دور الشعر في الخطابة بين الإفراط والتفريط

 في العصر الجاهلي أي قبل ظهور الإسلام بمائة وثلاثين سنة على الأرجح، كان الشعر هو الفن الأكثر رقياً وانتشاراً وتأثيراً في البيئة العربية، والموهبة الأكثر رعاية وعناية من قبائل العرب؛ فالشعر هو ترجمان العرب، وقلم دفتر أحوالهم، وسجل إنجازاتهم ومآثرهم.

وقد تنوعت أغراض الشعر في تلك الفترة بين الهجاء والمدح، والفخر والرثاء، والغزل والوصف، والحكمة والموعظة، والاعتذار.
ولقد كان المدح والهجاء من أهم الأغراض الشعريّة في ذاك العصر، وكانا بمثابة ترسانة الهجوم والدفاع عند القبائل العربية، وأمضى أسلحة الزمان.
وكانت القبيلة إذا نبغ فيها اسم شاعر محدّد فإنّ القبائل الأخرى تأتي لتهنّئها، فتُقام الولائم.
وكان الشاعر الجاهلي يأخذ مكانة مميّزة تكسب الحب والحماية من البقيّة، فهو بمنزلة تفوق بقيّة الأفراد، وتكون وظيفته الأساسية هي أن يصبح لسان القبيلة، يدافع عنها، ويحميها، ويتغنّى بأمجادها وأنسابها، ويُخلّد جميل أعمالها، ويحمي شرفها، وبذلك يكون الشعر مرآة تنعكس عليها الصورة المثالية للجماعة القبلية.
ثم جاء الإسلام ليحدث انقلابا ثقافياً وفكرياً ونفسياً وقلبياً ضخماً على حياة العرب، ووجد بلغاء العرب وشعراؤهم المطبوعون بالسليقة على تذوق البلاغة، والنطق بها، والتحكم في الألفاظ والكلمات بكل يسر، وجدوا أنفسهم عاجزين أمام التحدي القرآني الهائل، قال تعالى: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)[البقرة: 23 – 24]، وقال: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء: 89].
وإذا بأمراء البيان وسدنة الكلام وأساتذة الأوزان في حيرة واضطراب، حتى قال سيدهم: “الوليد بن المغيرة”: “فو الله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته”.
أولاً: موقف الإسلام من الشعر:
ولقد وقف الإسلام من الشعر والشعراء موقفاً حازماً، وقيد الشعر بقيود الإسلام والدين الجديد بعد أن كان في الجاهلية طليقا ينشد الشاعر ما يريد، وفي أي غرض يشاء، فقد حد الإسلام هذه الأغراض، فألزم الشعراء بقول الصدق، وعدم المبالغة، وقد قيل سابقا: “أعذب الشعر أكذبه”، وهذا الموقف أضعف الشعر حتى أدى إلى أن يهجر بعض الشعراء الشعر، حتى أن أحد شعراء المعلقات السبع الشهيرة، وهو “لبيد” ترك قول الشعر في الإسلام، وقيل: أنه لم يقل في زمن الإسلام إلا بيتا واحدا:
الحمد لله الذي لم يأتني أجلي *** حتى كساني من الإسلام سربالا
وقيل أنه قال: “الحمد لله الذي ابدلني بالشعر سورة البقرة”، فقد حفظها عند دخوله الإسلام، ولم يقل بعد حفظها شعرا.
ثم جاء التفصيل القرآني لموقف الإسلام من الشعر والشعراء ليضع بكل إعجاز وكلمات قليلة معالم الطريق لمستقبل هذا الأدب المترسخ في عقلية ونفسية العربي، ويضعه في إطاره النافع المفيد، ويحد من جموحه وشروده وولوغه في أعراض الناس، قال تعالى: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلا الذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلِواْ الصَالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللهَ كَثِيرًا وانْتَصَرُواْ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمُ الذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[الشعراء: 224 – 227].
والآيات تتعرض لطريقة الشعراء ليس الشعراء أنفسهم، فجاء ذكر أنهم يتبعهم الفاسدون أو الغاوون؛ لأنهم يقولون ما لا يفعلون من هجاء للناس، أو مدح الزيف، أو وصف للخمر، أو غيرها من الأغراض التي تتعارض ودعوة الإسلام، خاصة الهجاء الفاحش الذي كان يقوله شعراء قريش في هجاء المسلمين، وتشكيكهم في الدعوة الإسلامية، وقد تأكد ذلك في الاستثناء الذي ورد في هذه الآيات المباركة حيث استثنى القرآن الكريم الشعراء الحقيقيين النافعين، وهم الذين اعتبرهم القرآن الكريم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا للمسلمين بألسنتهم بما قالوه من شعر بحق ضد الكفار والمشركين، وبما فخروا به في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم-، وانتصار المجاهدين من المسلمين وشهداء الإسلام.
