خطيب في زمن الفضائيات (الجزء الأول)

منذ أن شُرعت صلاة الجمعة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي المؤثر الأهم والأبرز في حياة الأمة الإسلامية، لا ينازعها في التأثير على المسلمين منازع مكافئ أبدًا، بل تعاونها المواعظ التي كان يلقيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الحين والآخر.

وكانت خطبة الجمعة أداة صد لكل فتنة يثيرها المنافقون ووسيلة ناجعة في تفنيد إرجافهم وشائعاتهم، وكانت كذلك وسيلة لحل الأزمات والمعضلات والمشكلات، فيصعد النبي -صلى الله عليه وسلم- المنبر فيتكلم، وما إن ينزل حتى تكون الأزمة قد انتهت، وهي كذلك وسيلة تعليمية وتثقيفية وتحصينية

ولقد ظل أمر خطبة الجمعة كذلك طوال عهد الخلفاء الراشدين مرورًا بالأمويين والعباسيين وما بعدهم من العصور الإسلامية، بل ظلت خطبة الجمعة بلا منازع مكافئ ولا منافس حتى عهد قريب، وبالتحديد حتى دخول عصر الطباعة وظهور وسائل الإعلام من صحف ومجلات ثم ظهور الإذاعة (الراديو)، ثم ظهور المسرح فالسينما فالتلفاز فالفيديو فالهواتف والحواسيب فالشبكة العنكبوتية والفضائيات… سيل جارف وطوفان مغرق وإعصار مدمر وبركان مهلِك للقيم والفضائل والأخلاق والأديان!

ومن يومها وقد صار لخطبة الجمعة منافس، وأصبح لها منازع، نعم لقد كان في بدايته منافسًا ضعيفًا ومنازعًا خائرًا لا سطوة له، أيام كانت للدين وللوعاظ وللخطباء المكانة العظمى في القلوب، وأيام كان الممثلون والمغنون… من المنبوذين الذين يُنظر إليهم باحتقار وازدراء، ويوصفون بأوصاف المهانة والتسفيه، فكانوا يعملون على وجل مرتجفين مرتعدين؛ أن لو تخطوا حدودهم فسيمنعون ويعاقبون.

لكن الناشئ الضعيف المرتعش بدأت تقوى شوكته وبدأ يسمو برأسه شيئًا فشيئًا، وبدأ يستقوي في سيره بمرضى القلوب وضعاف الإيمان، وأصبح يجتمع حوله الساقطون والأفاكون، حتى صار منافسًا قويًا لخطبة الجمعة، بل لقد تفوق عليها بالفعل في كثير من المجتمعات الإسلامية!

 

وفوجئ الخطباء والعلماء والمصلحون بترسانة إعلامية جبارة لها ممولوها ولها أذرعها ولها مؤيدوها ولها متابعون بالملايين، فوجئ الخطباء أنهم لم يصبحوا المرجعية للسائلين وللمتعلمين، بل سُحب البساط من تحت أرجلهم، وتسلَّم أهل الفضائيات القيادة بدلًا منهم، وانتزعوا ثقة الناس فيهم، وصار لخطبة الجمعة ألف منافس قوي وألف منازع شرس، وما يبنيه الخطباء نهارًا يهدمه ألف معول بالليل، وأصبح الناس يجادلون الخطباء وينازعونهم ويخطِّئونهم، ووُضع الخطيب المصلح في موقف المتهم المدافع عن نفسه!

وأفاق المصلحون، لكن للأسف بعد فوات الأوان، أفاقوا بعد أن استطاع أرباب الفواحش على قنواتهم الفضائية أن ينحُّوهم عن قيادة الأمة! أفاقوا بعد أن شوهوهم أمام الناس وقلَّلوا من شأنهم وزلزلوا مكانتهم، أفاق المصلحون وقد ملأ المفسدون -من خلال الفضائيات- عقول الناس بالسم الزعاف وبالخبال والإرجاف، ساقوهم إلى العلمانية سوقًا وقادوهم إلى الإباحية والانحلال! وسوغوا لهم التفلت من “أغلال” الدين ومن قيود الآداب والأخلاق والأعراف!

