بعد أداء الحج هل يضمن المسلم غفران ذنوبه أم يبقى خائفاً قلقاً؟

السؤال:

هناك حديث يقول : بأنك لو أديت الحج بطريقة صحيحة فستعود كما ولدتك أمك عاريا من كل خطيئة ، ولله الحمد قد أديت فريضة الحج ، وإن شاء الله هي صحيحة ، و لكن من وقت لآخر وأثناء الصلاة أتذكر خطاياي التي ارتكبتها من قبل الحج ، وأشعر بالضيق الشديد والخوف ، وأسأل الله العفو والمغفرة ، فهل ينبغي علي أن أكون دائماً في تأنيب للضمير ، أم يجب علي أن أكون متفائلاً بأن الله سيغفر لي ، ولا أحاول أن أتذكر تلك الخطايا؟

 

الجواب:

الحمد لله

أولاً:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) .

رواه البخاري ( 1449 ) ومسلم ( 1350 ) .

وننبه هنا إلى أمرين :

الأول : أن هذا هو جزاء الحج المبرور ، فمن حج بمال حرام ، أو كان حجه غير خالص لله تعالى أو حصل منه رفث أو فسوق لم يكن حجه مبروراً ولم يرجع كيوم ولدته أمه .

قال ابن عبد البر – رحمه الله - :

وأما الحج المبرور : فقيل : هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ، ولا رفث فيه ولا فسوق ، ويكون بمال حلال .

" التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " ( 22 / 39 ) .

وقال بعض أهل العلم إن الحج المبرور هو المقبول وعلامة قبوله أن لا يعاود العبد معصية ربه تعالى ، وأن يرجع الحقوق إلى أهلها .

وانظري جواب السؤال رقم ( 26242 ) .

الثاني : أن الحج لا يسقط الحقوق الواجبة كالكفارات والديون ، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم ( 138630 ) .

 

ثانياً:

المسلم الذي يكرمه ربه تعالى بأداء مناسك الحج ينبغي أن يكون خائفاً أن لا يكون قد قُبِل منه عمله ، وليس هذا من أجل أن يصير قانطاً من رحمة ربِّه تعالى بل حتى لا يصيبه الغرور ، وحتى يُقبل على ربِّه عز وجل بدعاء صادق أن يتقبل منه ويقبل عليه بعمل صالح يزيد في ميزانه يوم يلقى ربَّه تعالى ، قال الله سبحانه وتعالى – في وصف المؤمنين – ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) المؤمنون/ 60 ، 61 .

عن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) المؤمنون/ 60 ] قَالَتْ عَائِشَةُ : أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ ؟ قَالَ : لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) .

رواه الترمذي ( 3175 ) وابن ماجه ( 4198 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".

 

فهذا الخوف من أولئك المؤمنين لم يجعلهم في قنوط من رحمة ربهم ، بل لقد جمعوا معه الرجاء بربهم وحسن الظن به عز وجل أن يثيبهم وأن يُكرمهم ، وإنما دفع أولئك الأولياء المؤمنين للخوف من عدم قبول أعمالهم أمران : سوء ظنهم بأنفسهم أن لا يكونوا أحسنوا العمل ، وعظيم محبتهم لربهم عز وجل .

قال ابن القيم – رحمه الله - :

فإذا خاف – يعني : المؤمن - فهو بالاعتذار أولى ، والحامل له على هذا الاعتذار أمران : أحدهما : شهود تقصيره ونقصانه ، والثاني : صدق محبته ؛ فإن المحب الصادق يتقرب إلى محبوبه بغاية إمكانه وهو معتذر إليه مستحٍ منه أن يواجهه بما واجهه به وهو يرى أن قدره فوقه وأجل منه ، وهذا مشاهد في محبة المخلوقين .

" مدارج السالكين " ( 2 / 325 ) .

 

والخلاصة :

أن الواجب عليك أن تجمعي بين الأمرين ، لا تتركي واحدا منهم :

الأول : ألا تستعظمي ذنوبك في مقابل مغفرة الله تعالى ورحمته ، وإنما خوف المؤمن من تقصيره في التوبة وتقصيره في الطاعة التي تكفر الذنوب ، فاجعلي خوفك هذا دافعاً لك للمزيد من الطاعات ولسؤال الله عز وجل بصدق أن يتقبل منك ويجعلك من المقربين ، واحذري أشد الحذر من القنوط من رحمة ربك عز وجل .

الثاني : حسن الظن بالله جل جلاله ، والطمع في عفوه ومنه وكرمه ورحمته التي وسعت كل شيء ؛ فما دمت على استقامة من أمر ربك ، وتعظيم لشرعه ، ومسارعة في طاعته : فليكن مع ذلك دوماً حسن الظن به عز وجل أن يتقبلها منك ويثيبك عليها .

قال الحافظ ابن حجر – في شرح الحديث القدسي المتفق عليه ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ) - :

وقال القرطبي في " المفهم " : قيل : معنى " ظن عبدي بي " ظن الإجابة عند الدعاء ، وظن القبول عند التوبة ، وظن المغفرة عند الاستغفار ، وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكاً بصادق وعده , وقال ويؤيده قوله في الحديث الآخر: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)

قال : ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه موقناً بأن الله يقبله ويغفر له ، لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد ، فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها ، وأنها لا تنفعه : فهذا هو اليأس من رحمة الله ، وهو من الكبائر , ومن مات على ذلك وُكِلَ إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور " فليظن بي عبدي ما شاء " قال : وأما ظن المغفرة مع الإصرار فذلك محض الجهل والغِرَّة ، وهو يجر إلى مذهب المرجئة .

" فتح الباري " ( 13 / 386 ) .

نسأل الله أن يتقبل منك عملك الصالح ، وأن يجعل حجك مبرورا ، وأن يثيبك عليه خير الثواب وأجزله وأحسنه .

 

والله أعلم

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.