الأسرة واستثمار عشر ذي الحجة

 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن الزمان يتفاضل بعضه على بعض كما يتفاضل الأشخاص والبقاع وغيرها، فها هي عشر ذي الحجة أيام محدودة ومعدودة، لكنها أفضل أيام السنة على الإطلاق؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)؛ رواه البخاري.


فمن وفَّقه الله تعالى لاستثمارها فهو على خير عظيم، وسأذكر خمسًا وعشرين وسيلة لاستثمار عشر ذي الحجة، محاولين تحريرها وتطبيقها في أنفسكم وأسرتكم، دالين عليها غيركم؛ فالدال على الخير كفاعله.


الوسيلة الأولى: تعظيم هذا الموسم العظيم عند الأسرة، وبيان أهمية هذه الأيام الفاضلة، وذلك من تعظيم حرمات الله تعالى، فإذا عُظِّمت في القلوب تبِعتها القوالب والجوارح بالعمل والاستثمار، ولكلٍّ طريقته مع أسرته في تفعيل تلك الوسيلة.


الوسيلة الثانية: تأمَّل كثيرًا ما حجم الأرباح لو استثمرت الأسرة تلك العشر الفاضلة، وما حجم الخسارة لو فاتت عليها تلك الأيام، ففرق كبير وبون شاسع بين هذا وذاك في الربح والخسارة، فهنيئًا للرابحين المقبولين وعزاءً للمحرومين، فالمقارنة بينهما تدعوكم جميعًا للاستثمار.


الوسيلة الثالثة: اجعَل شعارك مع أسرتك في هذه العشر الصبر وحسن الاستثمار، فإن الصبر على كلفته ومرارته نتيجته أحلى من العسل، فكل إنجاز إنما خلفه صبر وعزيمة، فهي أيام تعد بأصابع اليدين، فإن استشعار الأسرة لذلك يدعوهم للتخطيط لاستثمار تلك الأيام العظيمة، وسريع مرورها على المستثمر والمفرط كليهما.


الوسيلة الرابعة: اجلس مع نفسك ومعك ورقتك وقلمك، واكتُب برنامجك لهذه العشر، وليس ذلك بكبير على تلك الأيام الفاضلة مشاركًا بذلك أسرتك الكريمة، حتى يعم النفع ويعظم الخير، أرأيت عندما تريد بناء مشروع دنيوي، فإنك تخاطب المهندسين في دقة التخطيط وتتابع المنفذين في دقة التنفيذ، فهذا الموسم الأخروي أولى بذلك.


الوسيلة الخامسة: استشعر وأسرتك الكريمة عند بلوغكم لهذه العشر الفاضلة أن كثيرين لم يدركوها فماتوا قبلها، فاحمدوا الله تعالى واشكروه على بلوغكم إياها، فإن هذا الشكر سبب لنعمة الاستثمار والله تعالى يقول: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، فاستشعاركم مفتاح للاستثمار.


الوسيلة السادسة: اعتبر أنت وأسرتك الكريمة هذه العشر المباركة دورة إيمانية تربوية لكم جميعًا، محاولين التفوق فيها بنجاح من خلال استثمارها بسائر الطاعات، فهي زمن يسير وينتهي، فاعملوا على فقه الأولويات في أعمالكم وظروفكم.


الوسيلة السابعة: المرأة من أحوج ما تكون لترتيب الأولويات في استثمار هذه الأيام؛ لأنها مشغولة بخدمة بيتها وزوجها وأولادها، ونحو ذلك، فهي بحاجة ماسة إلى الترتيب، وإن لم تفعل المرأة هذا، فهي قد تخسر كثيرًا من وقتها من حيث لا تشعر.


الوسيلة الثامنة: على المرأة وهي تعمل في بيتها ما يخصها ألا تنسى الذكر بأنواعه خلال عملها، فهو عمل يسير وفضله عظيم، فأكثري رحمك الله خلال عملك من الكلمات الأربع: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، وغيرها من الأذكار؛ فكرِّري هذا كثيرًا ولا تملي، فهو حسنات تُكتب لك خلال عملك.


الوسيلة التاسعة: إن مما يخص المرأة دورتها الشهرية، فإذا جاءتها فإنها تترك من العبادات الصلاة والصيام والطواف، واختلفوا في قراءة القرآن، وأما باقي العبادات فهو متاح لها بخلاف بعض النساء إذا جاء وقت دورتها تركت كثيرًا من الأعمال، فاحرصي على استثمار هذه الدائرة الواسعة من الأعمال الصالحة.


الوسيلة العاشرة: أخي وأختي الكريمان، إن من وسائل الاستثمار دلالتكما للآخرين على استثمار تلك الأيام، ففي هذه الدلالة تعزيز للنفس وكسب للخير، وغرس لكما؛ فاستثمرا جلساتكم بذكر شيء من ذلك.


