعد ما أذن فيه فقال أبو هريرة: "أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" [رواه الجماعة والبخاري]، قال النووي معلقاً على هذا الحديث: "فيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي فيه المكتوبة إلاّ لعذر والله أعلم" [شرح النووي على صحيح مسلم 5/157-158].

عن سعيد بن المسيب قال: يقال:"لا يخرج من المسجد بعد النداء إلاّ أحد يريد الرجوع إليه أو منافق" [أخرجه مالك في الموطأ1/162]، ومثل هذا الكلام لا يقال من جهة الرأي وقد صح أن أبا هريرة رضي الله عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع النداء في المسجد ثم يخرج منه إلاّ لحاجة ثم لا يرجع إليه إلاّ منافق" [الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح كذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/5]، وهذا الخروج المكروه لمن ليس له عذر، كمن كان جنباً أو محدثاً أو حاقناً أو راعفاً، ومن يكون إماماً لمسجد آخر، وإلاّ لم يكره، ودليل ذلك ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف قال :"على مكانكم فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه ماء وقد اغتسل" [البخاري في الصحيح].

قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ : "وإذا أذن في الوقت كُره له أن يخرج من المسجد إلاّ أن يكون لحاجة ثم يعود" [المغني2/ 91].

الترغيب في ذكر الموت في الصلاة والخشوع

لا شك أن ذكر الموت من أعظم أسباب زهد العبد في الدنيا الفانية، وإقباله على ربه وعلى الآخرة، لذلك يستحب للمصلي استحضار ذكر الموت في صلاته؛ حتى يقبل بقلبه على ربه، ويخشع في صلاته (قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون)، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اذكر الموت في صلاتك؛ فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجل لا يظنّ أنه يصلي صلاة غيرها وإياك وكل أمر يعتذر منه" [رواه الديلمي في مسند الفردوس، وحسنه الحافظ ابن حجر، وتابعه الألباني].

وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عظني وأوجز فقال: "إذا قمت في صلاتك فصلّ صلاة مودع ولا تكلم بكلام تعتذر منه، وأجمع الإياس مما في أيدي الناس" [رواه أحمد وحسنه الألباني].

 

الباب الثالث

بعض أحكام المساجد

 

وبعد بيان حكم صلاة الجماعة ندلف بإذن الله إلى بعض الآداب المتعلقة بالمساجد محاولين استقصاء ما يباح في المساجد محاولين استقصاء ما يندب في المساجد، ثم نتبعه بما يكره فيها بشيء من الإيجاز :

أولًا: ما يستحب ويندب في المساجد:

ونتطرق أولاً إلى ما يباح في المساجد وما يندب في حقها؛ صيانة لها مما لا يليق، لأنها شعار الإسلام ومقر المؤمنين، وهي آداب كثيرة نحاول رغم تقصيرنا التحدث عنها بإيجاز:

إنارة المساجد:

وذلك من رفعها المأمور به بنص القرآن، ويدل لذلك ما صح عن أبي هند رضي الله عنه قال: "حمل تميم الداري من الشام إلى المدينة قناديل وزيتاً ومقطاً، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة، فأمر غلاماً له يقال له أبو البزاد فقام فنشط المقط ـ أي ربطها ـ وعلق القناديل، وصب فيها الماء والزيت، وجعل فيها فتيلاً، فلما غربت الشمس أمر أبا البزاد فأسرجها وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا هو بها تزهر فقال: من فعل هذا؟ قالوا: تميم الداري يا رسول الله، فقال: نورت الإسلام نور الله عليك في الدنيا والآخرة أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها، قال نوفل بن الحارث: لي ابنة يا رسول الله تسمى المغيرة بنت نوفل فأفعل بها ما أردت، فأنكحه إياها"، وهذا يدل على عظم ما قام به هذا الصحابي الجليل، وأنّ إنارتها أمر محمود، وسنة مرضية، لإقراره صلى الله عليه وسلم، بل لم يكتف صلى الله عليه وسلم بالسكوت عن هذا الفعل إقراراً له، بل مدحه وأثنى عليه.

