ليشهدوا منافع لهم

الناظر المتأمل في شعائر الإسلام وعباداته، يرى ذلك الخيط المتين، والعروة الوثقى التي تربط بين "مجموع الأمة" وبين "العبادة":

- فـ"الصلاة": مناجاة لله، ودعاء، وذكر؛ وتنهي عن الفحشاء والمنكر. ثم هي جماعة تقام، يكون الفرد فيها لبنة في بناء أكبر، وقطرة في البحر البشري العظيم.

 

- و"الزكاة": عملية تقرب بين الطوائف المختلفة، وتذيب الفوارق الاجتماعية، وتحارب غريزة الحرص، وحب التملك. ثم هي تطهير للثروة الفردية، وتكافل مالي للأمة جمعاء.

 

- و"الصوم": سياحة روحية، وعبادة قلبية، تعلم الصبر على مشتهيات النفس، وتقوي إرادة الصائم على الاحتمال، وتعوده على البر والرحمة. ثم هو استشعار لحاجة المحتاج، وتكافل وتضامن يربط الفرد بالمجموع.

- و"الحج": رحلة إيمانية، ورياضة روحية، وطهارة ذاتية. ثم هو يزيد من صلة الإنسان بربه، ويربطه بالمثل العليا ومكارم الأخلاق، وبه يتخلى عن الرذائل، ويتحلى بالفضائل، ويتجرد من النقائص والعيوب، ويحلق في آفاق القرب والصفاء، فهو مصدر الهداية والسكينة، والأمن والسلام.

وهكذا في كل شعائر الإسلام.. نلمح خيط "الجماعة" يجمع "الأفراد"، ويجدد رباط "الأمة"؛ بحيث تكون كأعضاء الجسد الواحد، والبنيان المرصوص، الذي تسري فيه الحياة، ويشهد بعضه بعضًا.

وفي اعتقادي.. أن هذه المعاني في العبادات الإسلامية، تمثل أهم "المنافع" و"الثمار" التي يجنيها الإنسان من عبادته لله تعالى.

يقول الله –عزَّ وجلَّ- مبيِّنًا حكمته من وراء فريضة الحج: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 27-29]، فمع "ذكر الله"، وأداء "شعائر الحج".. هناك "المنافع" المتبغاة من وراء هذا الحج. وتنكير "المنافع" في الآية يفيد عمومها في مجالي التعبد للدنيا والتعبد للآخرة.

 

فإذا نظرنا إلى تلك الشعيرة العظيمة "شعيرة الحج"، وقيمة "المنافع" المبتغاة للمسلمين من ورائه فوق ما أُجمل منها في الآية، والتي لازلنا متخلفين عن الاستفادة منها حتى الآن!، نجد أنه ليس مقصورًا على الأركان، والواجبات، والسنن، وليس هو التجوال والتردد بين أماكن الشعائر؛ بل يتجاوز ذلك إلى أعمال أخرى مقصودة، نذكر منها ما يلي:

 1. في الحج.. تحصل المساواة؛ تمرينًا للأغنياء على التخفف من الكبر. وتمرينًا للفقراء على الاتزان في مواضع الرفعة.

 

2. في الحج.. يحصل التعارف بين المسلمين -التعارف المفقود إلى حد كبير-، فقد صار حال بعض المجتمعات الإسلامية؛ خاصة في المدن أن شعيرة إلقاء السلام قد تقلصت تمامًا، مما يجعلك لا تشعر بالحياة بين مسلمين؛ إلا من رحم الله.

3. في الحج.. ينشط اقتصاد أم القرى "مكة"، ومن حولها، وقد اتسعت دائرة أم القرى، فلم تعد فقط بلدان الجزيرة العربية؛ بل صارت يمتد قطرها من جاكرتا، في أقصى شرق آسيا، إلى نواكشوط، في أقصى غرب إفريقيا؛ بل إن بعض البلدان غير الإسلامية تنشط تجارتها في الموسم؛ استجابة لدعوة باني البيت: {وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} [إبراهيم: 37]، فتأتي ثمرات غير المسلمين مثلما تأتي ثمراتهم.

4. في الحج.. يسافر العلماء لمصاحبة الوفود، ولتعليم الحجيج، فتتلاقى عقول هؤلاء العلماء، وتتلاقح فتاواهم، فيزول شبح التعصب المذهبي، وينزاح التنافر الفقهي، الذي يضر ولا ينفع، وتتهيأ النفوس للوئام في مجالات الحياة بما يحقق الوحدة المنشودة. وهكذا يجب أن يكون الحال.

5. في المشاعر المقدسة.. يشكل الحجيج دوائر في الطواف، وخطوطًا في السعي، وتجمعات في منى ومزدلفة وعرفات، فيستلهمون من تلك الأشكال أطرًا لحياتهم في جوانبها الاقتصادية، والسياسية، والصناعية، والجهادية، والإعلامية، وغيرها.

6. في الحج.. تهيأت الدنيا لمولد دولة الإسلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم دائم البحث عن مكان ومجتمع، يكون مرتكزًا لانطلاق الدعوة، بعدما صُمَّت آذان أهل مكة وما جاورها، ولم تعد لديهم قلوب تهتز لمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشًا منعوني أن أبلِّغ كلام ربي". إن حجبًا كثيفة كانت تمنع وصول نبرات الصوت الرباني إلى قلوب أقفلت، فتحول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الموسم؛ لينجز الأعمال التي بها يقيم دولة الإسلام، وبالفعل قامت الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، ثم زحف نورها ليضيء المشرق والمغرب، وتغير وجه الدنيا.

هذه بعض "المنافع" التي يُثمرها الحج.. وإن القصور الحاصل في الانتفاع بها له أسباب متعددة، منها: ضيق الوقت بسبب طبيعة أعمال الحج نفسه، وتواليها لهذه الأعداد الضخمة من المؤمنين، ومنها تحديد مدة البقاء في الأراضي المقدسة لحجاج بعض البلاد.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.