سلسلة: كيف تكون خطيبًا مقنعًا؟ (3) حاصر مستمعيك

أعلم أننا لسنا في حلقة مصارعة، ولا في مضمار سباق، ولا في ساحة حرب، ليكون هناك حصار ومحاصرة، ولكني أدعي -وأظن نفسي على صواب- أن العملية الخطابية الإقناعية أشبه ما تكون بالمصارعة والمسابقة والحرب؛ فأنت -أيها الخطيب- تصارع وتحارب ما استقر في وجدان الناس من رواسب وموروثات وقناعات خاطئة، وأنت -إذا ما تجاوبوا معك في لحظة تأثيرية- تسابق لتزرع في قلوبهم وأفهامهم الحق قبل أن يعاودهم الانتكاس والارتداد، لذا فحال الخطيب الذي يجهد لإقناع مستمعيه كحال المصارع والمسابق والمحارب.

نعم -أيها الخطيب- من أساليب الإقناع الناجحة المجربة: «أسلوب المحاصرة»؛ أن تحاصر مستمعيك، ومنطقي أن تسأل: وكيف أحاصرهم؟!

نقول: تحاصرهم بالحجج الدامغة والبراهين الصادعة والأمثلة الناصعة والأدلة القاطعة، ثم تحاصرهم بالأساليب الجذابة التي تخلب ألبابهم وتبهر عقولهم وتأسر وجدانهم، حتى لا تدع لهم خيارًا ولا فكاكًا ولا مهربًا ولا بديلًا من أن يقتنعوا ويذعنوا للحق الذي تحمل راضين راغبين. محاصرتهم: أن تتبع أساليب معينة في خطاب الناس وجذب انتباههم وملاحقتهم بوسائل احترافية لا مجال معها لمراوغة ولا مجادلة ولا منازعة، فيهدي الله من شاء بسببها إلى الحق الذي تحمل.

ودعونا الآن نتناول بعض وسائل وأساليب ذلك الحصار وتلك المحاصرة بشيء من التفصيل.

الوسيلة الأولى: جذب انتباههم إليك، وصبِّ تركيزهم عليك:

لا تدع مستمعيك يضيِّعون لحظة من وقت مكثهم بين يديك بعيدًا عنك، ولا تسمح لهم أن يغادروا المسجد بقلوبهم وعقولهم وإن بقيت أجسادهم أمام عينيك، بل اجذب انتباههم واخلب لبهم وجمِّع تركيزهم وأشعل شوقهم، ثم صُبَّ ذلك الانتباه والتركيز والتشوق كله على موضوعك الذي تتحدث فيه وعلى ما تريد توصيله إليهم وإقناعهم به، لا تفوتهم منه كلمة، واستخدم لصنع ذلك إحدى الطرق التالية أو كلها.

1/تخليل الكلام بالصمت: قل كلمة مشوقة، ثم اسكت برهةً كي يستوعب الناس كلمتك ويشتاقوا إلى ما بعدها فيكونوا على أهبة الاستعداد إلى استيعابه، ذاك أسلوب رائع ما تعلمناه إلا من قدوة الخطباء وسيد الدعاة محمد -صلى الله عليه وسلم- فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر فقال: "أتدرون أي يوم هذا؟"، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟" قلنا: بلى، قال: "أي شهر هذا؟"، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس ذو الحجة؟"، قلنا: بلى، قال: "أي بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليست بالبلدة الحرام؟" قلنا: بلى، قال: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم"([1]).

قال النووي: "هذا السؤال والسكوت والتفسير أراد به التفخيم والتقرير والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر والبلد واليوم"([2])، وما أروعه من أسلوب بديع لجذب انتباه المخاطبين. 