وروى ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "أول من أسرج المساجد تميم الداري"، قال العلماء: "ويستحب أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق القناديل، ونصب الشموع ويزداد في شهر رمضان في أنوار المساجد".

تحية المسجد:

عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" [رواه الجماعة].

وأخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سليكاً الغطفاني لما أتى يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقعد فقال له: "أصليت ركعتين؟" قال: لا، قال: "قم فصل ركتين" [رواه البخاري ومسلم].

قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ :"ذهب الجمهور إلى أنها سنة"، وقال النووي ـ رحمه الله ـ: "إنه إجماع المسلمين"، قال الحافظ ـ رحمه الله ـ في الفتح: "واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب"، ثم قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ: "وبهذا التقرير يُعلم أن فعل تحية المسجد في الأوقات المكروهة وتركها لا يخلو عن القائل بوجوبها من إشكال والمقام عندي من المضايقة والأولى للمتورع ترك دخول المساجد في أوقات الكراهة" [نيل الأوطار 3/68].

فائدة: ذكر ابن القيم رحمه الله أن تحية المسجد الحرام الطواف لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فيه بالطواف وتعقب بأنه لم يجلس إذ التحية إنما تشرع لمن جلس [نيل الأوطار 3/70].

ومن جملة ما استثني من عموم التحية دخول المسجد وقد أقيمت الفريضة فإنها لا تشرع لحديث أبي هريرة عند مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان مرفوعاً: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". قال العلماء "فجعل صلى الله عليه وسلم للمسجد مزية يتميز بها عن سائر البيوت، وهو ألا يجلس فيه حتى يركع، وعامة العلماء على أن الأمر بالركوع على الندب والترغيب، وذهب داود وأصحابه إلى أن ذلك على الوجوب وهذا باطل" [انظر تفسير القرطبي (12/273)].

ومن دخل المسجد والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما، وبهذا قال الحسن وابن عيينة ومكحول والشافعي واسحق وأبو ثور وابن المنذر، وقال شريح وابن سيرين والنخعي وقتادة والثوري ومالك والليث وأبو حنيفة يجلس ويكره له أن يركع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي جاء يتخطى رقاب الناس: "اجلس فقد آذيت وأنيت"[رواه ابن ماجة]، ولأن الركوع يشغله عن استماع الخطبة فكره كركوع غير الداخل [انظر المغني 3/192].

السترة أمام المصلى:

يستحب للمصلي أن يجعل بين يديه سترة تمنع المرور أمامه، وتكفّ بصره عما وراءها لحديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها ولا يدع أحداً يمر بينه وبينها فإن جاء أحد يمرّ فليقاتله فإنه شيطان" [رواه أبو داود وابن ماجة]، قال الشوكاني معلقاً عليه: "فيه أن اتخاذ السترة واجب" [نيل الأوطار 3/2]، وقال أيضاً: "وأكثر الأحاديث مشتملة على الأمر بها وظاهر الأمر الوجوب فإن وجد ما يصرف هذه الأوامر عن الوجوب إلى الندب فذاك" [السيل الجرار 1/176]، قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ: "يستحب للمصلي أن يصلي إلى سترة، سئل أحمد: يصلي الرجل إلى سترة في الحضر والسفر قال نعم مثل مؤخرة الرحل" [المغني 3/80]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر ثم اتخذها الأمراء" [رواه البخاري ومسلم].

ويرى الحنفية والمالكية أن اتخاذ السترة إنما يستحب للمصلي عند خوف مرور أحد بين يديه، فإذا أمن مرور أحد بين يديه فلا يستحب؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء وليس بين يديه شيء" [رواه أحمد وأبو داود]، قال ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ: "وحديث ابن عباس هذا يخصص حديث أبى سعيد: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمرّ بين يديه" فإن ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد فأما المأموم فلا يضره من مرّ بين يديه لحديث ابن عباس هذا قال: وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء" [فتح الباري1/572] قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ: "أقول هذه السنة ثابتة بالأحاديث الصحيحة الكثيرة فلا وجه لتخصيص مشروعيتها بالفضاء فالأدلة أعمّ من ذلك" [السيل الجرار 1/176].

