ما بعد أداء فريضة الحج ـ د. عامر الهوشان
إذا كانت العبادة في الإسلام هي الغاية الأساسية من خلق الله تعالى للإنسان , والحكمة من وجوده على وجه الأرض , قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذاريات/56 ....فإن لهذه العبادة ثمرات مرجوة ونتائج هي المقصودة منها على وجه الحقيقة .
نعم ....ليست العبادة الحقيقية التي أمر الله تعالى بها المسلم مجرد أداء للأركان أو تنفيذ للفرائض فحسب , بل هي - مع ما سبق – إعلان روحي وقلبي بالامتثال المطلق لأمر الله , والتسليم والاستسلام لأوامره ونواهيه سبحانه , بالإضافة لما لهذه العبادة أو تلك – إن أُديت كما أمر الله – من ثمرات تظهر في سلوك المسلم وحياته اليومية , ويلاحظها الناس من حوله , بدءا بأهله وأرحامه , وليس انتهاء بجيرانه وأهل بلدته وبلده وكل من يعامله أو يحتك به .
وإذا كانت بعض العبادات تمتاز بجانب دون آخر - ككون الزكاة عبادة مالية مثلا ... - فإن الحج عبادة مالية جسدية روحية , وهي بذلك تعتبر العبادة الجامعة لكل العبادات في الإسلام , ففيها التوحيد بأبهى صوره وأشكاله , وفيها الصلاة وبذل المال والصيام في حالات خاصة , قال تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...} البقرة/196
إن من أبرز وأهم دلالات قبول الطاعة والعبادة ظهور أثرها في سلوك الأفراد على أرض الواقع , فهي في الحقيقة المقياس الذي من خلاله يمكن إدراك مدى أثر العبادة في المسلمين , والمؤشر الذي يمكن به معرفة قبول الطاعة والعبادة من عدمه .
إن الحقيقة أن فترة ما بعد أداء فريضة الحج هي الأهم بالنسبة للحاج والمسلمين على حد سواء :
1- أما بالنسبة للحاج فهي الامتحان الحقيقي لمدى تأثره بالحج , ومدى تأثير أداء هذه الفريضة في نفسه وروحه , والتي من الطبيعي أن يكون أثرها باديا وظاهرا في سلوكه وتصرفاته ومعاملاته .
فإذا لم يرجع الحاج من حجه بترسيخ عقيدة الاستسلام لأمر الله تعالى في نفسه , والذي يكون له أثر كبير في السلوك والأفعال , تماما كما فعل نبي الله ابراهيم عليه السلام حين خضع لأمر الله في ترك أهله بأرض قفر موحشة لا زرع فيها ولا ماء ولا حياة , مستسلما لأمر الله , طالبا منه سبحانه أن يرعاهم : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } ابراهيم/37 , وكما فعل مع رؤيا ذبح ولده الذي انتظره طويلا حتى ولد , كما انتظر طويلا حتى صار شابا ملئ السمع والبصر , ليأتي الأمر الإلهي بذبحه بيد والده , فما كان من خليل الله وابنه اسماعيل إلا الخضوع والاستسلام : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} الصافات/102......
فإنه في الحقيقة لم يقطف ثمرات الحج العظيمة , ولم يغنم من وراء أدائه للمناسك الفوائد والمقاصد الجليلة .
وإذا لم يتغير سلوك الحاج بعد أداء فريضة العمر إلى الأفضل والأحسن في جميع المجالات وعلى كافة المستويات التعاملية والعائلية والاجتماعية :
· فيقلع عن الأخطاء التعاملية مع الناس التي كان يقع فيها قبل الحج , من عدم أداء الحقوق المادية للآخرين على الوجه الذي ينبغي , ومن المماطلة في أداء المستحقات والديون , ومن سوء معاملة الأجير والعامل .....
فإنه في الحقيقة لم يصل إلى ثمار الحج المرجوة , لأنه ببساطة تعامل مع الفريضة الخامسة بسطحية وسذاجة , و لم يدرك مقاصدها العظيمة , وآثارها الكثيرة المرجوة على الفرد والمجتمع .
2- وأما بالنسبة للمسلمين فإن لقب "الحاج" الذي يحرص عليه بعض المسلمين لا يعنيهم من قريب أو بعيد , وإنما الذي يعنيهم ويهمهم هو : سلوك الحاج وطريقة تعامله معهم بعد أدائه لهذه الفريضة العظيمة , سواء كانوا من الأهل والأقارب والأرحام , أو كانوا من المتعاملين مع الحاج بالتجارة و الدرهم والدينار .
نعم ...يريد أهل السوق أن يروا من الحاج بعد عودته من الديار المقدسة الصدق في التعامل , والأمانة في التجارة والبيع والشراء , والبعد عن المماطلة أو التسويف في أداء الحقوق , و الإحسان إن حدث اختلاف بين أهل السوق أو نزغ الشيطان بينهم .
كما ترجو الزوجة والأولاد أن لا يكون أداء رب البيت للحج مجرد عادة سنوية , بل يطمحون أن يلمسوا اختلافا جذريا في تعامله معهم بعد أدائه لشعائر الحج ومناسكه , فيجدوا اللطف في المعاملة بعد قسوة , والإحسان في المعاشرة بعد غلظة , والتغافل عن الهفوات بعد ملاحظة وتتبع ودقة .
لقد كان تقييد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ثواب الحج "الجنة" دون سواها بقيد "المبرور" خير إشارة إلى وجوب ظهور ثمرات الحج على سلوك الحاج بعد أداء المناسك , حيث قال : ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) (1) .
فليست الجنة جزاء لأي حج , بل هو الحج المبرور حصرا , والذي فسره ابن رجب رحمه الله بقوله : "وإذا قرن البرُّ بالتَّقوى ، كما في قوله - عز وجل - : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } المائدة/2 ، فقد يكون المرادُ بالبرِّ معاملةَ الخلق بالإحسّان " (2) , وهو ما يشير إلى أن الحج المبرور هو الحج الذي تظهر آثاره الأخلاقية على سلوك الحاج بعد أدائه للفريضة .
ثم ذكر معنى آخر للبرِّ بقوله : أنْ يُراد به فعلُ جميع الطاعات الظاهرة والباطنة كقوله تعالى : { ...... وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } البقرة/177 , وهو أيضا يشير إلى المعنى السابق . (3)
==
(1) مسند الإمام أحمد 7348 وقال شعيب الأرنؤو معلقا : إشناده صحيح على شرط الشيخين و حسنه الألباني
(2) جامع العلوم والحكم مع تحقيق ماهر ياسين الفحل / الحديث 27 ص9
(3) المرجع السابق ص10
التعليقات