وهو نفس ما استخدمه -صلى الله عليه وسلم- مع معاذ بن جبل -رضي الله عنه- الذي يروي قائلًا: بينا أنا رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: "يا معاذ بن جبل"، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: "يا معاذ"، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: "يا معاذ"، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: "هل تدري ما حق الله على عباده"، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا"، ثم سار ساعة، ثم قال: "يا معاذ بن جبل"، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، فقال: "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه"، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق العباد على الله أن لا يعذبهم"([3])، قال النووي: "وأما تكريره -صلى الله عليه وسلم- نداء معاذ فلتأكيد الاهتمام بما يخبره، وليكمل تنبه معاذ فيما يسمعه"([4]).

وليس بعيدًا عن ذلك ما فعله -صلى الله عليه وسلم- مع عقبة بن عامر -رضي الله عنه- الذي روى قائلًا: كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا عقبة، قل" فقلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ فسكت عني، ثم قال: "يا عقبة قل" قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ فسكت عني، فقلت: اللهم اردده علي، فقال: "يا عقبة قل" قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ فقال: "قل أعوذ برب الفلق"، فقرأتها حتى أتيت على آخرها، ثم قال: "قل" قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال: "قل أعوذ برب الناس" فقرأتها حتى أتيت على آخرها، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما" ([5]).

2/السؤال التنبيهي التحضيري: فلا تلق كلامك وما عندك من أول وهلة، بل قدِّم عليه سؤالًا يشحذ الأذهان ويهيئ الأفهام ويلفت الانتباه، تمامًا كما فعل قدوة الخطباء -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد سأل أصحابه يومًا قائلًا: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟» قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: "فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر" ([6]).

ومثله سؤاله -صلى الله عليه وسلم-: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟" فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: "الله الواحد الصمد ثلث القرآن" ([7]).

ويسأل -صلى الله عليه وسلم- هذه المرة فيقول: "ما تعدُّون الرقوب فيكم؟" قالوا: الذي لا يولد له، قال: "ليس ذاك بالرقوب؛ ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئًا"، قال: "فما تعدون الصرعة فيكم؟" قالوا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: "ليس بذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب" ([8]).

3/طرح الأحاجي: وما مثل الأحاجي يجلب التركيز ويصفي الذهن، فعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي" فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: "هي النخلة" ([9]). 

ولك أن تتخيل كيف كان تركيز الناس وانتباههم في الحديث الأول، وكيف كان تلهف وتشوف معاذ في الحديث الثاني، أما في الحديث الثالث فقولة عقبة: "اللهم اردده عليَّ" تنبؤك كم بلغ به الاشتياق والرغبة في سماع ما سيعلمه إياه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم تخيل كيف لفتت الأسئلة والأحجية انتباه الصحابة إلى ما سيقوله -صلى الله عليه وسلم-، فيا له من أسلوب ناجح في التشويق وفي جذب الانتباه وفي الإقناع.

الوسيلة الثانية: المحاصرة بالحجج القاطعة والبراهين الظاهرة:

الأدلة والحجج والبراهين أنواع وأشكال ودرجات، فمنها ما هو "كالدبابيس والإبر"؛ تشك شكَّة ثم سرعان ما تهدأ، ومنها ما هو "كالمسامير"؛ تنخس نخسة -هي أقوى من الأولى- لكنها أيضًا تهدأ، لكن هناك من الأدلة ما هو "كالمطارق والشواكيش"؛ لا تزال تطرق وتلح وتقرع وتدق ما تحتها حتى تثبته وترسخه، ولا تدع مجالًا لما قصدتْه حتى يثْبُت ويرْسُخ.

أخي الخطيب: إذا ما جئت تُحضِّر خطبتك وتجمع أدلتك، فتخيَّر من الحجج والبراهين والأدلة ما هو من النوع الثالث؛ أدلة وبراهين وحجج تدمغ وتبهت وتقرع العقول قرعًا لا يدع لها مجالًا إلا أن تذعن وتخضع، تمامًا كما فعل إبراهيم -عليه السلام- فقد سأله قومه عن تحطيم أصنامهم: (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ) [الأنبياء:62]، فأجابهم قائلًا: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء: 63]، فبهتتهم حجته؛ إن هذه الأصنام لا تنطق، ولو سألوها لم تجب، بل هي لم تستطع الدفع عن نفسها إذ حُطمت!

