فراقُ الخُطبة الرابعة

خطبة الجمعة منبرٌ تتلخص فيه المُهمات والمستجدات التي يُعنى بها المسلم، وهي تنفس اصطناعي لمن ضاقت أنفاسه خلال الأسبوع، فيها تجديدٌ للإيمان، وطلبٌ للعلم، وتلبيةٌ للنداء، وليسَ المقصود منها السماع وحسب وإنما الاستماع والإنصات، فهيَ ليست حركاتٌ أو تقليدٌ يقوم به المكلف على هيئةٍ معينة مقتصرة على الظاهر، بل في خفاياها ومقاصدها زيادة للإيمان، وحِكمُ في الحُكم الذي يترك فيها المسلمُ الدنيا ويلبي النداء.
وليس المقصود أن يخرج المسلم كما دخل دون إضافة لمخزونه العلمي والإيماني، فنحن نلوم البعضَ حين نسأله عن ماذا كانت خطبة الجمعة اليوم؟ فيصمت خجلاً، ولا يمتلك جواباً لأنه كان منصرف الذهن مشغولَه، أثناء الخُطبة. ولكننا اليوم لا نلوم من لا يعرف عن ماذا كانت خطبة الجمعة؛ وإنما سنتوجه باللوم لبعض الخطباء، في جزئية معينة من تقصيرهم.
قدّر الله أن أذهب إلى بلد أجنبي وأن أُصلي في مسجد واحد أربعَ جُمَع متتاليات، طبيعة الجمعة في ذلك البلد مختلفة؛ حيث إنهم بعد الأذان الأول يقيمون درساً بالإنكليزية لمدة نصف ساعة تقريباً، ثم تكون الخطبة بالعربية لمدة لا تتجاوز الخمس دقائق فيها اقتباساتً من الدرس الذي سبقها.
ذلك أن لغة البلد هي الإنكليزية، وأغلبية من في المسجد لا يعرفون العربية، ولكن هناك من يعرف العربية، فهؤلاء على ضربين، من يعرف الإنكليزية، ومن لا يعرفها.
فهؤلاء تنعكس عليهم فوائد من سماع الخطبة بالعربية، من جهة سماع آياتٍ، وأحاديثَ، وعباراتٍ جديدة، ووقعها بالعربية ليس كوقعها بأي لغة أخرى.
في أول جمعة صليتها كانت الخطبة حول الصفات الأربع الواجبة في حقّ الرسل: الصدق والأمانة والفطانة والتبليغ، مع كلمات متناثرات لم تتجاوز مجتمعةً الخمس دقائق، الأمر ليس غريباً إلى هنا.
ولكن الغريب أنه وفي الجمعة التي تليها كانت العبارات نفسها والموضوع ذاته! فقلتُ: لعل الشيخ لم يتمكن من التحضير؛ رغم أنه يقرأ الخطبة من ورقة A4 كلّ مرة.
في الجمعة الثالثة كانت الصدمةُ أن كان الموضوع نفسه!
والصدمة الكبرى، والتي كانت فراقاً بيني وبين ذلك المسجد، حين كانت الخطبة الرابعة عن الصفات الأربع الواجبة بحقّ الرسل! لو التمسنا الأعذار، فأين العذر في أن تكرر خطبة بأسطر معدودة أربع مرات متتابعات في مسجد يصلي فيه المئات؟
لقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منبرٌ واحدٌ مصنوعٌ من الخشب، من غير نقوش ولا زخرفات، ولا تقنيات تحسن الصوت وتبعدُ مداه، ولا مكان توضع عليه مقتطفات الخطبة وكوب الماء، ولا تبريد في الصيف، ولا تدفئة بالشتاء، ولا سجاد على درجات المنبر الثلاثة، ولا إضاءة فوقه تنعكس على الخطيب، ومع ذلك بثّ العلم وشدّ الانتباه وأسر القلوب.
واليوم لدى الأمة أكثر من 3 ملايين مسجد حول العالم، بمعنى أن لكل 500 مسلم تقريباً مسجد واحد، ويقدر أن تبلغ في 2019 حوالي 3,85 مليون، وفي كثير منها التقنيات والتجهيزات التي لم تكن في منبر النبوة.
إذاً العبرة ليست في المنبر، وإنما فيمن يعتليه، فكما يقال: الخيل تعرف من خيالها، وكذلك المنبر يُعرف من خطيبه؛ فالمطلوبُ اليوم هو الاقتداء، أيها الخطيب، برسول الله صلى الله عليه وسلم، بصفاته خطيباً، من حيث مراعاة أحوال المخاطبين، وميزات اللفظ والمعنى، والعاطفة، والأسلوب والتأثير والدعوة والتعليم.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.