الوسيلة الحادية عشرة: إشاعة ونشر تعظيم هذا الموسم العظيم داخل الأسرة تعزيزًا وتقديرًا وتخطيطًا، فهم عندما يسمعونه كثيرًا تتحرك في نفوسهم طرق للاستثمار، وتعظُم عزائمهم، وليكن ذلك قبل الموسم بأيام كافية، وليكن هو موضوع الساعة.


الوسيلة الثانية عشرة: اتفاق الأسرة جميعًا أن يقرأ كل فرد منهم كتابًا واحدًا على الأقل عن هذه العشر الفاضلة، ويكون مجال المناقشة مفتوحًا في مجالسهم، وفي وسائل التواصل لديهم، إفادةً أو سؤالًا عما أشكل.


الوسيلة الثالثة عشرة: حاول جاهدًا مع أسرتك الكريمة، وضَعْ جدولة تناسبكم جميعًا لقراءة القرآن، فلو قرأت مع كل وقت صلاة جزءًا، لختمت قريبًا من الختمتين خلال العشر، وفيهما بفضل الله تعالى ما يزيد على ستة ملايين حسنة، والله يضاعف لمن يشاء، فاعزموا أمركم فإن الوقت محدود، وتعاملوا مع ظروفكم غير المهمة بالتأجيل أو التعجيل، علمًا أن هذه الجدولة في متناول الجميع لو تأملوا الأمر.


الوسيلة الرابعة عشرة: إن الصدقة من الأعمال الصالحة المتعدية، فأكثروا منها ولو كانت قليلة؛ لتكسبوا المضاعفة ودعاء الملكين لكم بالخُلف، واعلموا أن ما تنفقونه على أهليكم هو من الصدقة، ومن العمل الصالح أيضًا، فاحتسبوه يعظُم أجركم، فجدولتكم للصدقة في هذه الأيام هي أمر عظيم وأمر ينبغي لنا الانتباه له في كل حين من هذه الأيام الفاضلة، لا سيما أنه يشجعكم على كثرة تلك الصدقات وبذلها، كما يمكنكم أن تكونوا سببًا في صدقات المتصدقين من خلال دلالتهم على الفقراء والمساكين، فلكم مثل أجورهم.


الوسيلة الخامسة عشرة: احرِصوا على صيام تلك الأيام، فهو من العمل الصالح، وإن كنتم مشغولين، فاحرصوا على الاثنين والخميس، فإن الصيام غالبًا تصحبه طاعات أخرى، وإن أمكن خلال صيامكم أن تجمعوا الأعمال الأربعة في حديث أبي بكر رضي الله عنه؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا…) إلى آخر الحديث، وهو في صحيح البخاري.


فقد ذكر في هذا الحديث أربعة أعمال جليلة صالحة، وهي الصيام وإطعام المسكين، وشهود الجنازة، وعيادة المريض، وقال في نهاية الحديث: (ما اجتمعنَ في امرئ إلا دخل الجنة)، فاحرصوا على جمعها ولو بعض الأيام، ثم إن انشغلتم عن الصيام، فلا تنشغلوا عن صيام يوم عرفة، فهو عمل صالح عظيم جليل.


الوسيلة السادسة عشرة: كن حريصًا على التبكير إلى الصلاة ما أمكنك، ففيها من الكنوز العظيمة ما الله به عليم، فستجد أن أعمالًا صالحة وأرباحًا عظيمة حصلت عليها من خلال هذا التبكير، مشجعًا أبناءك على ذلك، فستكون هذه الأيام الفاضلة لأبنائك دورة تدريبية في امتثال الفضائل، وعلى رأسها الصلاة، مكثرين من نوافلها في البيت أو المسجد، واعلم أنك قدوتهم، فهم يرون ما تفعل ويفعلون.


الوسيلة السابعة عشرة: كم هو جميل أن تعيش الأسرة في إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم في المكث في المصلى بعد صلاة الفجر، حتى ترتفع الشمس، وهذا في صحيح مسلم مِن فِعله عليه الصلاة والسلام، فالرجال في مساجدهم، وأما النساء ففي مصليات بيوتهنَّ، مستثمرين ذلك بالقراءة والذكر، وهم بذلك يربحون دعوات عظيمة من الملائكة الكرام بقولهم: (اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم، اللهم تُب عليهم، اللهم صلِّ عليهم)، فما أعظمه من ربح! وما أيسره من عملٍ!


الثامنة عشرة: لعل هذه العشر الفاضلة تكون انطلاقة للأسرة المباركة في إحياء هذين الذكرين العظيمين:

الأول: قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في اليوم مائة مرة، وثواب ذلك يكون كمن أعتق عشرة أنفس وكتب له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيئة، وكان في حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي.


