كيف يختم الخطيب خطبته ببراعة؟

 شريف عبدالعزيز

 العبرة بالخواتيم ":
ليس مجرد حديث نبوي، بل قاعدة كلية من أهم قواعد الحياة. هذه القاعدة الذهبية تشمل كل مناحي الحياة وكل الأنشطة البشرية من أمور الدنيا والدين، حتى إن عقلاء الغرب ومفكريهم وأدباءهم قد قدروا هذه القاعدة وعرفوا مكانتهم، فهذا هو عين الأدب الانجليزي ويليم شكسبير يختار يؤلف رواية من أهم رواياته ويختار لها عنواناً " العبرة بالخواتيم ".
فالخاتمة عنوان النهاية، ومفتاح المصير، وبوصلة المستقر، بين جنة ونار، وربح وخسارة، وقبول ورفض، وإعجاب وكره، ومحبة وعداوة، وغنى وفقر، ونجاح وفشل…إلخ إلى آخر الأنشطة البشرية وعلاقاتها المتشابكة.
ومن الأمور الهامة التي تتضح فيها قاعدة " العبرة بالخواتيم ": الخطابة. حيث تتألَّف الخطبة – من حيث إطارُها العام وهيكلها- من مقدمة وخاتمة، ومن موضوع يربط بين مقدمة الخطبة وخاتمتها، ويكون الموضوع هو حلقة الوصل بينهما، وقد تكلمنا في مرة فائتة عن براعة الاستهلال وفن البدايات الناجحة، واليوم سنتكلم عن فن ختم الخطبة وحسن الانتهاء.
تعريف خاتمة الخطبة:
هي آخر ما ينهي الخطيب خطبته، ويختم كلامه، ويتحقق به تمام الموضوع وكماله، ويسمى ذلك "حسن الانتهاء"، كما أن براعة الاستهلال تسمى حسن المطلع "وكما يجب التألُّق في المطلع، تجب البراعة في المقطع؛ إذ هو الأثر الباقي في نفوس المستمعين بعد الإتمام، وآخر ما يتردد صداه في قلوبهم، وبه تتم الفائدة.
وكان خطباء السلف يحرصون على ختم خطبهم بعبارات موجزة رائعة يتفننون بها بأسلوب أدبي رائع، فيعرف الناس أنهم قد شارفوا على الانتهاء من حديثهم، وقد كان الخليفة الراشد أبو بكر إذا تكلم به عرف أنه قد فرغ من خطبته: "اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك"، أمَّا عمر بن الخطاب فكان أكثر خواتيم خطبه: "اللهم لا تدعني في غمرة، ولا تأخذني على غِرَّة، ولا تجعلني من الغافلين"، وكما كان الخليفة عبد الملك بن مروان يقول في آخر خطبته: "اللهم إن ذنوبي قد عظمت، وجلَّت أن تحصى، وهي صغيرةٌ في جنب عفوك، فاعفُ عني".
القرآن وخواتيم الآيات:
خواتيم آي القرآن بها الكثير من الأسرار والمعارف واللطائف التي لا يعرف معانيها ويقف على مراميها إلا ذوي البصائر النيَّرة والقلوب التقية. فختم الآيات علم فريد من دقائق علوم التفسير، وفيه من الدروس والعبر ما يفتح آفاقاً واسعةً لكل داعية وخطيب لتوظيف الابداع اللغوي القرآني في ختم خطبته بما يحقق أهدافها ويلقي عليها رونقاً وبراعة. وتنقسم خواتيم الآيات بما يحقق مراد المولى -جل وعلا- إلى عدة أقسام، من أبرزها ختم الآيات بالأسماء والصفات لتعليل الأحكام.
 فقد وردت بذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الأحزاب: 1]، والمعنى: أنه: لو علم الله -عز وجل- أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه؛ لأنه حكيم، فجعل الختم تعليلاً للحكم الشرعي، وهو هنا النهي. وكذلك قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة: 38]، فهو (عَزِيزٌ حَكِيمٌ)؛ ولذلك شرع هذه الشرائعَ المنطوية على فنون الحِكَم والمصالح، فجعل الختم تعليلاً للتشريع، وهو هنا الأمر. وكقوله تعالى:( َإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 5]، فقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل للأمر؛ أي: فخلوهم؛ لأن اللهَ غفور رحيم، ومثله قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29].
وقد يتعلق بالأحكام تعليل الجزاء: فمثلاً جاء في تعليل الثواب قوله تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 34]؛ فإنهم لما صاروا إلى كرامته بمغفرته ذنوبهم، وشكره إحسانَهم، قالوا (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)، وفي هذا معنى التعليل؛ أي: بمغفرته وشكره وصلنا إلى دار كرامته.
وجاء في تعليل العقاب قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 20]، فالمعنى: لأن اللهَ على كل شيء قدير؛ فالذهاب بالسمع والأبصار لا يتحقق إلا مع القدرة على ذلك.
كما جاء في تعليل أفعال الله تعالى التي مرجعها مشيئته: قوله تعالى في توبته على آدمَ -عليه السلام-: (فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 37]، والمعنى: لأنه هو التواب الرحيم غافرُ الذنب وقابل التَّوْب. وقوله تعالى في إحيائه الموتى: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم: 50]، فقوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): تعليل لعظم قدرته، وأنه قادرٌ على إحياء الموتى، وعلى فِعل كلِّ شيء أراده. وقوله في تأخير عقوبته: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: 6]، وذكَر ذلك بعد افتراء الكفَّار الذي يوجب العقاب، فهو: تعليل لِما هو مُشاهَد من تأخير عقوبتهم مع استيجابِهم إيَّاها؛ أي: فهو يمهل ولا يعاجل؛ لمغفرته ورحمته. وقال في تأليفه القلوب (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63]، فبهذا الختم: علَّل نفوذَ فعله وأمره فيه بقوله: (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي: لأنه لولا عزته التي تغلب كل شيء ولا يغلبها شيء، وحكمته التي يتقن بها ما أراد، بحيث لا يمكن لأحد أن يغير شيئًا منه لما تألفوا.
