رمضان بين حالنا وحالهم

 

د. خالد السبت

 

الخطبة الأولى

دخل عليهم رمضانُ وهم جالسون في مكان يسمُّونه الاستراحة، وبينهم مجموعةُ أوراقٍ، وهي تدور بينهم، ترتفع أصواتُهم بين حينٍ وآخَرَ، ما أن يرضى اثنانِ منهم حتى يسخط الآخران، وبين فينة وأخرى تخرج ألفاظٌ نابيةٌ من بعضهم تجاه بعض، وكان يتصاعد دُخَانٌ كريه الرائحة؛ فاستغرب رمضانُ من حالهم، وقال: لعلِّي دخلتُ المكانَ الخطأ.

 

انطلق رمضانُ إلى مكانٍ آخَرَ، فوجد - وهو يسير بين الطرق - مجموعةً من الشباب مُتحلِّقين، ينفثون بين حين وآخر دُخَانًا كريهَ الرائحة؛ استغرب رمضانُ تلك الرائحة الكريهة؛ لكنَّه عزم على الدخول عليهم، فلا يمكن أن يكون أخطأ الطريق مرتين، دخل فوجدهم يلبسون زيًّا لم يعهده، وعليه كتابات لم يستبِنْ معناها، وبعضها انحسر عن أجسادهم، يحمل كل واحد منهم جهازًا كفيًّا، وينظر إلى صور ومقاطع، فضمَّ حاجبيه حسرةً على المكان والجالسين فيه.

 

ثم سار ورأى من بُعْدٍ شاشةً كبيرةً، وبها أُناسٌ يكرُّون تارةً، ويفرُّون أخرى، استبشر رمضانُ خيرًا وهو يتذكَّر أيامَ والكرِّ والفرِّ، فظنَّ أنه وجَدَ بُغْيته، فأسرع إليها، ووجد أناسًا كثيرين ينظرون لتلك الشاشة وهم بين فرِحٍ ومحزونٍ، وقائمٍ وقاعدٍ، نظر رمضانُ لتلك الشاشة فوجدهم يجرُون وراء قطعة من الجلد، يتقاذفونها بأرْجُلِهم، لم يفهم رمضانُ ذلك الموقف، فسأل أحد الجالسين: ما هذا؟ فقال: هذه بطولة لكرة القدم، لم يفهم رمضانُ بالطبع تلك الأسماء، فسأل: وما هؤلاء؟ فتجاهله المسؤول وهو يُحدِّث نفسَه: مَنْ هذا الجاهل الذي لا يعرف هؤلاء، ولا هذا الحَدَث؟ صمَتَ رمضانُ بُرْهةً، فانسلَّ من بينهم وهو مُثقَل بالحزن، ويكاد الكمد يفتُّ فؤادَه فتًّا.

 

وبينا هو على تلك الحال إذ رأى أنوارًا من بعيد وبناءً ضخمًا كأنه القلعة، فقال في نفسه: لعلِّي أرى هنا ما كنتُ أراه في الزمن السابق، سار وهو مُنهكٌ، فرأى على جدار ما ظنَّه قلعة، وصورًا لنساء ورجال أشباه نساء، حاول رمضان أن يتجاهل تلك الصور وكأنه لم يَرَها، دخل من الباب، فطرق سمعَه ضجيجُ الموسيقا يصُمُّ الآذان، والنساء بين محتشمة وغير محتشمة، والرجال والنساء يتزاحمون على الحوانيت، وقد عَلَتْ الضحكات من بعضهم بلا حياءٍ ولا خجلٍ. فرمى ببصره إلى الأرض؛ لكنه تساءل: ما هذا المكان؟ فسأل أحد المارة، فردَّ المسؤول باستغراب: هذا المول، لم يفهم رمضان بالطبع تلك العبارة، فخرج محزونًا كسيفًا.

 

أيها المؤمنون، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلامُ غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء))؛ رواه مسلم، فطوبى للغرباء الذين عرَفُوا لرمضانَ حقَّه، فقدروه حقَّ تقديره، فهم بين قائم وساجد، وتالٍ وذاكر ﴿يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37].