الثاني: التسبيح مائة مرة قائلًا: سبحان الله وبحمده، فثواب هذا حُطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، وكلا الحديثين متفق عليهما، فكم هو جميل أن ينطلق في هذا الكبير والصغير من الأسرة انطلاقة دائمة بتحفيز وتعزيز الأبوين الكريمين لأولادهم، فهذه تجارة رابحة للجميع، وقد يمتد هذا إلى الأحفاد مع مرور السنين، فيا بشراهم جميعًا!


الوسيلة التاسعة عشرة: لتحرص الأسرة جميعًا خلال هذه الأيام خصوصًا وغيرها عمومًا - على التطوعات من الصلاة، فهي مكملات للفرائض؛ كصلاة الضحى والوتر، وقيام الليل والسنن الرواتب، فكم ستكسب الأسرة من الخير إذا تضمَّنت حياتها تلك الأعمال، وكم ستطمئن وتزكو أخلاقها وأعمالها، ولك أن تتصور واقع تلك الأسرة التي كانت في آخر ليلها قائمة، منهم الراكع والساجد والتالي، والداعي والمستغفر.


إن بعض الأسر في مجتمعنا تعيش هذا واقعًا عمليًّا في غير العشر، فكيف بها في هذه العشر الفاضلة، فلعلنا جميعًا نتذوَّق ما تذوقه هؤلاء، ودائمًا نفكر في المكاسب قبل أن تفكر في المتاعب.


الوسيلة العشرون: لتحرص الأسرة جميعًا على عمل اللسان، فهو من أيسر العبادات ووقته أوسع الأوقات؛ كالاستغفار والدعاء والتهليل، والتسبيح والتكبير والتحميد، والحوقلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه من أعمال اللسان، لنعوِّد عليها أنفسَنا، ولينشأ عليها أبناؤنا كبارًا وصغارًا، ففي ذهابنا ورجوعنا وخلواتنا، فرص عظيمة لتفعيل عبادة اللسان، فهي لا تكلف شيئًا، ولا تؤخرك عن عمل، ولكن اعلم أن الناس موفق ومحروم.


الوسيلة الحادية والعشرون: سيرد عليكم في هذه العشر جمعتان فاستثمروهما بالتبكير إلى الجمعة، والمكث عصرها في المسجد تالين وداعين وذاكرين، والنساء في البيوت، فإن الجمعة هي تاج الأسبوع.


الوسيلة الثانية والعشرون: من الممكن وضع كل فرد من أفراد الأسرة جدولة عملية وخطة محكمة لاستثمار تلك العشر الفاضلة وهذه الخطة حسب ما يراه مناسبًا له، ومن المقترح النظر في كتب الفضائل، واقتناص الأعمال الممكنة في تنفيذها لهذا الشخص المخطط، وذلك مثل كتاب: (رياض الصالحين والأذكار للنووي، وأيضًا كتاب الرقاق من البخاري ومسلم)، وغير ذلك، وقد يفعل هذا بحرص تام من أدرك فضيلة تلك العشر، واستشعر أنه قد لا يدركها عامًا آخر، فبالإدراك والاستشعار المذكورين سيكون له مع تلك العشر الفاضلة خطة محكمة في طاعة الله تبارك وتعالى، والتقرب إليه بشتى أنواع الطاعات، وهي أيام محدودة معدودة، فبلوغهم جميعًا لها ربما أنه أفضل من بلوغهم لشهر رمضان المبارك، فاحرصوا يرحمكم الله على استثمارها بشتى الوسائل، وتداولوا هذا الأمر بينكم وتناقشوا فيه.


الوسيلة الثالثة والعشرون: ما تفعله في تلك عشر الفاضلة أنت وأسرتك الكريمة، حاولوا إثباته في حياتكم؛ لتكسبوا الخير من أوسع أبوابه ولو نسبيًّا أو أحيانًا، فإن الخير مضاعف.


الوسيلة الرابعة والعشرون: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام)؛ فاجعلوا هذا الحديث مصاحبًا لأذهانكم في حلكم وترحالكم، فهو حافز ومشجع ومذكِّر.


الوسيلة الخامسة والعشرون: جميل أن يضع الوالدان أو أحدهما خلال هذه العشر الفاضلة في كل يوم سؤالًا تربويًّا لأولادهم، وفي جلسة يومية خفيفة يتم مناقشة السؤال والجواب الصحيح وبيانه للأولاد، وامتثاله واقعًا عمليًّا.


فهذه خمس وعشرون وسيلة من وسائل استثمار تلك العشر الفاضلة، كم هو جميل استحضارها وتفعيلها على أرض الواقع العملي للأسرة! وهذا كله يحصل بتوفيق الله تعالى ثم بحماس الأبوين الكريمين وتهيئة الأمر والاستعداد له.


وفَّقنا الله تعالى لاستثمار تلك العشر الفاضلة، وتقبَّل منا جميعًا إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.