قوة البيان وفصاحة اللسان للخطيب

 الذي ينبغي للمرء هو أن لا يتصدر للخطبة إذا لم ير في نفسه الملكة والقدرة والكفاءة، إذ ما كل شخص يصلح أن يكون خطيباً، كما أنه ليس كل من تطبب يعد طبيباً.

وقد كان من عادة السلف الصالح أن لا يتولى أحد منهم أمر الخطابة إذا لم ير من نفسه القدرة عليها، أو أنه أهل لها، كما أن السلف رحمهم الله لم يجعلوا الخطابة نوعاً من الأداء الوظيفي العادي، أو التكسب المالي، وما ذاك إلا لإحاطتهم بعظم شأنها وعلو مكانتها، فإن الخطيب ينبغي أن يكون عالماً بما يقول وما يذر، ومعرباً مبيناً جهورياً صادقاً ونحو ذلك.
ومما يدل على استيعاب السلف لحقيقة هذه المسألة، ما رواه الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه ببراءة فقال : يا نبي الله، إني لست باللسن ولا بالخطيب، قال : ما بد أن أذهب بها أنا، أو تذهب بها أنت. قال : فإن كان ولابد فسأذهب أنا، قال : فانطلق فإن الله يثبت لسانك، ويهدي قلبك، قال : ثم وضع يده على فمه (137).
ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن المرء لا ينبغي له أن يعتلي المنبر أو يقوم مقام الخطيب إلا وهو يعلم من نفسه القدرة على ذلك من كافة وجوه القدرة على الخطابة، وأنه ممن يستحق أن يوصف بأنه ( لسنٌ وخطيبٌ ).
يدل على ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد عن خالد بن معدان. قال : (( حضرنا صنيعاً لعبد الأعلى بن هلال، فلما فرغنا من الطعام، قام أبو أمامة، فقال : لقد قمت مقامي هذا وما أنا بخطيب وما أريد الخطبة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند انقضاء الطعام : الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودَّع ولا مُستغنىً عنه، فلم يزل يرددهن علينا حتى حفظناهن )) (138).
قال أبو حاتم البستي : " أحوج الناس إلى لزوم الأدب وتعلم الفصاحة أهل العلم، لكثرة قراءتهم الأحاديث وخوضهم أنواع العلوم " (139).
وقال إسحاق النهراني :
النحو يبسُط من لسان الألكنِ *** وإذا طلبت من العلوم أجلها فـ
والمرء تكرمه إذا لم يلْحنِ *** أجلها منها مقيم الألسنِ (140)
قلت : وهذا الملكة ليست واجبة على خطيب وإلا لتوقفت الخطبة وقلَّ الخطباء ؛ لأن عدداً ليس بالقليل من الخطباء ليس لهم اهتمام بهذا الجانب، ولكن الذي ينبغي على الخطيب هو أن يجتهد في أن تكون الخطبة قوية المعنى سليمة المبنى وإلا كان النفع قليلاً، وكلما كان اللسان أبين فهو أقوى وأجمل، كيف لا وقد قال موسى عليه السلام : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي } (141) وقال:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} (142) فلو لم يكن للفصاحة هذا الدور فما الحاجة إذاً إلى أن يطلب موسى من ربه إرسال أخيه هارون ليكون رداءاً له ؟.
وقال ابن شبرمة : ما رأيت لباساً على رجل أحسن من فصاحة، ولا على امرأة من شحم، وإن الرجل ليتكلم فيعرب فكأن عليه الخز الأوكن، على امرأة من شحم، وإن الرجل ليتكلم فيلحن فكأن عليه أسمالاً – وهي الثياب البالية – إن أحببت أن يصغر في عينك الكبير، ويكبر في عينك الصغير فتعلم النحو (143). اهـ.
ونقل نحو هذا ابن قتيبة عن ابن سيرين قائلاً : " ما رأيت على رجل أحسن من فصاحة، ولا على امرأة أحسن من شحم " (144).