لكن المصلحين -على كل حال- أفاقوا، أفاقوا وتنادوا: كيف نترك هذه الوسائل المؤثرة الفعالة من الإنترنت والفضائيات للمفسدين وحدهم يعيثون بهما تدميرًا وتشويهًا، أوَنخلي لهم الساحة؟! وشرع المصلحون يقتحمون مجال الفضائيات، يبتغون مجابهة الإعلام المفسد الغرور، لكن دعونا نقرر هذه الحقيقة المؤلمة: إنهم ما زالوا إلى الآن -في مجال الفضائيات- يحبون ويزحفون! لا يستطيعون مواجهة القنوات الفاسدة الماجنة، وأسباب ذلك كثيرة؛ ضعف إمكانيات وندرة كوادر وغياب رؤية وتشتت جهود

***

ولنهتم الآن بما يخصنا من هذا الأمر فنقول: ما دورنا -نحن معاشر الخطباء- في زمن الفضائيات؟ ولنكن أكثر تحديدًا فنقول: ماذا يستطيع الخطيب أن يصنع ليصد تغول الفضائيات؟ كيف يواجه شراستها ويوقف زحفها ويحصن سامعيه ضدها ويخفف من وقعها على رواد مسجده؟ نقول: هذا ما عقدنا هذا المقال من أجله: “خطيب في زمن الفضائيات”.

نعيد: ما زال الأمل موجودًا وإن كان سبيل تحصيله ممتلئًا شوكًا وغصصًا وعقبات، إني أقول في ثقة: مع أن الوقوف في وجه طوفان الفضائيات أصبح في زماننا صعبًا لكنه ليس مستحيلًا، بل هو في إمكان كل خطيب مخلص مجتهد مثابر مرابط، ولعل البنود التالية هي بداية الصمود في وجه الفضائيات:

البند الأول: تفكيك قشور التزييف:

إنما يعتمدون في قنواتهم الهدامة على شيئين -يعتمد عليهما كل مفسد مخرِّب هدام-؛ وهما: إثارة الشهوات وطرح الشبهات، والحقيقة أنهم يتخذون من إثارة الغرائز والشهوات طريقًا إلى الترويج للشبهات، فأما الشهوات فسوف يأتي الكلام عنها -إن شاء الله-، وأما الشبهات فإن لهم في ترويجها طرقًا ملتوية خبيثة ماكرة من خداع وتدليس وقلب للحقائق وتزييف للوقائع وتضليل متعمد مقصود

وأخطر تلك القنوات الفضائية المثيرة للشبهات على الإطلاق هي القنوات التبشيرية، ومنها ما يرفع راية التبشير علانية، وأكثرها من يتوارى خلف ألف ستار، ولقد عاصرت حيلة خبيثة لإحدى تلك القنوات؛ أن خرج مذيعوها ذات يوم ينددون -في الظاهر- بامرأة نصرانية مثقفة قد أسلمت، واستضافوها على قناتهم “التبشيرية” -ولولاهم لما عرفها الناس أصلًا-، وتلقفتها باقي القنوات الفضائية بما فيها قنوات “إسلامية”، فرحين بإسلامها مستبشرين أن يلحق بها أمثالها، حتى بلغت شهرة تلك المرأة الآفاق.

وما هي إلا أسابيع أو شهور حتى خرجت علينا نفس القناة مستضيفة نفس المرأة وقد ارتدت عن الإسلام! وفتحوا لها اللقاءات العديدة يتيحون لها المجال لتجيب عن سؤال واحد: “لما ارتددتي؟”، وعلى مدار لقاءات عديدة طويلة أخذت تُعدِّد وتُفصِّل أسباب ارتدادها، وتبرز ما أسمته “سلبيات الدين الإسلامي”، وتطعن وتغمز وتلمز وتنصح أقرانها ومشاهديها ألا ينخدعوا بشعارات ذلك الدين -تقصد الإسلام-، وألا يخوضوا تجربتها المريرة التي خرجت منها محطمة!

