حقوق الإنسان في خطبة الوداع

تختلف نظرة الإسلام إلى الإنسان عن نظرة الفلسفات البشرية والمناهج الوضعية والشرائع المحرفة؛ حيث يعتبره الإسلام المخلوق المستخلف في أرض الله، وأنه مزيج من الروح والجسد، وبحاجة ماسّة لتلبية متطلبات روحه ونفسه وجسمه وعقله وقلبه معًا، دون أن يطغى جانب منه على جانب، وقد كرم الله الإنسان وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.

والعالم اليوم فى مسيس الحاجة إلى معرفة تكريم الإسلام لهذا الإنسان، ومدى الحقوق التي منحها إياه، وكيف أنه حرّم دمه وماله وعرضه، وجعل ذلك أشد حرمة عند الله من حرمة الكعبة، لا سيما في زمن أُهدرت فيه هذه الحقوق، وداستْها السياساتُ المحلية والعالمية، وهوت بها عن مكانتها فى مكان سحيق.

ومِن رفْع الإسلام لشأن هذه النفس أنه جعل قتل نفس واحدة والاعتداء عليها بمثابة قتل الناس جميعًا، كما جعل إنقاذها وإحياءها بمثابة إحياء الناس جميعًا، وحدَّ لقاتلها حدًا جعل منه للناس حياة أيَّ حياة، فقال جل من قائل: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].

وقد تحدث الإسلام عن حقوق الإنسان، ووضَع أسسها، وأرسى دعائمها منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، ومن المؤسف حقًا في هذا الصدد أننا - في أكثر الأحيان - لا نتحدث عن أمر من أمور الإسلام إلا من جهة الدفاع ورد الشبهات عنه، كأنما الإسلام في قفص الاتهام، ونحن ندافع عنه، ونثبت براءته.

في حين أننا لا نعرض ديننا ومبادئه السمحة ومقاصده الباهرة بطريق المبادأة والمبادرة التي نملك من إمكاناتها الكثير، والتي يتمتع الإسلام منها بأوفر نصيب، دون أن يكون حديثنا رد فعل، أو دفاعًا عن الإسلام "المتَّهم".

وإذا تأملنا خطبة الوداع التي بين أيدينا، ودققنا فيها النظر، وجدنا كل ما يتشدق به الشرق والغرب من نظريات وأفكار موجودًا في هذه الكلمات المعدودة، بل إننا نجد ما هو أكثر منه وأهم، ومن ذلك:

أولا: حق الإنسان في الأمن على ماله ودمه وعرضه:

الحقيقة أن الإسلام لم يرتب حرمة على شيء كما رتبها على دم الإنسان وعرضه وماله، ولا أدل على ذلك من أن علماء الإسلام جعلوا هذه الأمور من كليات مقاصد الشريعة الإسلامية، بل جعلوها أهم المقاصد حين أدرجوها في رتبة الضروريات، وهو ما عرف في تراثنا الأصولي باسم: "الكليات الخمسة"، أو الستة على خلافٍ.

فليس لأحد كائنا من كان أن يعتدي على إنسان ما دام لم يأت من الأفعال والأقوال ما يستوجب ذلك كما قرره قانون السماء.

وقد توعد القرآن الكريم من يعتدي على النفس البشرية بأشد الوعيد حين قال: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93].

قال الإمام ابن كثير: «وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} الآية، وقال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا}... الآية([1]).

والأحاديث في تحريم القتل وانتهاك حرمة المسلم كثيرة جدا؛ فمن ذلك:

ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء"([2]).

وفى حديث آخر يوضح النبي ـ عليه السلام ـ أن كل ذنب يرتكبه الإنسان يمكن التحلل منه، ولا يبعده ذلك الذنب عن حظيرة الإسلام إلا إذا تخضبت يده بدم حرام، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال المؤمن مُعنقًا صالحًا ما لم يصب دمًا حرامًا، فإذا أصاب دمًا حرامًا بلح"([3]).

وفى حديث آخر يبرز مدى حرمة هذا الدم، حتى لو كان زوال الدنيا كلها في كفة، وزوال نفس مسلمة بغير حق في كفة لرجحت كفة النفس، فقال عليه الصلاة والسلام: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم"([4]).

وفى الحديث الآخر يتوعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الفاعل حتى لو كان أهل الأرض جميعًا، فهوانهم على الله يسير ما داموا أصابوا هذا الدم الحرام، فقال: "لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار"([5]).