وقال أبو حاتم البستي : (( الفصاحة أحسن لباس يلبسه الرجل، وأحسن إزار يتزر به العاقل، والأدب صاحب في الغربة، ومؤنس في القلة، وزين في المحافل، وزيادة في العقل، ودليل على المروءة، ومن استفاد الأدب في حداثته انتفع به في كبره، لأن من غرس فسيلاً يوشك أن يأكل رطبها، وما يستوي عند أولي النهى، ولا يكون سيان عند ذوي الحجى : رجلان أحدهما يلحن والآخر لا يلحن (145) )). اهـ .
ولأهل العلم كلام حول هذه المسألة أنقل بعضاً من أقوالهم فيها :
فمن ذلك ما ذكره الشافعي بقوله : " ويكون كلامه مترسلاً(146)، مبيناً، معرباً، بغير الإعراب الذي يشبه العي وغير التمطيط (147) وتقطيع الكلام ومده وما يستنكر منه، ولا العجلة فيه عن الإفهام، ولا ترك الإفصاح بالقصد، وأحب أن يكون كلامه قصداً، بليغاً، جامعاً"(148).
وقال البغوي : " ويستحب أن يخطب مترسلاً، مبيناً، ومعرباً لا يأتي بكلمات مبتذلة لا تنجع (149) في القلوب، ولا يغرب، بحيث لا يفهم، ولا بما ينكره العوام لقصور فهمهم، ولا يمد الكلمات مدّاً يجاوز الحد، ولا يعجل عن الأفهام، ويحترز عن التغني وتقطيع الكلام، ولا يطول فيمل الناس بل تكون خطبته قصداً بليغاً جامعاً (150) ".
وقال أبو الحسين العمراني : " ويستحب أن يكون كلامه مسترسلاً معرباً بلا تمطيط ولا مدٍّ، ولا يأتي بالكلام الغريب المستنكر الذي تخفى عليهم أو على بعضهم المعاني فيه، لأن القصد بالخطبة الموعظة، ولا يحصل إلا بما ذكرناه (151) " .
وقال النووي : " يستحب كون الخطبة فصيحة بليغة مرتبة مبينة من غير تمطيط ولا تقعير (152)، ولا تكون ألفاظاً مبتذلة ملفقة، فإنها لا تقع في النفوس موقعاً كاملاً، ولا تكون وحشية لأنه لا يحصل مقصودها، بل يختار ألفاظاً جزلة (153) مفهمة ". قال المتولى : " ويكره الكلمات المشتركة والبعيدة عن الإفهام، وما يكره عقول الحاضرين، واحتج بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسول ؟ )) رواه البخاري في أواخر كتاب العلم (154) من صحيحه " (155).
وقال ابن قدامة : " ويستحب أن يكون في خطبته مترسلاً، مبيناً، معرباً، لا يعجل فيها، ولا يمططها، وأن يكون متخشعاً ….." (156) .
وقال أبو حاتم البستي : " ليست الفصاحة إلا إصابة المعنى والقصد، ولا البلاغة إلا تصحيح الأقسام واختيار الكلام، ومن أحمد الفصاحة الاقتدار عند البداهة، والغزارة عند الإطالة. وأحسن البلاغة وضوح الدلالة وحسن الإشارة. ولقد سمعت محمد بن نصر بن نوفل المروزي يقول : سمعت أبا داود السنجي يقول : سمعت الأصمعي يقول : ليست البلاغة بخفة اللسان، ولا كثرة الهذيان، ولكن بإصابة المعنى والقصد إلى الحاجة، وإن أبلغ الكلام ما لم يكن بالقروي المجدع ولا البدوي المعرَّب " (157). اهـ.
قلت : ولذلك امتدح معاوية رضي الله عنه يزيد بن المقفع حينما خطب عند أخذ البيعة ليزيد بن معاوية، إذ قال يزيد بن المقفع : " أمير المؤمنين هذا – وأشار إلى معاوية- فإن هلك فهذا -وأشار إلى يزيد – فمن أبي فهذا – وأشار إلى سيفه – فقال معاوية : اجلس، فإنك سيد الخطباء (158). اهـ. وهذا دليل واضح على بلاغة ابن المقفع وحسن بيانه في إيجاز واضح جلي.