وقصة قتل اليهودي الخبيث “كعب بن الأشرف” تكشف بجلاء عن موقف الإسلام من الشعر الذي يخرج عن الطور، ويخوض في أعراض المسلمين، ويصبح لساناً ضدهم، وسلاحاً يطعن فيهم.
فقد سخّر هذا الخبيث شعره لرئاء المشركين، وتأليب القبائل ضد الإسلام والمسلمين، بل ذهب إلى قريش يحرضهم على الثأر لقتلى بدر.
ثم انتقل بحربه الشعرية ضد الإسلام للخوض في أعراض نساء المسلمين، فكان جزاؤه القتل، ووأد شروره.
ثانياً: الجمع بين النهي والحض:
من العرض السابق يتضح: أن موقف الإسلام من الشعر والشعراء موقفاً متوازناً، يقبل منه النافع المفيد، ويحض عليه، ويرفض الضار الفاحش منه ويرده، ويدحضه من أصوله.
وعلى هذا جاء الجمع بين النصوص الشرعية التي ظاهرها التعارض في التعامل مع الشعر، فقد أثنى الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الشعر الذي يستعمله صاحبه لنصرة الإسلام، ورد افتراءات المشركين، فقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحَسَّانَ بن ثابت -رضي الله عنه-: “اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ”(رواه البخاري ومسلم)، وقال رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “اهْجُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ”(رواه مسلم).
ومع ذلك فقد ذم الرسول -صلى الله عليه وسلم- من يشتغل بالشعر، ويُقبل عليه، ويعرض عن القرآن والعلم الشرعي، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَال: “لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً”(رواه البخاري ومسلم).
والحديث بوَّب عليه البخاري بقوله: “ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده”.
وعلَّق الحافظ ابن حجر بقوله: “تنبيه: مناسبة هذه المبالغة في ذم الشعر: أن الذين خوطبوا بذلك كانوا في غاية الإقبال عليه، والاشتغال به، فزجرهم عنه؛ ليُقبلوا على القرآن، وعلى ذِكر الله -تعالى-، وعبادته”، وقال النووي: “الصواب: أن المراد أن يكون الشعر غالباً عليه، مستولياً عليه، بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية، وذِكر الله -تعالى-، وهذا مذموم من أي شعر كان، فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه، فلا يضر حفظ اليسير من الشعر مع هذا؛ لأن جوفه ليس ممتلئا شعراً”.
ثالثاً: دور الشعر في خدمة الدعوة:
هناك عدد من الصحابة اشتغل بالشعر بعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذنه؛ كسلاح من أسلحة الدفاع عن الإسلام، ومقارعة المشركين في ميدانهم الأثير، أبرزهم: حسان بن ثابت، وتخصص في هجاء المشركين ومدح النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعبد الله بن رواحة تخصص في معايرة الكافرين بكفرهم وضلالهم، وكعب بن مالك تخصص في تخويف الكافرين من الحرب وقوة المسلمين وبأسهم، وحسان بن ثابت كان له من الأشعار المدافعة والمنافحة عن الإسلام ورسوله ما كانت مثل السيوف الصوارم، والرماح القواطع، حتى هاباه الجميع، وخاصة مشركي قريش، ولقد دعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتأييد جبريل -عليه السلام-.
ومن أثر الشعر وقوته كسلاح إسلامي هام في تلك الفترة: أن قريشاً كانت تجزع كل الجزع من هجاء حسان، ولا تبالي بشعر ابن رواحة، وكان ذلك قبل أن تسلّم، فلما أسلمت رأت في الشعرين رأيا آخر، فقد كان حسان يطعن في أحسابهم، ويرميهم بالهنات التي تنال من كبريائهم ومكانتهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر، ثم أسلموا، وكان شعر ابن رواحة هو الذي يحز قلوبهم حزاً.
ومن جهة أخرى كان المهاجرون والأنصار يعدون حسان الشاعر الذي يحمي أعراض المسلمين، يبعثون في طلبه حين تفد الوفود، ويفزعون إليه حين تأتيهم القوارض، فيبلغ من حاجتهم ما لا يبلغه صاحباه.