وفى كلام آخر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوسع دائرة التأثيم لتشمل كل من يشارك في هذه الجريمة حتى لو بكلمة أو إشارة أو غير ذلك، فقال: "من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله"([6]).

وقد كان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدًا، ولا شك أن هذا من آية النساء السابقة، فماذا بعد جهنم والخلود فيها وغضبِ الله عليه ولعْنه إياه والعذاب العظيم الذي ينتظره؟!

بل إن هناك ما هو أعظم من ذلك، وهو أن الإسلام حمى الإنسان من نفسه فحرم عليه الانتحار، وأن يلقى بيده إلى التهلكة، فقال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. وقال: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].

وأمر المسلم ألا يهمل بدنه، وأن له عليه حقًا من الراحة والمطعم والملبس، وينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، وهذا ما قاله سلمان لأبى الدرداء ـ رضي الله عنهما ـ وصدَّقه النبي ـ عليه السلام ـ فقد: "آخى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين سلمان وأبى الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصلَّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكر ذلك له، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "صدق سلمان"([7]).

والإسلام الذي جعل القصاص لقاتل النفس عمدًا، شرع حد السرقة بشروطه لمن تعدى وسرق مال أخيه الإنسان، وحافظ على المال من تبديده ومصادرته بالباطل، فقال القرآن: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. وقال متوعدا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29-30].

وحافظ الإسلام على عرضه، وشدد النكير على من يستبيحه، وكفى بما فى سورة النور وسورة الحجرات حجة ودليلاً، وما جاء فيهما من حدود وآداب تحفظ على الإنسان عرضه، وتجعله يعيش آمنًا مطمئنًا.

وذلك ما أعلنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مطلع خطبته: "أيها الناس: اسمعوا قولي، فإني لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا..".

ثانيًا: حق الإنسان في أن تقوم حياته على العدل:

ولقد قامت السماوات والأرض على العدل والحق، وهو سمة الإسلام الأولى، واسم من أسماء الله الحسنى، ولم يرسل الله الرسل، أو ينزل الكتب إلا من أجله، فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..} [الحديد: 25]. وقال: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90].

وشدد على المعاملة في أموال اليتامى وشئونهم أن تكون بالقسط، فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام: 152]، وقال: {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}. [النساء: 127].

وأكد على أن العدل أمر مقرر في الشهادة أيضًا، حتى لو كان بينك وبين المشهود له شحناء أو شنآن، أو كان المشهود عليه نفسك، أو الوالدين والأقربين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} [النساء: 135].

وأمر الله رسوله أن يحكم بالقسط بين أهل الكتاب: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]. وقال مخاطبا جماعة المؤمنين: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].

وعن أبى هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ إمام عادل..." الحديث([8]).

وكما أمر الله بالعدل في كل شأن من شئون الحياة، فقد حرم ـ سبحانه ـ الظلم بكل صوره، وبلغ من فداحته أن الله ـ تعالى ـ لم يحرمه على عباده فقط، لكنه حرمه على نفسه، مع أن كل شيء مِلْكٌ له سبحانه، ففي أجل حديث لأهل الشام عن أبى ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما روى عن الله ـ تبارك وتعالى ـ أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا..." الحديث([9]).

وهذا ما خاطب به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمة في حجة الوداع آمرًا بأداء الأمانة، محذرًا من كل صور الظلم حين قال: "وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فلْيؤدِّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربًا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوعٌ كله".

ثالثًا: حق الرجل على المرأة وحق المرأة على الرجل:

وهذه هي العلاقة الأولى التي ترسى دعائم أول لبنة في بناء المجتمع، فإن كان الأساس قويًا متينًا على تقوى من الله ورضوان فهو الفلاح والعزة للمجتمع المسلم، أما إن كان على شفا جرف هَارٍ فالويل للمجتمع والضنك والذل في الدنيا، والعذاب والهلاك في الآخرة، يوم ينهار هذا البنيان بصاحبه في نار جهنم والعياذ بالله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَيَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109].

ولا شك أن عدم التأسيس على تقوى من الله ورضوان ظلمٌ بيِّنٌ كما ختمت الآية، فهو قد ظلم نفسه، وظلم أولاده، وظلم زوجته، وظلم مجتمعه، وظلم دنياه كما ظلم آخرته.

ولقد لخص القرآن دستور العلاقة بين الزوجين أجمل تلخيص حين قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ..} [البقرة: 228].

قال الإمام القرطبي: "أي لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن؛ ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها، فتستوجب حقها الذي لها عليّ؛ لأن الله تعالى قال: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}؛ أي زينة من غير مأثم، وعنه أيضًا: أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة، فيما أوجبه عليهن لأزواجهن، وقيل: إن لهن على أزواجهن ترك مضارتهن، كما كان ذلك عليهن لأزواجهن"([10]).