قال أبو حاتم أيضاً : " الكلام مثل اللؤلؤ الأزهر، والزبرجد الأخضر والياقوت الأحمر، إلا أن بعضه أفضل من بعض، ومنه ما يكون مثل الخزف والحجر والتراب والمدر (159) ".
قلت : ومما يدل بُعد هذه المسألة عن عدد من الخطباء إلا من رحم الله هو ما يسمع من بعضهم – هداهم الله – من اللحن الجلي وعدم الإفصاح أو إعراب الكلام على الوجه الصحيح، أو اختلاط الألفاظ والمعاني بذكر المترادفات على صورة المتضادات أو العكس أو ما شابه ذلك، مما يجعل مثل ذلك كالمطارق تضرب رؤوس المستمعين الذين يميزون بين الفصاحة واللحن والخلط. ويا لله العجب كيف يشتهر خطباء ويكون لخطبهم وقع وهم يلحنون كثيراً ويعربون قليلاً. ولقد أحسن ابن قتيبة حينما قال : " دخل أعرابي السوق فسمعهم يلحنون فقال : سبحان الله! يلحنون ويربحون (160). اهـ .
وللشيخ محمد أبي زهرة رحمه الله كلام جميل حول هذا المعنى فكان مما قال فيه : " يجب أن يعنى الخطيب بتصحيح الكلام الذي ينطق به، وملاحظته في مفرداته وعباراته فيلاحظ بنية الكلمات ملاحظة تامة، فلا ينطق مثلاً بكلمة ( سوقة) بفتحتين كبعض الخطباء فيذهب ذلك بروعة القول وبهائه، ولا ينطق بغير ما توجبه قواعد النحو في آخر الكلمات، فإن ذلك يفسد المعنى. والنطق والخطأ لآخر الكلمات فوق أنه يفسد المعنى، ويذهب برونق الخطبة، وحسن وقعها، وجمال تأثيرها، ولا يظنن الخطيب أن جودة المعنى وإحكامه قد يذهبان ببعض الأخطاء، فإن الهنات الصغيرة إذا كثرت أحدثت تأثيراً سلبياً للخطبة، وأفسدت تأثير المعاني المحكمة، ثم إن المستمع يلاحظ ما لا يلاحظه الخطيب، ونظراته إلى المتكلم وكلامه نظرات فاحصة كاشفة، وإذا ادركوا كثيراً من الأخطاء ضاع أثر الخطبة في نفوسهم(161). اهـ.
والطريقة العلمية لحل هذه المشكلة لا يمكن أن تتحقق إلا بإحدى حالين :
الحال الأول :
أن كان الخطيب ممن درس علوم الآلة، ومنها علم النحو وعلم البيان والبلاغة، أو كانت لديه مفاتيح النحو بحيث يميز بين المرفوع والمجرور، والمنصوب والمجزوم، وتقدم العامل على المعمول وما أشبه ذلك ؛ فما عليه إلا أن يطبق ما درس على خطبته شيئاً فشيئاً حتى يطابق علمه النظري واقعه العلمي. ومما لا شك فيه أن هذا لا يتأتى لأول وهلة هكذا، ولا طفرة دون تدرج.
قال عبدالرحمن بن مهدي : " ما ندمت على شيء ندامتي أني لم أنظر في العربية " (162). اهـ.
 
 
 
وقال شعبة : " مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الدابة عليها المخلاة، ليس فيها شيء " (163). اهـ .
الحال الثانية :
إن لم يكن الخطيب ذا إلمام بالنحو وعلم البيان والبلاغة، فلا أقل من أن يعرض الخطبة على من يملك ذلك ليصحح له ما فيها من أخطاء، وهذا ليس بعيب فإن المرء لا يولد عالماً، وما هي إلا فترة من الزمن حتى يصبح للخطيب بعدها ملكة تعينه على سلامة الخطبة من اللحن ورداءة الأسلوب.