والكلام كثير في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة فتناولته قريش بالهجاء، وهجوا الأنصار معه، وأن عبد الله بن رواحة ردّ عليهم فلم يصنع شيئا، وأن كعب بن مالك لم يشف النفس، وإنما الذي صنع وشفى، وصب على قريش من لسانه شآبيب شر هو حسان.
والكلام كثير في استماع النبي لحسان، وفي إيثار النبي لحسان، وفي أن المسلمين كانوا يعتمدون اعتمادا حقيقيا على حسان في هذا الضرب من النضال؛ لأنهم كانوا يرون معانيه من الأسلحة الماضية التي تجزع منها قريش.
رابعاً: دور الشعر في خطبة الجمعة:
إنه مما لا شك فيه أهمية وخطورة الدور الذي تلعبه خطبة الجمعة في أوساط المجتمع الإسلامي بشتى شرائحه وأطيافه، فخطبة الجمعة هي المؤتمر الأسبوعي الإجباري الذي يجتمع فيه المسلمون كل أسبوع ليقيموا شعائر الدين، وإنما سميت الجمعة “جمعة”؛ لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيها في كل أسبوع مَرَّةً في يوم عيد لأهل الأرض وأهل السماء.
أيضا فإن منبر الجمعة هو منبر إعلامي في المقام الأول لا يضاهيه منبر إعلامي آخر؛ لأنه يجتمع إليه ملايين من البشر للاستماع لما يوجه من هذا المكان من كلام.
وخطبة الجمعة من وسائل تبصير الخلق بدينهم، فمنها يتعلم الجاهل، ويذكر الغافل، ويتربى الجيل الصاعد على أمور الدين.
ولهذا فإن المتصدرين لهذا المكان عليهم مسؤولية كبيرة في تعليم الناس وتبصرتهم، فعلى الخطيب أن ينوع أساليب إلقاء الخطبة في المنبر، فلا يسير بالخطبة على وتيرة واحدة؛ لأن هذا مما يبعث على الملل عند السامع، بل على الخطيب أن ينوع من أساليبه في الإلقاء، وأن يجدد؛ ليبعث في النفوس حب الإصغاء، ويزيل عنها الملل الحاصل في النفوس، ومن ذلك أن يدخل القصة المؤثرة، والشعر الهادف، والنقاش المثمر المؤيد بالدليل.
أما القصة والنقاش فلا خلاف عليهما.
أما الشعر فقد وقع فيه الخلاف بين أهل العلم قديماً وحديثاً:
القول الأول: المنع:
استدلوا بحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَنَاشُدِ الْأَشْعَارِ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَنْ الْبَيْعِ وَالِاشْتِرَاءِ فِيه، وَأَنْ يَتَحَلَّقَ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ”.
وهذا الحديث أشهر ما في الباب في النهي عن إنشاد الشعر في المسجد، وقد قال بذلك الأوزاعي -رحمه الله- والبوني من الشافعية، والعز بن عبد السلام -رحمه الله- وقال في فتاويه: “لا تذكر الأشعار في الخطبة؛ لأنه من أقبح البدع، وكذلك لا يذكر (سلع) ولا (حاجر)؛ لأن ذكر ذلك فسوق مذكر للهوى المكروه والمحرم والمباح، وأكثر الناس يطربون على ذلك، ويحثهم الطرب على ملابسة ما يهوونه، وليست الخطبة موضوعة للحث على الأسباب المباحة، فضلاً عن الأسباب المكروهة والمحرمة، وهذا من أقبح البدع التي لم نعلم أن أحداً سبق إليها”.
ومن المعاصرين: الشيخ بكر أبو زيد، فقال رحمه الله: “ولا أعرف في خطب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا في خطب الصحابة -رضي الله عنهم- الاستشهاد بالشعر ببيت فصاعداً، وعلى هذا جرى التابعون لهم بالإحسان. وقد استمرأ بعض الخطباء في القرن الرابع عشر تضمين خطبة الجمعة البيت من الشعر فأكثر، بل ربما صار الاستشهاد بمقطوعات شعرية متعددة، وربما كان إنشاد بيت لمبتدع، أو زنديق، أو ماجن”، وقال أيضاً: “والمقام في خطبة الجمعة مقام له خصوصيات متعددة يخالف غيره من المقامات، في الدروس، والمحاضرات، والوعظ، والتذكير، وهو مقام عظيم لتبليغ هذا الدين صافياً، يجهر فيه الخطيب بنصوص الوحيين الشريفين، وتعظيمهما في القلوب، والبيان عنهما بما يليق بمكانتهما ومكانة فرائض الإسلام، فلا أرى لك أيها الخطيب للجمعة إلا اجتناب الإنشاد في خطبة الجمعة، تأسياً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو بك أجمل، وبمقامك أكمل -والله المستعان-“.