هذا وتعتبر سترة الإمام سترة لمن خلفه [المغني 3/81]، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية أذافر فحضرت الصلاة فصلى إلى جدار فاتخذه قبلة ونحن خلفه فجاءت بهمة ـ ولد الضان ـ تمر بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه" [رواه أحمد وأبو داود].

وعن ابن عباس قال: "أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، بمنى فمررت بين يدي الصف فأرسلت الأتان ترتع ودخلت الصف، فلم ينكر ذلك علي" [رواه أحمد ورواه الجماعة].

ففي هذه الأحاديث ما يدل على جواز المرور بين يدي المأموم، وأن السترة إنما تشرع بالنسبة للإمام والمنفرد.

وقد أجاز بعض الفقهاء أن تكون السترة للمصلي خطاً على الأرض إذا لم يجد ما يجعله سترة لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً فإن لم يجد فلينصب عصاً فإن لم يكن معه عصاً فليخط خطاً ولا يضره ما مرّ بين يديه" [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة]، قال النووي في كيفيته: "المختار ما قاله الشيخ أبو اسحق أنه إلى القبلة لقوله في الحديث "تلقاء وجهه" واختار في التهذيب أن يكون من المشرق إلى المغرب ولم ير مالك ولا عامة الفقهاء الخط، واختلف قول الشافعي فروي عنه استحبابه وروي عنه عدم ذلك وقال جمهور أصحابه باستحبابه" [نيل الأوطار 3 / 4- 5] قال ابن القيم: "وأمر المصلي أن يستتر ولو بسهم أو عصا فإن لم يجد فليخط خطاً في الأرض، قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول الخط عرضاً مثل الهلال وقال عبد الله: الخط بالطول" [زاد المعاد 1/109].

وأجاز بعضهم أن يستتر بإنسان قال في المغني: "يستحب للمصلي أن يدنو من سترته، فإن استتر بإنسان فلا بأس لأنه يقوم مقام غيره من السترة، وقد روي عن حميد بن هلال قال رأى عمر بن الخطاب رجلاً يصلي والناس يمرون بين يديه فولاه ظهره وقال بثوبه هكذا وبسط يديه هكذا وقال: "صل ولا تعجل" وعن نافع: "كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد قال: ولني ظهرك" [المغني 3/85].

ثانيًا: ما تنزه عنه المساجد:

وأما ما ورد النهي عنه فيما يتعلق بالمساجد فهي جملة أحكام نوجزها فيما يلي:

زخرفة المساجد:

جاء الأمر بالحث على بناء المساجد وتنظيفها وتطهيرها، فعن يعقوب بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يتتبع غبار المسجد بجريدة وكان المسجد يرش ويقمّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وكان عمر رضي الله عنه يكسو مسجد قباء بقطيفة [مصنف ابن أبي شيبة 1/398]، أما التزيين والنقش فقد اختلف فيه، فكرهه قوم وأباحه آخرون، فروى حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى االناس في المساجد" [رواه أبو داود]. وفي رواية البخاري قال أنس رضي الله عنه: "يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود النصارى"، وروى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد" [رواه أبو داود]، قال البغوي: "التشييد رفع البناء وتطويله، ومنها قوله تعالى: ( في بروج مشيدة)، وهي التي يطول بناؤها، وفي ذلك ردّ عل من حمل قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع) على رفع بنائها وهو الحقيقة، بل المراد أن تعظم فلا يذكر فيها الخنا من الأقوال، وتطييبها من الأدناس والأنجاس وألا ترفع فيها الأصوات.

واحتج من أباح ذلك بأن فيه تعظيم المساجد والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله: (في بيوت أذن الله أن ترفع) يعني تعظم، ورُوي عن عثمان رضي الله عنه أنه بنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالساج ـ شجر يعظم جداً لا يكاد بوجد إلا ببلاد الهند وخشبه أسود رزين لا تكاد الأرض تبليه ـ وحسّنه، قال أبو حنيفة: "لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه وذلك في زمن ولايته قبل خلافته ولم ينكر عليه أحد ذلك [تفسير القرطبي 12/267].