{وللرجال عليهن درجة} قال ابن كثير: "أي في الفضيلة في الخَلق والخُلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة"([11]).

وقد قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ...} [النساء: 34].

ويحذر الله تعالى في آخر هذه الآية من العبث بمقدرات هذه الأسرة أو "المجتمع الصغير"، ومخالفة أوامر الله فيها وتشريعاته لها في تذييل الآية: "والله عزيز حكيم". أي عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، حكيم في أمره وشرعه وقدره، كما قال ابن كثير.

وما أحسن ما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خطبته الجامعة التي أسمعها لعشرات الآلاف، في أمر النساء بالذات، فقال: "أما بعد أيها الناس: فإن لكم على نسائكم حقًّا، ولهن عليكم حقًّا، لكم عليهن ألا يُوطئن فرُشكم أحدًا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضربًا غير مبرِّح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عندكم عوانٍ، لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت..".

رابعاً: حق المسلم في أن يُحْكم بقانون الإسلام:

وهو ما قاله النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في خطبته الكريمة: "وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدى أبدًا، أمرًا بينًا، كتاب الله وسنة نبيه".

وما أشقى الناس اليوم وأضعفهم وأذلهم بسبب عدم اعتصامهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ..!

إن عدم الاعتصام بهذين الأصلين يؤدى حتما إلى ضلال، كما يفهم بالمخالفة من قول النبي: "لن تضلوا بعدى أبدًا". وقد يكون الضلال هنا ضلالاً سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو تنظيميًا أو أمنيًا أو ثقافيًا وفكريًا أو تعليميًا وتربويًا ... الخ، كل هذه أنواع من الضلال أوجزها الرسول في هذه الكلمات الثلاث.

والأمة معرضة بالفعل ـ كما هو مشاهَد ـ للضلال في أي مجال من هذه المجالات إن لم تحكِّم شرع الله فيه، وقد وصف الله تعالى من لم يحْكم بشرعه بالكفر والفسق والظلم، ولا غرو فقد كفرَ قانونَ الله، وبذلك يكون خرج أو فسق عن منهج الله، والنتيجة الحتمية لذلك كله هي الظلم البين، سواء أكان لنفسه أو لمجتمعه.

إن الأمة الإسلامية ينبغي أن تنطلق من مصدرين أساسين عليهما مناط التشريع، وهما: الكتاب والسنة، فمن أخذ بهما فإنه لن يضل ولن يهزم أبدًا..!

ومن هنا فإن أحدًا من الخلق لا يجوز له مهما كان قانونه، ومهما كانت قوته أن يحول بين الأمة وبين كتاب الله الذي هو روحها وحاديها إلى الصراط المستقيم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الذي لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} [الشورى: 52-53].

خامسًا: حق المسلم على أخيه المسلم:

لقد أعلن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الحق على الدنيا فقال: "أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمُنَّ أن كلَّ مسلم أخٌ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُنَّ أنفسَكم، اللهم هل بلغت؟".

فقرر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الرابطة التي كونت هذه الأخوة هي الإسلام والإيمان، فالمؤمنون إنما هم إخوة كما قال القرآن، فلا أخوّة بلا إيمان، ولا إيمان بدون أخوة.

وهذه هي رابطة الأهلية الحقيقية ومناطها، والتي قررها الله تعالى مع نبيه نوح ـ عليه السلام ـ حين قال له: {إن ابني من أهلي}، فصحح الله له مفهوم الأهلية فقال: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح}.

ولا يكوِّن هذه الرابطة سوى الإيمان بالله تعالى، والعمل الخالص لوجهه، ولو جمعتَ كل أموال الدنيا لما استطعت تكوينها من دون الإيمان بالله والعمل الصالح الخالص له: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].

إن هذه الرابطة إذا قويت في مجتمع من المجتمعات فلن تجد في هذا المجتمع فقيرًا أو محتاجًا أو مظلومًا، ولما وجدنا تناحرًا ولا تفرقًا، ولا حسدًا وحقدًا بين المسلمين؛ لأن هذه الرابطة القوية تحول بين المؤمن وبين هذا كله بما تحمله في طياتها من إيمان بالله واليوم الآخر، وعمل صالح، وقلب أوَّاهٍ منيب، يحب الخير للناس، ولا يتمنى لهم الخطأ أو الشر والعثار.