ولم يكتفوا بذلك بل ضمُّوا إليها أمثالها من المرتدين عن الإسلام، يشككون ضعاف الإيمان في دينهم، ويحصنون غير المسلمين ضد “عدوى” الإسلام

ولقد أدركت حين رأيت تلك الحكاية و”التمثيلية” تتكرر من حين إلى آخر أنهم يقومون بتلك الحيلة التنصيرية أو التهويدية القديمة التي قام بها أهل الكتاب من قبلهم وفضحها القرآن الكريم قبل قرون من الزمان: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران: 72]، يقول ابن كثير: “هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس: “إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين”، ولهذا قالوا: (لعلهم يرجعون).

وقد نقل الإمام الخازن تفاصيل تلك المكيدة قائلًا: “تواطأ اثنا عشر حبرًا من يهود خيبر وقرى عرينة فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون اعتقاد القلب، ثم اكفروا آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا أن محمدًا ليس هو بذلك المنعوت وظهر لنا كذبه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحاب محمد في دينه واتهموه وقالوا: إنهم أهل الكتاب وأعلم به منا فيرجعون عن دينهم!

وما هذه إلا حيلة واحدة من حيل تلك القنوات الماكرة، وإلا فحيلهم لإثارة الشبهات وإلقائها بين المسلمين كثيرة لا نستطيع حصرها في هذه العجالة، وصدق الله: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم: 46].

ومهمتك -أيها الخطيب البارع- أن تفكك قشور تزييفهم، نعم هي قشور، فسهل أن تبطلها إن علمت كيف تؤتى، قف لكل شبهة بالمرصاد، افضح مكر مروجيها، واعلم أنهم لن يأتوا بجديد وإنما يعيدون نشر شبهات أسلافهم، فأعدد لكل شبهة جوابًا، وغالبًا ما تجد لكل حيلة إشارة في القرآن أو في السنة فخذ منهما وقل: “قد فضح القرآن -أو السنة- حيلتهم وكشف مكرهم”، قل: “قد سبقهم إلى تلك الحيلة أجدادهم وأسلافهم من كفار مكة أو من يهود المدينة”…

البند الثاني: مقاومة الإغراء بالإغراء:

جبلت النفس على حب المستلذات وزين لها ذلك، قال الله -تعالى-: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ…) [آل عمران: 14]، وهم في فضائياتهم يعلمون ذلك، ويدركون أن أقرب طريق للجذب والإغراء والإغواء هو الضرب على وتر الغرائز وإثارتها وإطلاقها مسعورة مجنونة، وأكبر الظن أنهم لم يدركوا تلك الحقيقة من خلال الشرع المطهر كتلك الآية الكريمة الذي أوردنا، لكنهم يعرفونها من مؤشرات كثيرة منها: “نسبة المشاهدة”؛ فالقناة التي تعرض المواد الإباحية أو “الترفيهية” ترتفع نسبة مشاهدتها بشكل ملحوظ عن غيرها من القنوات التي لا تعرض موادًا إباحية وإن لم تكن هي الأخرى قنوات ملتزمة دينيًا!

وتستطيع ببساطة -أيها الخطيب اللبيب- أن تدرك ذلك من خلال -مثلًا- موقع “اليوتيوب” على الشبكة العنكبوتية، فإنه سيحزنك أن تجد مقاطع الخطب والدروس والمحاضرات والمواد الجادة والدينية وعدد مشاهدتها قليل جدًا بالنسبة لمقاطع أخرى تُستخدم فيها الإثارة الجنسية من رقص وغناء فاحش وتعرية للأجساد… ولقد أحزنني أن وقفت على مقاطع على الموقع المذكور لعلماء مشهورين ومعروفين ومفوهين ولم تحصد خلال عدة سنوات إلا بضعة آلاف من المشاهدات، ثم وجدت أغانٍ لـ”مطربات” كاسيات عاريات وقد حصدت كل أغنية منها على عدة ملايين من المشاهدات خلال بضعة شهور وليس سنوات! ولولا التحفظ والتعفف عن ذكر أسماء الساقطات والإشارة إلى مقاطعهن ووضعهن في مقارنة مع الأفاضل الأجلاء من العلماء لذكرتُ نماذج لهؤلاء وأولئك… لكنك تستطيع التأكد من الأمر ببساطة عن طريق متابعة تاريخ نشر المقطع ثم عدد المشاهدات التي حققها على الموقع المذكور أو أي موقع مشابه.