وقول ابن عباس رضي الله عنهما: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود النصارى"، قال الخطابي: لتزخرفنها: لتزيننها، وأصل الزخرف الذهب، يريد تمويه المساجد بالذهب ونحوه، ومنه قولهم: زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل، والمعنى أن اليهود والنصارى إنما زخرفوا المساجد عندما حرفوا وبدلوا وتركوا العمل بما في كتبهم، يقول: وأنتم تصيرون مثلهم إذا طلبتم الدنيا بالدين، وتركتم الإخلاص في العمل، وصار أمركم إلى المراءاة بالمساجد والمباهاة في تشييدها وتزيينها.

تنزيه القبلة عما يلهي المصلي:

ولما كان المصلي مأمور بالخشوع في صلاته، وعدم التشاغل عنها بأي شئ جاءت الأحاديث والآثار تمنع تزيين القبلة بما يلهي المصلي، ومن ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه قال: كان قرام لعائشة رضي الله عنها قد سترت به جانب بيتها؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أميطي عني قرامك هذا فإنه لاتزال تصاويره تعرض لي في صلاتي" [رواه البخاري].

والقرام: ستر رقيق من صوف ذو ألوان، أميطي: أي أزيلي. والحديث يدل على كراهية الصلاة في الأمكنة التي فيها تصاوير، وعلى وجوب إزالة ما يشغل بال المصلي سواء كان صوراً أو غير صور والحديث يدل أيضاً على أن الصلاة لا تفسد مع وجود الصور لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقطعها ولم يعبها ولم يعدها [نيل الأوطار 2/153، وسبل السلام 1/151]، وقد تقدم كراهة زخرفة المساجد، والتصاوير من نوع ذلك.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت : "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في خميصة ذات أعلام فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة وأتوني بأنبجانيةكساء غليظ لا علم فيه – فإنها ألهتني آنفاً في صلاتي". [أخرجه البخاري ومسلم]، قال الصنعاني: "وفي الحديث دلالة على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يشغل القلب" [سبل السلام 1/151]، وقال العز بن عبد السلام: "تكره الصلاة على السجادة المزخرفة الملمعة، وكذلك على الرفيعة الفائقة لأن الصلاة حال تواضع وتمسكن، ولم يزل الناس في مسجد مكة والمدينة يصلون على الأرض والرمل والحصى تواضعاً لله" [فتاوى العز بن عبد السلام ص 68].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمذهب الذي عليه عامة الأصحاب كراهة دخول الكنيسة المصورة والصلاة فيها، وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا شك" [الاختيارات العلمية ص 254].

وقال المرغيناني: "وأشدها كراهة أن تكون أمام المصلي ثم من فوق رأسه ثم على يمينه ثم على شماله ثم خلفه" [انظر الهداية 1/295 مع شرح فتح القدير].

نشد الضالة:

ومما ينبغي أن تنزه عنه المساجد نشد الضالة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع رجلاً ينشد في المسجد ضالة فليقل: لا أداها الله إليك؛ فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا" [رواه مسلم وأحمد].

وعن بريدة رضي الله عنه أن رجلاً نشد في المسجد فقال: "من دعا إلى الجمل الأحمر، فقال صلى الله عليه وسلم: لا وجدت، إنما بُنِيَت المساجد لما بُنِيَت له" [رواه مسلم]. قال النووي: "وفيه النهي عن نشد الضالة في المسجد، ويلحق به ما في معناه من البيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود، وكراهة رفع الصوت في المسجد، وقوله: "إنما بنيت المساجد لما بنيت له" معناه: لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها".