القول الثاني: الجواز:
واستدلوا بحديث سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ -رضي الله عنه- قَالَ: “مَرَّ عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ وَحَسَّانُ يُنْشِدُ فَقَالَ: كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ”؟ قَالَ: نَعَمْ”.
وعن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: “شَهِدْت النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَأَصْحَابُهُ يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ”.
وبه قال جماعة من أهل العلم.
واشتمال الخطبة على اليسير من الشعر الذي يحصل به مقصود الخطبة من الوعظ والتذكير ليس في الشريعة ما يمنعه، وكون النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستعمل ذلك في خطبة الجمعة لا يدل على منعه أو كراهيته، لا سيما وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يذكر الشعر في كلامه عموماً إلا قليلاً.
والراجح: أن إنشاد الشعر في المسجد جائز من غير كراهة ولكن بشروط:
أولا: أن لا يكون الشعر بذيئاً فاحشاً مروجاً لمعصية أو فجور، وهو شرط معلوم بالضرورة؛ لأنه ينفي مقصود الدعوة الإسلامية ويضادها، قال الحافظ ابن حجر في “الفتح”: “فَالْجَمْع بَيْنَهَا وَبَيْن حَدِيث الْبَابِ أَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى تَنَاشُدِ أَشْعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُبْطِلِينَ, وَالْمَأْذُونِ فِيهِ مَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ”.
وقال المباركفوري في “تحفة الأحوذي”: “وَقَالَ اِبْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا بَأْسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ فِي مَدْحِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الشَّرْعِ”.
ثانيا: عدم الإكثار منه على المنبر، بحيث ينشغل الناس به عن غيره من القرآن والسنة مما وضعت المساجد من أجله، ولكي لا يكون المسجد مكانا مثل النوادي الأدبية، وأسواق الجاهلية.
وقد ذهب الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- إلى جواز أن يستشهد خطيب الجمعة بأبيات من الشِّعر، على أن يكون ذلك بقدر، وبحسن اختيار، فقد سئل الشيخ -رحمه الله: هل الاستشهاد ببعض الشِّعر في خطبة الجمعة مما يحث على مكارم الأخلاق، والجهاد في سبيل الله أمر مشروع؟
فأجاب: “لا شك بذلك، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ مِن الشِّعر لحكمة”، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينشد مع الصحابة وهم يبنون المسجد، ينشد معهم عليه الصلاة والسلام:
والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنة أبينا
كان رافعا بها صوته يقول: أبينا، أبينا، أبينا، كما أن عليه الصلاة والسلام أنشدهم وهم يحفرون الخندق.
كما يستأنس للجواز بما جاء في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: “أَشْعَرُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ، وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ”.
فالمقصود: أن إنشاد الشعر الحق الطيب في الخطب، والمواعظ، والمحاضرات، وخطب الجمعة، والأعياد لا بأس به؛ لأنه يؤثر، ويحصل به خير عظيم”.
والخلاصة: أن الاستشهاد بالشعر مما يزين الخطبة، ويزيد من التأثر بها لدى السامع، فإن الشعر في موضعه يشد السامع، ويلهب عاطفته، ويحرك نفسه، وفي الحديث الصحيح عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن من الشعر لحكمة”.
ومن أهم أغراض الشعر المنبري: أن يكون في المواعظ، والأمثال، والآداب، والأخلاق، والحث على الجهاد أو الإنفاق، أو خلال وصفات الخير المتنوعة، وكذلك ما يرقق القلوب من شعر الزهد، والقناعة، والتذكير بالآخرة والجزاء، ولهذا فإن الصحابة -رضي الله عنهم- استشهدوا بالشعر في مواطن مختلفة؛ في موطن العظة، وفي مقام الجهاد، فقد تمثلت عائشة -رضي الله عنها- بالشعر عند مرض أبيها فقالت: “حضرت أبي -رضي الله عنه- وهو يموت، وأنا جالسة عند رأسه، فأخذته فتمثلت ببيت من الشعر:
من لا يزال دمعه مقنعاً *** فإنه لا بد مرة مدفوق
والمقصود هو أن يضفي الخطيب في خطبته ما يستثير به انتباه السامعين، ويزيل عنهم الملل والخمول أثناء استماعهم للخطبة، فالشعر في الخطبة كالملح في الطعام، يحتاج إلى القليل منه من أجل النكهة والتذوق والاستمتاع، والكثير منه يفسده ويجعله غير صالح للأكل، ولا ينتفع به أحد.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.