ومقاومة الإغراء بالإغراء منهج قرآني نبوي أصيل، ففي القرآن وبعد آية التزيين السابقة؛ (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ…) [آل عمران: 14]، جاءت مقاومة الإغراء بالإغراء في الآية التالية مباشرة والتي تقول: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ…) [آل عمران: 15]، فإن أغروا الناس بالكاسيات العاريات، فالقرآن يقدِّم الحور العين الطاهرات العفيفات:

دع المصوغات من ماء ومن طين *** وانقل هواك لحور خرد عين

ولقد انبهر الصحابة يومًا بقطعة طرية لينة من حرير الدنيا حتى كاد بعضهم أن يفتتن بها، وربما انطلقت خواطر بعضهم إلى ما وراءها من تنعم وتلذذ وشهوات… لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتركهم نهب الخواطر، بل قاوم ذلك الإغراء القائم الماثل بين أيديهم بإغراء من نوع آخر؛ فقد قارنها بما أعد الله للصالحين في الجنة، فعن البراء بن عازب قال: أهدي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- سرقة من حرير، فجعل الناس يتداولونها بينهم ويعجبون من حسنها ولينها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أتعجبون منها؟”، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: “والذي نفسي بيده، لمناديل سعد في الجنة خير منها".

ولقد سمعنا جميعًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يحكي عن أول زمرة تدخل الجنة فيقول: “لكل امرئ منهم زوجتان، كل واحدة منهما يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن، وفي المقابل قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجال الجنة: “والذي نفسي بيده، إن أحدهم ليعطى قوة مئة رجل في المطعم والمشرب والشهوة والجماع".

ودعونا نسأل هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقصد بوصفه للحور العين هذا الوصف الدقيق إثارة جنسية مثلًا؟!، نجيب: حاشا لله وصلى الله وسلم عليه وعلى آله الطاهرين، حاشاه أن يصنع ذلك، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- يدرك تمام الإدراك ما يتعرض له -وما سيتعرض له- أهل الأرض من إغراءات وأنه ما ترك “فتنة أضر على الرجال من النساء ، فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يقاوم الإغراء بالإغراء؛ فمن تعفف عن شهوة الفرج الحرام في الدنيا نال أضعاف أضعافها في الجنة مما لا وجه للمقارنة بينهما.

كذلك فإن من لازم الشهوات والتلذذ في الدنيا: الأطعمة الفاخرة وملء البطن بها، وهذا إغراء جديد، لكنه قد قُوومَ بأغراء أعظم في الجنة، فقد روي عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:  “أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم، بيد كل خادم صحفتان صحفة من ذهب وصحفة من فضة، في كل واحدة لون ليس في الأخرى، يأكل من آخرها مثل ما يأكل من أولها، يجد لآخرها من اللذة والطيب مثل ما يجد لأولها"، فليذهب إذن طعام الدنيا وشرابها إذا ما قورن بهذا الطعام والشراب.

وقد يكون الإغراء الطاهر المقدَّم لمقاومة الإغراءات القذرة إغراءً روحيًا قلبيًا إيمانيًا لا يصلح إلا مع الأتقياء الأنقياء، فقد روي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “النظر إلى المرأة سهم من سهام إبليس مسموم، فمن تركه خوف الله -عز وجل- أثابه الله -تعالى- إيمانًا يجد حلاوته في قلبه".والمؤمن التقي وحده هو من يجد لذة الإيمان أجمل وأشهى من لذة النظر إلى النساء، ومن ذاق عرف.