الروائح الكريهة:

ومما تصان المساجد منه وتنزه عنه الروائح الكريهة والأقوال السيئة، وذلك من تعظيمها، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عزوة تبوك: "من أكل من هذه الشجرة ـ يعني الثوم ـ فلا يأتين المسجد"، وفي حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليى وسلم قال: "من أكل من هذه البقلة الثوم ـ وقال مرة من أكل من البصل والثوم الكراث ـ فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" [رواه البخاري]، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته: "ثم إنكم أيها الناس تأكلون من شجرتين ما أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما في رجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخاً" [رواه مسلم]. وقال القاضي: "ويلحق به من أكل فجلاً وكان يتجشى"، وقال أيضاً: "وقاس العلماء على هذا مجامع الصلاة غير المسجد كمصلى العيد والجنائز ونحوها من مجامع العبادات وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها ولا يلتحق بها الأسواق ونحوها" [مسلم بشرح النووي 5/48 وشرح المسند 2/333]، وقال الشيخ الجبرين في تنبيهات على بعض الأخطاء التي يفعلها بعض المصلين في صلاتهم: "استعمال ما يسبب الروائح المنتنة المستكرهة في مشام الناس كالدخان والنارجيلة –الشيشة- مما هو أقبح من الكراث والثوم والبصل الذي تتأذى من الملائكة والمصلون فعلى المصلي أن يأتي وهو طيب الرائحة بعيداً عن تلك الخبائث" [مقال نشر في مجلة المجتمع العدد 855]، ويلحق بذلك أيضاً الحدث في المسجد وأن تخرج منه الرائحة الكريهة ففي ذلك إيذاء للآخرين وإفساد لجو المسجد وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم "أن الملائكة تصلي على الشخص الذي يأتي المسجد للصلاة فتقول: اللهم صلّ عليه اللهم ارحمه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه" [رواه مسلم]، قال النووي: "لا يحرم إخراج الريح من الدبر في المسجد لكن الأولى اجتنابه لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"" [انظر المجموع 2/175].

و إذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يتأذى منه ففي القياس أن كل من تأذى منه جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب اللسان سفيهاً عليهم أو كان ذا رائحة قبيحة لا تفارقه لسوء صناعته أو عاهة مؤذية كالجذام وشبهه وكل ما يتأذى به الناس كان لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة فيه حتى تزول وكذلك يجتنب مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها كمجالس العلم والولائم وما أشبهها.

قال أبو عمر ابن عبد البر: "وقد شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام رحمه الله أفتى في رجل شكاه جيرانه، واتفقوا أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده، فاستشير فيه فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه، وألا يشهد معهم الصلاة، إذ لا سبيل مع جنونه واسطالته إلى السلامة منه، فذاكرته يوماً أمره وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك وراجعته فيه القول فاستدل بحديث الثوم وقال: هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد".

البزاق في المسجد:

روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها"، وفي صحيح مسلم: "ووجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن". قال القرطبي رحمه الله: "فلم يثبت لها حكم السيئة لمجرد إيقاعها في المسجد، بل وتركها غير مدفونة". وروي عن سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أنه تنخم ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله؛ فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها ثم قال: "الحمد لله الذي لم يكتب عليّ خطيئة الليلة".

وأخرج مسلم عن عبد الله بن الشخير قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته تنخع فدلكها بنعله اليسرى"، وهكذا إذا كان المسجد غير مفروش فإن كان مفروشاً بالحصر ونحوها فلا يتيسر الدفن الذي هو كفارة البصق فيكون خطيئة غير مكفرة، وقد وردت أحاديث في منع البصق في قبلة المسجد، ووردت أحاديث في أنه يبصق في ثوبه إذا احتاج إلى ذلك، فمن دعت حاجته إلى البصق بصق في ثوبه [السيل الجرار 1/182]، ويشير الشوكاني رحمه الله في قوله السابق إلى الحديث الصحيح المتفق عليه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم في صلاته فلا يبزقنّ قِبل قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه وردّ بعضه على بعض فقال أو يفعل هكذا".

البيع والشراء:

وتصان المساجد أيضاً عن البيع والشراء وجميع الأشغال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ـ للرجل الذي دعا إلى الجمل الأحمر ـ: "لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له" [رواه مسلم].

وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن، كذا جاء مفسراً في حديث أنس رضي الله عنه قال بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فجعل يبول في المسجد؛ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه، دعوه"؛ فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنمها هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن" [ رواه مسلم ]. ومما يدل على هذا قول الله تعالى: (ويُذكَرَ فيها اسمُه)، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن الحكم السلمي: "إن هذه المساجد لايصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" [رواه مسلم]. وسمع عمر رضي الله عنه صوت رجل في المسجد؛ فقال: "ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت؟!". وكان خلف بن أيوب جالساً في مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شيء، فقام وخرج من المسجد وأجابه، فقيل له في ذلك، فقال: ما تكلمت في المسجد بكلام الدنيا منذ كذا وكذا؛ فكرهت أن أتكلم اليوم. قال ابن الحاج: "ينبغي أن يمنع من يرفع صوته في المسجد حال الخطبة وغيرها لأن رفع الصوت في المسجد بدعة". وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في فتاويه: قال الزركشي: "السنة في سائر الأذكار الإسرار إلا بالتلبية". وقال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ : "حَمَل الشافعي ـ رحمه الله ـ أحاديث الجهر على من يريد التعليم".

وقال ابن الحاج: "ينبغي أن ينهى الذاكرون في جماعة في المسجد قبل الصلاة أو بعدها وفي غيرها من الأوقات لأنه مما يشوش بها". وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "يأتي على الناس زمان يحلقون في مساجدهم وليس همهم إلا الدنيا، وليس لله فيهم حاجة؛ فلا تجالسوهم" [حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة : 1163].

دفن الموتى في المساجد أو بناء المساجد على القبور:

قد ورد النهي من الحبيب صلى الله عليه وسلم عن دفن الموتى في المساجد أو بناء المساجد على القبور، ولا أدل على ذلك من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: إني أبرأ إلى الله منكم أن يكون لي خليل فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" [مسلم في صحيحه والنسائي في السنن الكبرى].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" [البخاري ومسلم وغيرهما].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" [رواه أحمد وابن خزيمة في الصحيح وابن حبان في الصحيح]، وهذه الأحاديث تدل على فوائد عديدة منها: حرمة اتخاذ القبور مساجد وصرح بذلك عامة علماء الطوائف ولا ريب في القطع بتحريمه، وتتعين إزالة المساجد المبنية على القبور وهذا لا خلاف فيه بين العلماء المعروفين وتكره الصلاة فيها من غير خلاف، ولا تصح عند الإمام أحمد في ظاهر مذهبه لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك [القول المبين في أخطاء المصلين لمشهور حسن سلمان 70].

وقد قال الشوكاني ـ بعد أن ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُرُج" [رواه الخمسة إلاّ ابن ماجة] ـ قال رحمه الله : "وفيه دليل على تحريم اتخاذ القبور مساجد وقد زعم بعضهم أن ذلك إنما كان في ذلك الزمان لقرب عبادة الأوثان وردّه ابن دقيق العيد" [نيل الأوطار ج4 ص90-91].

بل إن الصلاة عند القبور مكروه ولو لم يبن عليها مسجد، فإنّ كل موضع يُصلى فيه فهو مسجد وإن لم يكن هناك بناء، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك بقوله: "ولا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" [رواه مسلم في صحيحه]، وقال أيضاً: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً" [أخرجه البخاري ومسلم]، أي: كما أن القبور لا يصلى عندها ولا إليها ولا عليها، فلا تجعلوا بيوتكم كذلك، قال ابن قدامة رحمه الله: وإن بنى مسجداً في المقبرة بين القبور فحكمه حكمها – أي في عدم جواز الصلاة فيه – لأنه لا يخرج بذلك عن أن يكون في المقبرة، وقد روى قتادة أن أنساً مرّ على مقبرة وهم يبنون فيها مسجداً فقال أنس: "كان يُكره أن يُبنى مسجدٌ في وسط القبور" [المغني لابن قدامة 2/474].

فإن نُبشت القبور ونقلت منها جازت الصلاة فيها لأن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فيه قبور المشركين فنُبشت [متفق عليه].