أهمية حسن الختام:
1-الإقناع: فمن أهم أهداف الخاتمة الناجحة؛ إقناع المدعوين، وتبصيرهم وتنويرهم، وهو إنما يتم بإجمال ما ذكر من الموضوع، واختصار ما ذكر بأحسن لفظ، وأوجز بيان وأخصره، ولو جعلت الخطبة مبتورةً عن خاتمتها لفات ذلك المقصد العظيم، مع ما يترتب عليه من سلبيات، ومخالفة السنة. فختام الخطبة هو خلاصتها وعصيرها والكبسولة التي تهم قطاعات كثيرة من جماهير المخاطبين الذين عادة ما يفقدون تركيزهم بعد وقت قصير من بداية الخطبة، ثم يستعيدونه في الختام، ولو أحسن الخطيب في الاستهلال وأجاد في الاستدلال، ثم افتقد إلى براعة الختام، كمن أهدر كل جهوده وبدد كل طاقاته، كالمنبت الذي لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى.
2-تقوية الرغبة، وشحذ الهمَّة من جديد، بما أوصى به الخطيب من وصايا في موضوع الخطبة، وهو يتطلَّب بذل الوسع في إلهاب الحماس، وتحريك العواطف، بنفس الاندفاع والإثارة في بداية الخطبة الأولى؛ لئلاَّ تذهب حلاوة الموضوع وحرارته من نفوس السامعين، وليس من السنة أن تكون الخطبة الثانية مقتصرةً على الدعاء خالية من الوعظ، بل ينبغي أن يكون لها صلة بالخطبة الأولى، أو فيها استكمال للنقاط التي طرحت فيها، أو استكمال للموضوع بنقاط وأفكار جديدة.
عناصر الختام الناجح:
1-التلخيص: بحيث تكون ملخصاً لما جاء في موضوع الخطبة؛ في عبارات وجيزة، مسبوكة برائع البيان، ليخرج السامع وقد وضحت الفكرة لديه، وتبيَّن المطلوب عنده، ولكن يراعى في التلخيص أهم ما جاء فيها من بيانات، ويظهرها في صورة جديدة وأسلوب رشيق؛ لئلا تذهب حلاوتها، وحتى لا تكون إعادة أدلتها من باب التكرار الممل المعيب، وهو مما يمله السامعون عادة. فالسامعون يريدون الخلاصة، ولا يعلق بآذانهم إلا العبارات الأخيرة.
2-التوافق: فلا ينبغي للخاتمة أن تحتوي على أفكار وأطروحات جديدة تخالف مضمون الخطبة الأولى؛ لأنها حينئذ ليست بخاتمة، بل إنشاء جديد، وهو من شأنه أن يؤدي إلى ضياع الفكرة وتشتت الذهن. وذلك من آفات الخطب المعاصرة حيث تجدها تحتوي على مواضيع شتى يتوه السامعون في ضبطها وفهم المراد منها.
3-التلائم الزمني: بحيث أن تكون قصيرةً بالنسبة لزمن الخطبة الأولى، ولأن الخاتمة تتضمَّن أمورًا منها: التلخيص، والوصية، وعبارة الختام، والدعاء لعموم المسلمين، وجعلها أطول من الأولى يفقد الخطبة حلاوتها وتأثيرها بالمرة، حتى ولو كانت الخطبة الأولى في غاية البيان.
4-الوضوح: فالغموض هو آفة الختام الرديء، فالخاتمة لابد أن تكون في منتهى الوضوح والقوة؛ لأن الخلل أو الزلل يربك الخطيب ويضيع جهوده، ويؤدي إلى نسيان موضوع الخطبة بالمرة.
5-التوطئة: وذلك إذا كان موضوع الخطبة مجزَّئًا إلى أجزاء، فيمكن للخطيب بما لديه من مهاراتٍ أن يلخِّصَ في الخطبة الثانية ما في القصة من عِبَر وعظات إلى نقاط، ويَعِدَ الجمهور بتكملة الموضوع في الجمعة القادمة، كأن يقول: وللحديث صلةٌ أو بقية؛ ليبقى المستمع على تشوُّق وترقُّب للموضوع، أو القصة.
6-التحكم الصوتي: فيجب أن تكون نبرات صوت الخطيب ملائمةً للحدث وأجزاء الخطبة. ففي مقدمة الخطبة يستوجب من الخطيب أن يبدأها بقراءة كالقراءة والتجويد تمامًا، فإذا وصل إلى موضوع الخطبة رفع من صوته، وما بين مقدمة الخطبة وخاتمتها يكون صوته كالرسم البياني، يرفع ويخفض بحسب ما يلائم الموضوع، ومن الأخطاء في هذا الجانب أن يبدأ بعض الخطباء بصوت مرتفع، فلا يصل إلى الموضوع إلا وهو متعبٌ منهك القوى، فيفقد كثيرًا من قدراته الصوتية. ويمكن للخطيب أن يهيئ الجمهور للخاتمة بعبارات يفهم منها أن الخطبة على وشك الانتهاء والختام، وهو ما يعطي تأكيدا لفظيا للمستمع، ويجذب انتباهه لسماع خلاصة الخطبة.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.