بعث الرجيع

 بعث الرجيع

كان ذلك في صفر من السنة الرابعة من الهجرة، وسبب هذا البعث أن بني لحيان من هُذيل مشوا إلى عَضَلٍ والقَارَةِ - وهما قبيلتان من بني الهَوْن - على أن يكلموا رسول الله أن يخرج إليهم نفرًا من أصحابه؛ فقدم نفر منهم فقالوا: "يا رسول الله، إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك؛ يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام". فلما جاء هؤلاء النفر يطلبون من يفقههم، بعث الرسول صلى الله عليه وسلممعهم عشرة من أصحابه، وأَمَّر عليهم عاصم بن ثابت.
خرج هؤلاء حتى أتوا الرجيع فغدروا بهم، واستصرخوا عليهم هذيلاً ليعينوهم على قتلهم، فلم يَرُع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، فأخذ عاصم ومن معه أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: "إنا والله لا نريد قتلكم، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم". وقالوا ذلك لأنهم يريدون أن يُسلِموهم لكفار قريش، ويُصيبوا بذلك مالاً؛ لعلمهم أنه لا شيء أحب إلى قريش من أن يأتوا بأحدٍ من أصحاب محمد r يمثِّلون به، ويقتلونه بمن قُتل منهم ببدر وأُحد، فأبوا أن يقبلوا منهم.
فرفض عاصم بن ثابت ذلك، وقال: "والله لا نقبل من مشرك عهدًا". وقاتلوا حتى قتلوا، فقتل سبعة من صحابة رسول الله؛ منهم عاصم بن ثابت، وأما زيد بن الدَّثِنَة وخُبَيب بن عديّ وعبد الله بن طارق فلانُوا ورقُّوا ورغبوا في الحياة فأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظَّهْران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران. وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما، فابتاع خبيبًا حُجَيْرُ بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان حجير أخًا للحارث بن عامر لأمِّه ليقتله بأبيه.
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وكان شراؤهما في ذي القعدة، فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرم فقتلوا زيدًا، وأما خبيب فمكث أسيرًا حتى خرجت الأشهر الحرم ثم أجمعوا على قتله، وكانوا في أول الأمر أساءوا إليه في حبسه، فقال لهم: "ما يصنع القوم الكرام هكذا بأسيرهم". فأحسنوا إليه بعد ذلك وجعلوه عند امرأة تحرسه وهي ماوِيَّة مولاة حجير، وقد قالت ماوية: "كان خبيب يتهجد بالقرآن، فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه". فقلت له: "هل لك من حاجة؟" قال: "لا، إلا أن تسقيني العذب، ولا تطعميني ما ذُبح على النصب، وتُخبِريني إذا أرادوا قتلي". فلما أرادوا ذلك أخبرته، فوالله ما اكترث بذلك.
ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه، قال: دعوني أُصلِّي ركعتين. فتركوه فصلى سجدتين، فجَرَتْ سُنَّة لمن قُتل صَبْرًا أن يصلي ركعتين. ثم قال خبيب: لولا أن تحسبوا أن ما بي جزعٌ لزدتُ. ثم قال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبقِ منهم أحدًا، ثم أنشأ يقول:
ولستُ أبالي حين أقتـل مسلمًا *** علـى أي جنـبٍ كـان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشــأ *** يُبارك على أوصـال شِلْوٍ مُمَــــــزَّعِ.
ثم قام إليه أبو سِرْوعة عُقبة بن الحارث فقتله.
وعن عروة بن الزبيرقال: "لما أرادوا قتل خبيب ووضعوا فيه السلاح والرماح والحراب، وهو مصلوب نادوه وناشدوه، أتحب أن محمدًا مكانك؟ قال: لا والله، ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه".
إنه الحب الكبير لرسول اللهالذي كان يملأ قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فهو لا يريد أن يكون مُعافًى في أهله وولده ورسول اللهيشاكُ بشوكة.
أما زيد بن الدثنة فقالوا له أيضًا عند قتله فأجابهم بمثل ذلك، فقال أبو سفيان: "ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحُبِّ أصحاب محمد محمدًا". وقد قتلَ زيدًا نسطاسُ.
وقد كانت هذيل حين قُتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه إلى سُلافة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أُحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربَنَّ في قِحْفِهِ الخمر، فمنعته الدَّبْر، فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه، فنأخذه. فبعث الله سيلاً، ولم يكن هناك سحاب في السماء كما يقول الرواة، فاحتمل عاصمًا إلى حيث لا يعلم أحد، وكان عاصم قد أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشركٌ أبدًا، ولا يمس مشركًا أبدًا!!
فكان عمر بن الخطابيقول حين بلغه أن الدَّبْر منعته: "يحفظ الله العبد المؤمن! كان عاصم نذر أن لا يمسه مشركٌ، ولا يمس مشركًا أبدًا في حياته؛ فمنعه الله بعد وفاته كما امْتَنَع منه في حياته".
عشرة من خيار الصحابة يموتون في وقت واحد، إنه لموقف صعب! وفي الوقت نفسه الذي حدث فيه بعث الرجيع حدث حادث أليم على المسلمين، وهو حادث بئر معونة.
 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.