واعلم أن بعضاً من الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصلاة إلى المقبرة ليس إلاّ لكونها مظنة النجاسة، ونجاسة الأرض مانع من الصلاة عليها سواء كانت مقبرة أم لم تكن ، وليس ذلك كل المقصود بالنهي وإنما المقصود الأكبر بالنهي هو مظنة اتخاذها أوثاناً كما ورد عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: "وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه من بعده من الناس" [الأم للشافعي 1/246]، بل هذه العلّة هي التي نص عليها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" [أخرجه مالك في الموطأ وابو نعيم في الحلية وإسناده حسن]، وأخبر أن الكفار إذا مات فيهم الرجل بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شر الخلق عند الله يوم القيامة [متفق عليه].

وهنالك أمر لا بدّ من التعرض له وهو أنه قد ذكر بعض الفقهاء أن الكراهة تتعلق بما إذا كان القبر تجاه القبلة وإلاّ فلا كراهة، والراجح أن كراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور مضطردة في كل حال سواء كان القبر أمامه أم خلفه، عن يمينه أو عن يساره فالصلاة فيها مكروهة على كل حال، ولكنّ الكراهة تشتدّ إذا كانت الصلاة إلى القبر لأن المصلي في هذه الحالة يرتكب مخالفتين الأولى: الصلاة في هذه المساجد والأخرى: الصلاة إلى القبر وهي منهي عنها مطلقاً سواء كانت في المسجد أم غير المسجد بالنص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد 187-189، والقول المبين 72].

إقامة الحدود في المسجد:

ومما ينبغي أن تنزه عنه المساجد إقامة الحدود فيها لما ورد عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقام الحدود في المساجد ولا يُستقاد فيها" [رواه أحمد وأبو داود والدارقطني]، قال الشوكاني بعد إيراده لهذا الحديث: "والحديث يدل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الاستقادة فيها لأن النهي كما تقرر في الأصول حقيقة في التحريم ولا صارف له ههنا عن معناه الحقيقي" [نيل الأوطار1/ 158].

الجهر بالقرآن في المسجد:

عن البياض رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: "إن المصلي يناجي الله عز وجل فلينظر بم يناجيه، ولا يجهر بعظكم على بعض بالقرآن" [رواه أحمد وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن عبد الله بن حذافة قام يصلي فجهر بصلاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ابن حذافة لا تسمعني وأسمع ربك" [رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح].

فائدة: الكلام في المسجد:

انتشر بين الناس أن الكلام المباح ممنوع في المسجد، بناءً على أن الأصل في الجلوس في المسجد إنما هو للصلاة والتلاوة والذكر والتفكر والتدريس مع عدم رفع الصوت والتشويش على المصلين، وهذا صواب ولكن الإسلام لم يمنع الكلام المباح في المسجد ما لم يكن فيه تشويش على المصلين، وأما ما يُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" فلا أصل له كما قال العراقي [انظر تخريج أحاديث الإحياء 1/136، والألباني في السلسلة الضعيفة رقم 4، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع رقم 109]، وثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتكلمون على مسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الجاهلية فيضحكون ويبتسم صلى الله عليه وسلم، وهذا نص في جواز التحديث في المسجد بالحديث المباح، وإن حصل فيه ضحك ونحوه. عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: "أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم كثيراً كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون يأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم" [رواه مسلم في الصحيح].

ثالثًا : مسائل مختلف في جواز حدوثها في المساجد:

وهنالك أمور ورد الخلاف بين العلماء في أحكامها بين مجيز ومانع ومن أهمها :

تناشد الشعر:

مما اختلف فيه العلماء بين مجوز ومانع له في المسجد؛ تناشد الأشعار فيه، فقد روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة.

