مواصفات التعبير الخطابي الجيد

يقصد بالتعبير الخطابي: طرق وأساليب الإنشاء والبيان التي يستخدمها الخطيب في بناء خطبته، فما مواصفات التعبير الخطابي الجيد؟

بداية، فالأسلوب الخطابي يعتمد في استمالة الجمهور على أمرين: الإقناع، والإثارة.
فـ(الإقناع): مخاطبة العقل من خلال الشواهد والأدلة، والبراهين العقلية والمنطقية.
و(الإثارة): هي تحريك العواطف والمشاعر وتحفيز الهمم، والنهوض بالعزائم، وذلك بالبيان القوي والأسلوب البليغ.
والخطابة هي مزيج من النوعين، يستهدف إقناع العقل وإثارة العاطفة، لينفذ منهما إلى الإرادة؛ فيدفع بها نحو تغيير السلوك إلى الأفضل والأكمل (أخذًا أو تركًا).
وفيما يتعلق بالمدخل الأول: الإقناع، فالمقصود به استخدام الأدلة والشواهد والبراهين الممكنة؛ لتغيير موقف السامعين تجاه أمر ما، وله طرق وأساليب متنوعة، كما أن هناك أنواعًا مختلفةً من الشواهد والأدلة والبراهين؛ ومنها: الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وآثار وأخبار السلف الصالح، والإجماع والقياس، والمقارنات، والعرف والعادات والذوق العام، والبراهين العقلية والمنطقية، والمصالح المرسلة، والقصص والحكم، والأمثال والأشعار، والإحصائيات، والأبحاث والدراسات، وأقوال المتخصصين والخبراء، وغيرها.
وأما أساليب الإقناع والمنطق، فكثيرة؛ ومنها:
الاستدلال المباشر (بالآية أو الحديث أو غيرهما)، وبيان الحكمة والعلة، والبرهان العقلي والمنطقي، والمقابلة والمقارنة، والقياس والتشبيه، والتفنيد وإزالة الشبهة، وغيرها من أساليب الإقناع.
وعلى الخطيب أن يدعم عناصره ويؤيدها بما يكفي من الأدلة والشواهد والبراهين، ولْيحرِصْ أن تكون هذه الأدلة والشواهد هي:
1/الأنسب للموضوع وأهدافه.
2/الأقوى من حيث الدلالة والصحة.
3/الأقرب والأسهل للفهم والاستيعاب من قِبل السامعين.
4/التنويع قدر الإمكان.
وفيما يتعلق بأساليب الإثارة والبيان:
فهي الأساليب البلاغية التي تجعل الكلام سهلًا واضحًا، وفي نفس الوقت قويًّا مؤثرًا، يهز الوجدان، ويحرك المشاعر، وإن من البيان لَسحرًا.
والكلام البليغ: هو الكلام الذي بلغ الغاية والروعة في التعبير عن المراد، وجمع بين اللفظ الفصيح، والمعنى المليح.
إنه مزيج من المعاني التصويرية الجامعة، والألفاظ الجميلة الرائعة، يُركَّب في قالب بياني محبوك من الأساليب البديعية الماتعة، بعيدًا عن التكلف والأخطاء اللغوية الشائعة.
أما أهم مواصفات التعبير الخطابي الجيد، فكما يلي:
1/الوضوح: فيحرص الخطيب على أن يكون كلامه واضحًا سهلَ الفهم من أول مرة، فمستمع الخطبة ليس له إلا فرصة واحدة لسماع الكلام، ولا يمكنه طلب الإعادة ليفهم ما غمض عليه؛ ولذا فعلى الخطيب أن يختار الكلمات الواضحة، والتعابير السهلة المباشرة التي لا تحتمل إلا معنًى واحدًا، وإلا كان سببًا في أن يفقد المستمع تركيزه وانتباهه؛ بسبب غموض بعض كلامه.
وليس المقصود أن يكون المعنى مبتذلًا سطحيًّا ركيكًا، بل المقصود ألَّا يكون المعنى صعبًا مبهمًا يَحارُ السامع في فهمه وتفسيره.
2/سهولة النطق: أي: كَون ألفاظ وتراكيب الخطبة سلسلة النطق، متناغمة الحروف، واضحة المخارج، مستعذبة في السمع، فبعض الكلمات قد يصعب نطقها، وذلك حين يتجاور حرفان لهما نفس المخرج، فقد تتداخل الحروف، وقد يتغير النطق الصحيح، مما قد يسبب حرجًا للخطيب أثناء الإلقاء، كما أن مثل هذه الكلمات والتعابير الصعبة يثقل وقعها على السامع، ولا تستسيغها أذنه، وتنفر منها نفسه؛ ولذا ينبغي على الخطيب أن يتجنبها.