وهكذا فاصنع -أيها الخطيب الزميل-؛ قاوم إغراء الفضائيات بإغراء الجنان، إذا ما وجدت شهوة قد استحكمت في سامع لك فقدِّم له إغراءً لا يقاوم من إغراءات الجنة، فإنك إن فعلت فأنت المنتصر لا محالة؛ فلا نعيم يصمد أمام نعيم الجنة بشرط: أن تحسن أنت تصويرها ونقل تفاصيلها.

البند الثالث: إعلاء قيمة الوقت ووسائل الانتفاع به:

أخي الخطيب: اتخذ من قيمة الوقت -وأنه هو العمر على وجه الحقيقة- محورًا ووسيلة جديدة في مقاومة طغيان الفضائيات، ولماذا؟ لأن الكل يعي -حتى متابعي الفضائيات أنفسهم- أن أغلب ما يُقدَّم على شاشاتها هو تضييع للوقت في تفاهات ومجون وعبث مما لا ينفع ولا يفيد.

وعليه فأشعرهم بقيمة الوقت وعلِّمهم سُبُل استثماره في خير الدنيا أو الآخرة، وأخبرهم أن الفاروق عمر كان يقول: “إني أكره الرجل أن أراه يمشي سبهللًا؛ أي: لا في أمر الدنيا، ولا في أمر آخرة”… وهو ما كرره ابن مسعود -رضي الله عنه وعن عمر- وإن اختلفت الألفاظ فقال: “إني لأبغض الرجل فارغًا لا في عمل دنيا ولا في عمل الآخرة”.

أشعرهم بقصر الأعمار وأنها تمر أسرع من الخيال، أخبرهم بحديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك"، اجعلهم يحسون أن وقتهم هو رأس مالهم فإن استخدموه في خير غنموا وإن ضيعوه في شر ندموا، فقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: “من طال عمره وحسن عمله” قال: فأي الناس شر؟ قال: “من طال عمره وساء عمله"، وازرع في قلوبهم أن المغبون هو من ضيَّع وقته: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.

قفهم أمام أنفسهم مسئولين: كيف ننفق أعمارنا أمام تافه وحقير؟ هل ما يُعرَض على الفضائيات يستحق أن نضيع فيه أوقاتنا؟… أخبرهم أنهم أمام الله مسئولون عن وقتهم: “ما تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه"، وقل لسامعك: بدلًا من أن تشاهد فيلمًا مدته ساعتان ثم لا تستفيد منه شيئاً، لما لا تستثمرهما في الجلوس مع أولادك تحدثهم وتتقرب منهم وتتعرف على مشاكلهم؟! لما لا تقضيهما في عمل إضافي تزيد بك دخلك؟! لما لا تقرأ فيهما كتابًا نافعًا؟! لما لا تتلو فيهما القرآن أو تذكر ربك أو تتأمل في خلقه؟! لما لا تقضيهما في نزهة أو خلوة أو زيارة تصل بها رحمك

وإنك -أيها الخطيب- إن نجحت في خلق روح الحرص على الأوقات وعلى تمضيتها في النافعات ونجحت أيضًا في تعليمهم وسائل استثمار أوقاتهم، فقد وُفقت في غلق الباب على الفضائيات؛ فإن كثيرًا من متابعي الفضائيات لا يدمنونها إلا تقضية لفراغ قاتل يحيونه، ولو وجدوا شاغلًا سواها ما أدمنوها، وتكون بذلك قد صنعت بأهل الفضائيات ما أرادوا هم أن يصنعوه بأهل الحق؛ إذ يصدون الناس عن الاستماع إليهم ويحولون بشتى الوسائل بين الناس وبين الإنصات للصالحين.

***

وألقاك -أيها الخطيب الحبيب- في الجزء الثاني مع بنود أخرى لمقاومة زحف الفضائيات.

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.