أعاجم المنابر!

 وبينما أنا محلِّق في سماء الإبداع الأدبي أكدُّ وأجدُّ حتى أختار مِن روائع الأمثلة وعظائم العبارات من القرآن والسنَّة المطهَّرة وكتابات الأعلام في الأمة من كتَّاب القصَّة والشِّعر، ومحاولة الإحاطة ببعضٍ من مقوِّمات وأركان الإبداع؛ أتريَّض في الحقول، أعطي لعقلي وفكري فرصةَ السياحة لكيلا لا أكتب ما كُتب قبلُ، أو لئلا أكون قد نقلتُ ونسخت نصًّا دون الإتيان بالجديد؛ أضجع وأقوم تأتيني الفكرة لمعايير الإبداع، ألتفت إلى كتاب أو نصٍّ أو شعر أو قصة، تُعجبني الصورة، تراودني نفسي الأمارة بالكتابة أن أختارها يُوفِّقني الله عزَّ وجلَّ لجميل الصور وأروعها؛ أتريض في بُستان القرآن المُمتع المجيد، وفي يوم الجمعة حيث الإنصات بتمعُّن وانتباه لمُرتقي المنبر، ربما أتى بما لم يتطرَّق له فكري، ولا يُحيط به قلمي، وإني لأَشهد شهادة لله عز وجلَّ أن خطباء كُثُرَ جلستُ إليهم أستمع، فلما انفضضنا من حولهم أوحت كلماتهم إلى رأسي بفكرة جديدة، فأصبحتُ مُدانًا لهذا العالِم بفِكرتي الجديدة.

لكن ما حدث تلك المرة أنزلني من شامخ عالٍ إلى خفْضٍ، وأقعَدني عن الإبحار برًّا وبحرًا في سماء الإبداع؛ إذ ارتقى المنبر من لا يوظِّف أيَّ حرف جرٍّ ولا تَستقيم له الجملة، ولا يَذكُر الواقعة بسند سليم، ولا أقول: هي الأولى له في الخطابة؛ فكم له من عقود يَرتقيها ولا يتقيها؟! إن هو تجاوز حد الاهتمام بالمستمعين!
والكارثة لا تَكمن في ألسنة النقد ممَّن يعرفون القواعد أو يسلخونه حين ينتهي بأخطائه الفوادح؛ لكنَّ الكارثة في أولئك البسطاء من الناس، الذين هم في اشتياق لخطيب يَذكُر لهم المأثور أو يتحدث في المناسبات الطيبة؛ إذ كل كلمة يقولها بها غير ملقٍ لها بالاً وغير حريص على تمام صحَّتها لتترسَّخ في آذانهم، فما بالُنا لو قلَب القواعدَ، ورفع المنصوب، ونصب المرفوع، وجرَّ ما لا يستحقُّ الجرَّ، وأهمل عمل النواسِخ مِن فعل وحرف، وتجاهل الظرف، وأصبحنا في شبة محمصة تلوك الكلمات، لا هو آت بجديد يُحمد له، ولا هو مُتمسِك بمأثور فيُحسن سردَه.
وفوق كل ذلك - وهو الأولى بالانتباه له - الخطيب الذي لا يُجيد الخطبة، ويُكثر من الأخطاء، يصرف الكثير من الناس عن مفاد الخطبة ولذَّة الجمعة، وربما فقدنا ساعة الإجابة بسبب تتبُّعِنا لأَخطائه.
الأمر ليس اصطيادًا ونقدًا، قدر ما هو حالة فقْد لكثير من قيَمٍ ومعايير اختيار الخطيب الأمثل الذي إن نُودي في الناس تفوَّه بالذِّكر يُخرج الحرف إخراجًا كما أُنزِل، ويَنطِق الجملة كمَن يقول للمُستمع ألا فأَعرب! رحم الله جهابذةً كانوا إذا ارتقوا المنابر اشرأبَّت لهم الأعناق، وما صرَفها إلا انتهاء الخطبة.
وسبَق ان قمت برفع مقالتين بصدد ذلك على شبكة الألوكة الطيِّبة، ونُشرا بكتابي و"تمرَّد القلم".
الأوَّل بعنوان إفلاس: "إنَّ المُفلِس هو مَن ركَن لما حَوَتْه رأسُه من علم وفهم، ونظَرَ لمن حوله أنهم الأدنى وأنه الأعلى، فإذا نُودِي في الناس ليتفوَّه ويتكلَّم ملَّ الناس كلامه، وقالوا: سمعنا كثيرًا، وما زدنا في العلم بسطةً بك؛ إذ إنه لم يستبصر، ولم يقارن، ولم يطَّلع لما عرض الآخر من فهم ورؤية، ومن ثَمَّ فإن الإفلاس طامة كبرى لا تزول إلا بالكسب الجديد، والقناعة بأنَّ "رأيي أنا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصوابَ".
وثانيها المعنون بـ "مأساة الفعل الناسخ":
الخطيب ربما كسر قاعدة نحْوية، لو كنا في أَوْج عصور الفكر العربي لقامت الدنيا ولم تقعد، أم الذين درَّسوا له ولم يتحرَّوا علمه واستيعابه، قبل أن يمنحوه شهادةً يرتقي بها منبر الدعوة؛ ليتفوه في الناس، أم أن خروج الناس على العربية خروجَ الخوارج على الإمام عليٍّ، والتماسَهم رضا الغَرْب، هو ما أنساهم أوَّلِيَّات قواعد النحو؟
 لم أجد جوابًا غيرَ: نحن أضعنا العربيةَ!
مع خالص التعازي لـ"كان" وصويحباتها اللواتي يرفعن المبتدأ، وينصبن الخبر.
إن الخطيب المُجيد أحيانًا قد يكون قد فُوجئ بارتقاء المنبر غير جاهز أو مستعد أو مهيَّأ لدرس بعينه، لكن ذاكرته التي حوت الكثير ورأسه الذي وعى بعضًا من القرآن بتدبُّر وتمعُّن قادر على أن يجعله كمن قرأ قبل ارتقاء المنبر.
أنا لا أذكر الأمر افتخارًا وشماتةً، قدر ما هو حسرة على التهاون والتضييع للعربية، أنَّى تعود إلا من خلال كتابنا المقدس قرآننا الكريم؟! ذلك الذي قيل فيه ممن لم يكونوا مسلمين: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمِر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه".
رجاءً أيها الخطباء، اتقوا الله في جمهوركم، فأنتم مَوقوفون أمام ربكم، وسوف تُسألون عن الأمانة والرسالة.
والآن أعود للتحليق ثانية في سماء الإبداع الأدبي، داعيًا المولى عزَّ وجلَّ أن يجعل حب العربية والقرآن في أفئدة أولادنا وبناتنا والمسلمين.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.