واختلف العلماء في تناشد الأشعار فمِن مانع مطلقاً، ومن مجيز مطلقاً. والأولى التفصيل، وهو أن ينظر إلى الشعر، فإن كان مما يقتضي الثناء على الله عز وجل، أو على رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الذب عنهما، كما كان في شعر حسّان رضي الله عنه، أو يتضمن الحض على الخير أو الوعظ والزهد في الدنيا فهو حسن في المساجد كقول القائل:

طوفي يــا نفس كي أقصـد فــرداً صمدا

وذريني لست أبغي غير ربي أحدا

بفهو أنسي وجليسي ودعي الناس فما

إن تـجــــــــدي مــن دونــه ملـتحـدا

فعن سعيد بن المسيب قال: مرّ عمر رضي الله عنه في المسجد وحسّان ينشد؛ فلحظ إليه، فقال حسّان: كنت أنشد وفيه من هو خير منك. ثم التفت إلى أبي هريرة رضي الله عنه، فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس"؟، فقال: نعم. [ متفق عليه].

وقال ابن العربي المالكي: "لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في مدح الدين وإقامة الشرع. وما لم يكن كذلك لم يجز، لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك" [انظر تفسير القرطبي12/271]. وقال الشوكاني رحمه الله: "وقد ثبت أنهم كانوا يتناشدون فيه الأشعار ولهذا قال حسان لعمر: قد كنت أنشد وفيه – يعني المسجد – من هو خير منك، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان غالب ما يتناشدونه مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدح الإسلام وأهله وذم الكفر وأهله، وفي ذلك مصلحة ظاهرة، وبهذه الخصوصية يمتنع إلحاق غيره من الأشعار به" [السيل الجرار 1/ 180]. وقد روى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكر الشعر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هو كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح".

النوم في المسجد:

ومن مواضيع الخلاف أيضاً النوم في المساجد فقال البعض إن النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء ومن لا بيت له جائز، لأن في البخاري: وقال أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه: "قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا في الصفة"، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: "كان أصحاب الصفة فقراء، والصفة موضع مظلل في أخريات المسجد النبوي تأوي إليه المساكين".

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم"، وروى نافع أن ابن عمر أخبره أنه كان ينام وهو شاب لا أهل له في المسجد النبوي وفي رواية لابن ماجة كنّا ننام كما أوردها في الفتح [فتح الباري 1/535]. وفي الموطأ وأبي داود عن صفوان ابن أمية رضي الله عنه أنه حين جاء مهاجراً إلى المدينة نام في المسجد وتوسد رداءه [جامع الأصول3/601].

وترجم البخاري: باب نوم المرأة في المسجد، وأدخل حديث عائشة رضي الله عنها في قصة السوداء التي اتهمها أهلها بسرقة وشاح وطفقوا يفتشون عنها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ جاءت الحدياة فألقته بينهم، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وكان لها خِباء في المسجد أو حفش -والخباء: خيمة من صوف أو وبر، والحِفش بكسر الحاء: بيت صغير-.

ويقال: كان مبيت عطاء بن أبي رباح ـ رحمه الله ـ في المسجد أربعين سنة. نقل ذلك القرطبي -رحمه الله- في تفسيره.

الخاتمة :

وختاماً نسأل الله القبول لهذا العمل وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وإن كان ثمة شكر فينبغي لله أولاً، ثم الشكر لمن ساعد وعاون في إخراج هذا الكتيب، فإن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، وأسأل الله تعالى أن يتقبل هذا الجهد المتواضع وأسأل إخواني أن يعينوني بحسن النصح فطوبي لمن أهدى إليّ عيوبي فلا أدعي كمالاً ولست من أهل تلك الدعوى :

يا ناظم النجم كن عوني فقد عطلت

أجياد غيدي وإن أبدعــــت تقليدي

ويــــــا ملــوك القوافي أســتميحكـمُ

عفـــو الكرام فهــــذا كــــل مجهودي

أرجو أن أكون قد وفقت لبيان ما فيه الحق والصواب، لنعمل به خاصة فيما يتعلق المساجد لقدسيتها ووجوب رفعها وتحريم إنقاص قدرها فإنها بيوت الله التي وضعها لعباده ليقوموا له فيها، ويحفظوا جنابها.

والحمد لله أولاً وآخراً.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.