بارك الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

أيها المؤمنون، يا لخسارتنا إنْ تصرَّمَتْ أيامُ هذا الشهر ولم يُغفَر لنا! ما أعظم حسرتنا إن تقضَّتْ أيامُه ونحن غافلون عن عطايا الرحمن وهباته! يا للهفتنا إنْ انسلخَتْ ساعاتُه ولم نرْقَ سُلَّمَ التقوى! يا لعظيم لوعتنا إنْ خرجنا منه مثلَ ما دخلنا فيه!

 

أيها المسلمون، إن الفُرَص لا تنتظر الكُسالى؛ بل يستغلُّها الأذكياء، فيفوزون بها حين يقرع أولئك سِنَّ الندم، إنكم أيها المؤمنون تعبُرون القنطرة الرمضانيَّة، فهنيئًا لمن غسل فيها ذنوبه، وتخلَّص من خطاياه! إياكم أيها المباركون أن يستولي عليكم الوهنُ، ويستحكم عليكم الكسل، فتتعاملوا هذا الشهر مثل بقية العام، كلَّا كلَّا، لا تستسلموا لدعاوى النفس الأمَّارة بالسوء، ولا لوسوسة شياطين الإنس والجن، فتخسروا خُسرانًا مبينًا.

 

لقد كان للسلف شأنٌ مع العبادة غير شأنِنا وحالٌ غير حالِنا؛ يقول أبو الدرداء رحمه الله: "لقد كنتُ أقرأ بهم ربع القرآن في كل ليلة، فإذا أصبحتُ قال بعضهم: لقد خفَّفْتَ بنا الليلة"، وكان أبو رجاء العطاردي يختم بهم في رمضان في كل عشرة أيام ختمة، وأمَّا عروة بن الزبير فكان يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف في النهار، ثم يقوم به في الليل، لقد كان يقرأ بمعدل نصف القرآن في يومه وليلته، وما تركه إلا ليلة واحدة حينما قُطِعَتْ رِجْلُه في سفرته المعروفة حينما ذهب إلى الشام.

 

وهذا طلق بن حبيب كان إذا افتتح سورة البقرة في الصلاة لا يركع حتى يبلغ العنكبوت – أي: أكثر من نصف القرآن - وكان يقول: أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي. وهذه صبية كانت ترى منصور بن المعتمر يُصلي على سطحه تظنُّه في الليل خشبةً، أو عمودًا من طول قيامه، فلما مات فُقِدَ، فقالت لأبيها: أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمةً؟ قال: يا بنية، ذاك منصور كان يقوم الليل.

 

ووكيع بن الجراح كان لا ينام حتى يقرأ جزأه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر. وهذا شعبة بن الحجاج جبلٌ في حفظ السنة ما ركع قطُّ إلَّا ظنَّ الناظرُ إليه أنه نسي من طول الركوع، ولا قعد بين السجدتين إلا ظنَّ الناظر إليه أنه نسي، ويقول بعض من رأى قيامه: كان يقوم يُصلي حتى تتورَّم قَدَماهُ.

 

وهذا ابن عباس صحبه ابن أبي مليكة من مكة إلى المدينة، فكان يُصلِّي ركعتين على الراحلة، فإذا نزل قام شطر الليل، ويُرتِّل القرآن حرفًا حرفًا، ويُكثِر في ذلك من النشيج والنحيب. وكان ابن عمر إذا قرأ قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الحديد: 16] يبكي، ويغلبه البكاء، وكان لربما شرب ماءً باردًا فبكى، واشتدَّ بكاؤه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ذكرْتُ آيةً في كتاب الله: ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [سبأ: 54]، فعرَفتُ أن أهل النار لا يشتهون شيئًا كما يشتهون الماء البارد، وقد ذكر الله قولهم: ﴿ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 50].

 

أيها المؤمنون، هذا حالهم، وذاك حالنا.

لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ

 

البون شاسع، والمفازة كأداء، والله المستعان، هنيئًا لمن عزم على التغيير، وأخذ بزمام المبادرة، وجعل من هذا الشهر نقطةَ انطلاق للمعالي؛ بل الإنسان على نفسه بصيرة، وكل ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون، وخير المذنبين المستغفرون.

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.