ثم إن الخطابة كسائر الصنائع والمواهب يتفاوت الناس في إتقانها والأخذ بزمامها من حيث الزمن، فمنهم من ينجز ذلك في أمد يسير، ومنهم من يحتاج إلى زمن أطول من ذلك، وقد قال بعض أهل الأدب :
إنهم لم يروا خطيباً بلدياً إلا وهو في أول تكلفه للخطابة كان مستثقلاً إلى أن يتوقح وتستجيب له المعاني، ويتمكن من الألفاظ إلا شبيب بن شيبة، فإنه ابتدأ بحلاوة ورشاقة وسهولة وعذوبة فلم يزل يزداد منها حتى صار في كل موقف يبلغ بقليل الكلام ما لا يبلغه الخطباء المصاقع بكثيره (164). اهـ.
ثم إن الخطباء البلغاء كانوا يأخذون أنفسهم بالتدرب على الخطبة إلى أن تصير لهم سجية وعادة. وقد قالوا : " إن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي كان لا يتكلم إلا اعترته حبسة في منطقة فلم يزل يتشادق ويعالج إخراج الكلام حتى مال شدقه، ولذا لقب بالأشدق وفيه يقول الشاعر :
تشادق حتى مال بالقول شِدقُه *** وكلُّ خطيبٍ لا أبا لك أشدقُ (165)
وحاصل القول أن التدرب وهذه الملكة لا تكون إلا ممن سلك سبلها واصطبر عليها يوماً فيوماً، وراض عليها لسانه في المنتديات العامة والجمع والأعياد ونحو ذلك، ولو راعه الموقف أولاً أمنه آخراً، فقديماً قيل : من وقف حيث يكره وقف حيث يحب.
——————————-
(137) انظر : المسند ( 1 / 151 ).
(138) انظر : المسند ( 5 / 262 ).
(139) انظر : روضة العقلاء ص (223 ).
(140) انظر : الكامل للمبرد ( 1 / 239 ).
(141) سورة طـه آية :27، 28
(142) سورة القصص آية :34
(143) انظر : روضة العقلاء ص ( 219 )، عيون الأخبار لابن قتيبة ( 2 / 554 ).
(144) انظر : عيون الأخبار المصدر السابق.
(145) انظر : روضة العقلاء ص (220 ) .
(146) في الحديث ص (5) (( كان في كلامه ترْسيل )) أي ترتيل. يُقال : ترسَّل الرجل في كلامه ومشْيه إذا يعْجل. النهاية ( 2 / 223 ).
(147) مطَّه : مده وبابه ردّ وتمطَّط : تمدد. مختار الصحاح ص ( 627 ).
(148) انظر : الأم ( 1 / 177 )، المهذب ( 1 / 370 ).
(149) نجع فيه الخطابُ والوعظُ، والدواءُ : أي دخل وأثَّر. الصحاح ( مادة نجع ).
(150) انظر : المهذب ( 2 / 342 ) .
(151) انظر : البيان ( 2 / 578 ).
(152) قعَّر في كلامه، وتقعَّر : تشدَّق وتكلم بأقصى قعْر فمه، وقيل : تكلم بأقصى حلقه. والتقعير في الكلام التَّشدُّق فيه. لسان العرب مادة ( قعر ).
(153) اللفظ الجزْل : خلاف الركيك. الصحاح ( مادة جزل ).
(154) باب 49 ( رقم 127 ).
(155) انظر : المجموع ( 4 / 358 ).
(156) انظر : المغني ( 3 / 180 ).
(157) انظر : روضة العقلاء ص (222 ) .
(158) انظر : الخطابة لمحمد أبي زهرة ص ( 311 ).
(159) انظر : المصدر السابق ( 223 ).
(160) انظر : عيون الأخبار ( 2 / 556 ).
(161) انظر : الخطابة ص ( 146 ).
(162) انظر : روضة العقلاء ص (221 ) .
(163) انظر : المصدر السابق (223).
(164) انظر : فن الخطابة لعلي محفوظ ص (18 ).
(165) انظر : البيان والتبين ص ( 167 )، فن الخطابة لعلي بن محفوظ ص (18) .
 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.