وحيث بلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الحقوق والواجبات في حشود بلغت عشرات الآلاف وجب على هذه الجماهير المؤمنة أن تحمل هذا الخير للأجيال من بعدها لتتواصل المسيرة، ويعم نفع الغير وعمل الخير؛ ولهذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول بصوت مرتفع: "اللهم هل بلغت"، فتجيبه الجماهير: "اللهم نعم"، فيرفع يديه لرب السماء قائلاً: "اللهم اشهد".

 


وبعــد:

ما أجدر الدنيا في هذه الأيام أن تقف أمام هذا الهدى النبوي العظيم الذي جمع في كلماته القليلة علاقاتٍ متنوعةً، وبين حقوقًا كثيرة، وأمر بواجبات عديدة.

هل ترك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أنواع العلاقات والحقوق شيئا؟!

ـ لقد ذكر علاقة المسلم بنفسه: عندما حذر من الشيطان، وأوصانا بمجاهدته.

ـ وذكر علاقة المسلم بربه: عندما تحدث عن لقائنا بالله وسؤاله لنا، وحين أمر المسلمين أن يعتصموا بكتابه وسنة نبيه.

ـ وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الصغير "الأسرة": عندما ذكر حقوق النساء، وأوصى بهن خيرًا.

ـ وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الكبير: عندما قرر حرمة الدماء والأموال والأعراض، وأمر بأداء الأمانة.

ـ وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الأكبر: وعندما ذكر الأخوة التي تنتظمها العقيدة؛ لتكوِّن الرابطة العليا في الأمة.

وأرسى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك أسس التعامل الإسلامي في كثير من المجالات، مثل:

ـ المجال الاجتماعي، بهذه العلاقات المختلفة.

ـ والمجال الاقتصادي حينما حرم الربا.

ـ والمجال السياسي عندما أمر بالاعتصام بالكتاب والسنة.

ـ والمجال الأمني عندما حرم الدماء والأموال والأعراض.

فلننظر متأملين كيف استوعب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل هذه المجالات وتلك الأنواع من العلاقات، وهذه الحقوق والواجبات في كلمات جامعة مختصرة مركز شاملة، وهو ما يؤكد أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا.


([1]) تفسير القرآن العظيم: 1/536. دار الفكر. بيروت. 1401هـ.

([2]) صحيح البخاري: كتاب الديات. باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}، وكِتَاب الرِّقَاق.ِ باب الْقِصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وصحيح مسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات. باب المجازاة بالدماء في الآخرة، وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة.

([3]) سنن أبى داود: كتاب الفتن والملاحم. باب في تعظيم قتل المؤمن، والمُعْنق: هو طويل العنق، خفيف الظهر، سريع السير، وهو كناية عن القوة والعزة والسرعة وعدم الإثم الذي لا يثقله في السير، وبَلَّح الرجل إذا انقطع من الإعياء فلم يقدر أن يتحرّك. وقد أبلحه الشَّر فانقُطِع به، يريد به وُقُوعَه في الهلاك بإصابة الدَّم الحرام. وقد تُخفَّف اللام. انظر لسان العرب: مادة عنق، والنهاية في غريب الحديث والأثر: حرف الباء. باب الباء مع اللام، وحرف العين. باب العين مع النون.

([4]) سنن ابن ماجه: كتاب الديات. باب التغليظ في قتل مسلم ظلما، وسنن الترمذي: أبواب الديات عن رسُولِ اللَّهِ (صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّم). بابُ مَا جَاءَ في تشديدِ قتلِ المؤمنِ.

([5]) سنن الترمذي: أبواب الديات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بابُ الحكمِ في الدِّماءِ.

([6]) سنن ابن ماجه: كتاب الديات. باب التغليظ في قتل مسلم ظلما. وهو حديث ضعيف، وله طرق أخرى ترتفع به إلى درجة الحسن لغيره.

([7]) رواه البخاري بسنده عن عون بن أبى جحيفة عن أبيه: كتاب الصوم. باب: من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له.

 

([8]) رواه البخاري. كتاب: المحاربين من أهل الكفر والردة. باب: فضل من ترك الفواحش.

([9]) صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب. باب تحريم الظلم.

([10]) الجامع لأحكام القرآن: 3/124. تحقيق هشام سمير البخاري. دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية. 1423هـ/ 2003م

([11]) تفسير القرآن العظيم: 1/610. تحقيق: سامي بن محمد سلامة. دار طيبة للنشر والتوزيع. الطبعة الثانية. 1420هـ - 1999م.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.