3/قِصر الجمل والتراكيب: فالتعبير الخطابي يتميز بقصر الجمل والعبارات؛ حيث إنها أسهل في الفهم والاستيعاب من قِبل المستمعين، وهي كذلك أسهل على الخطيب في الإلقاء، كما أنها تعطيه الفرصة الكافية للتحكم في طريقة الإلقاء، وتطبيق ما يريد من مهارات التلوين الصوتي، وزيادة النبرة، دون أن يشعر بالإجهاد أو انقطاع النفس، بعكس الجمل الطويلة التي تستهلك نفسه وتجهده، ولا تمكنه من تلوين صوته بالشكل الفعَّال، كما أن الجمل القصيرة عادةً ما تكون أكثر بلاغةً، وأقوى تعبيرًا من الجمل الطويلة؛ ومن أقوال العرب المشهورة: البلاغة الإيجاز.
4/تناسب الألفاظ والتراكيب مع نوعية الموضوع: فاللغة العربية تمتاز بكثرة المترادفات، وهي الكلمات المختلفة حروفًا المتشابهة معنًى، فعلى الخطيب أن يحسن اختيار ألفاظه وتراكيبه اللغوية بما يتناسب مع نوعية موضوعه جزالةً وفخامةً، أو رقةً وعذوبةً، والمقصود أنه كما يعتني الخطيب باختيار المعنى والفكرة المناسبة، فكذلك عليه أن يعتني باللفظ والتركيب المناسب لنوعية الموضوع الذي يعالجه، فالمواضيع الحماسية كالمعارك والرد على الأعداء، وأهوال القيامة، ونحوها - ينتقي لها الألفاظ الفخمة الضخمة، القوية في معناها، الجزلة في مبناها، فلو كان الموضوع عن الجهاد مثلًا، فستكون الألفاظ على النحو الآتي: النقع، الوطيس، صلصلة، حمحمة، الكماة، القراع، الكر والفر؛ إلخ، وعند المواضيع الهادئة كالرحمة والمحبة، والجنة والتوبة، ونحوها يختار الألفاظ الشائقة الرائقة، ذات الإيقاع المشرق الرقيق، فلو كان الحديث عن الإيمان مثلًا، فستكون الكلمات على النحو الآتي: حلاوة، طلاوة، بُحْبُوحة، الأنس، نفحات، نسائم؛ إلخ، وهكذا، وعلى هذا يُقاس، فللفرح إيقاع، وللحزن إيقاع، وللترغيب إيقاع، وللترغيب إيقاع، والخلاصة أنَّ لاختيار الألفاظ المناسبة (حسب نوع السياق) دورًا مهمًّا في زيادة قوة المعنى، وروعة التأثير أثناء الإلقاء؛ فتأمل.
5/تنوع الأساليب البيانية والبلاغية: فالأساليب البيانية والبلاغية في اللغة العربية كثيرة ومتنوعة جدًّا، ومن سمات الخطبة الناجحة أن يتلون أسلوب بيانها، وأن تتنوع ضروب التعبير فيها، فمن آية إلى حديث، ومن أثر إلى خبر، ومن قصة إلى حوار، ومن نداء إلى تكرار، ومن قَسَم إلى استنكار، ومن أمر إلى نهي، ومن تعجب إلى استفهام، ومن تشبيه إلى كناية، ومن مجاز إلى استعارة، ومن جناس إلى طباق، ومن سجع إلى تورية، إلى غير ذلك من أساليب البلاغة والبيان، فعلى الخطيب أن يحسن توظيف هذه الأساليب ليجعل السامعين ينجذبون لسماعه، ويستمتعون بروعة بيانه.
يقول الشيخ عايض القرني: "الخطيب الملهم يكتب على صفحات القلوب رسائل من التأثير، ويرسم في العقول صورًا من براعة التعبير، ويبني في النفوس صروحًا من روائع التصوير"، إلى أن يقول: "لأن الخطيب يُقبِل ومعه الآية الآمرة، والموعظة الزاجرة، والقصة النادرة، والحجة الباهرة، والقافية الساحرة، فتعيش معه في دنيا من الصور والألوان، وفي عالم من المشاهد والبيان، كأنك في إيوان أو بستان أو ديوان"؛ [انتهى].
وإذا أراد الخطيب أن يرتقي بأسلوب بيانه، ويقوي تعبير خطابه، فعليه أن يهتم كثيرًا بالأساليب البيانية والبلاغية، والمحسنات البديعية، وذلك بإدمان المطالعة في كتب البلاغة والأدب، ومتابعة كل ما يمتُّ لذلك بصلة أو نسب، ككتب السير والقصص والخطب، وعليه بكثرة المران والتدرب الجاد، كتابةً وتأليفًا، وقراءةً وتحديثًا.
نسأل الله أن يجعل كل أعمالنا صالحة، وأن يجعلها لوجهه الكريم خالصة، وألَّا يجعل لأحد غيره فيها شيئًا؛ ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182].

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.