فلم يجدوا بُدًا أن يعترفوا بضلالهم: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) [الأنبياء: 64]، علق القرطبي قائلًا: "قوله تعالى: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ) أي: رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجة خصمه"([10]).

وتعالوا نستعرض سريعًا بعضًا من حجج القرآن الناصعة القاطعة المحاصِرة:

الأولى: قول الله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 65]؛ "أي: كيف تدعون -أيها اليهود- أنه كان يهوديًا وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟! وكيف تدعون -أيها النصارى- أنه كان نصرانيًا وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟!"([11])، "قال الزجاج: هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى؛ إذ التوراة والإنجيل أنزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتاب"([12]).

الثانية: قوله -تعالى-: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنبياء: 22]؛ "أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير، لأن أحدهما إن أراد شيئًا والآخر ضده كان أحدهما عاجزًا، وقيل: معنى: (لفسدتا) أي خربتا وهلك من فيهما؛ بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء"([13])، وهذا واقع ملموس مشاهد، بل إن الناس يقولون: "إن كان لمركب ربانان غرقت".

وقد زاد القرآن هذا الدليل بيانًا حين قال: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [المؤمنون: 91]؛ "أي لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه، ولم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره، ومنع كل إله الآخر عن الاستيلاء على ما خلقه هو، ولطلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم"([14]).

الثالثة: قوله -تعالى- حاكيًا عن إبراهيم وهو يصاول النمرود: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة: 258]؛ "يعني تحير نمرود ودهش وانقطعت حجته ولم يرجع إليه شيئًا وعرف أنه لا يطيق ذلك"([15])، "ولم يمكنه أن يقول: أنا الآتي بها من المشرق، لأن ذوي الألباب يكذبونه"([16]).

فليتعلم الخطيب من القرآن كيف يقدِّم الحجة العقلية المنطقية الدامغة التي تقرع وتصدع ولا تدع لعقل السامع مجالًا للمراوغة ولا للمكابرة، بل تدفعه دفعًا -يكاد أن يكون إجباريًا إلزاميًا- إلى أن يقتنع بما يقول.

الوسيلة الثالثة: اقلب عليه حجته، واستخراج الدليل من جعبته:

وهذا أسلوب ناجح من أساليب المحاصرة؛ أن تستخدم حجة مخاطبك -ذاتها- في إقناعه، وتجعل من مسلَّماته -التي يؤمن بها أشد الإيمان- أداة لإقناعه بما تطرحه عليه.

وقد فعل حاطب بن أبي بلتعة عمليًا ما نحاول نحن أن نشرحه نظريًا، يروي حاطب فيقول: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس ملك الإسكندرية، قال: فجئته بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزلني في منزله وأقمت عنده، ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته، وقال: إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني، قال: قلت: هلم، قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟ قلت: بل هو رسول الله، قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ قال: فقلت: "عيسى ابن مريم أليس تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى، قلت: "فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا؟!" فقال لي: "أنت حكيم قد جاء من عند حكيم"([17]).

فها هي حجة المقوقس الدامغة -في نظره- قد قلبها حاطب ضده ووجهها سهمًا إلى عقله، فلم يملك إلا أن يثني عليه وعلي نبيه -صلى الله عليه وسلم- مقتنعًا مستسلمًا.

بل هذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يُصِرُّ ألا يقيم الحجة على اليهود إلا من كتابهم، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: أُتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل وامرأة من اليهود قد زنيا، فقال لليهود: "ما تصنعون بهما؟"، قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران: 93]، فجاءوا، فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، قال: "ارفع يدك"، فرفع يده فإذا فيه آية الرجم تلوح، فقال: يا محمد، إن عليهما الرجم، ولكنا نكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما([18]).

وفي واقعة مشابهة يحاصرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- باستخراج الحجة من لسانهم بدلًا من كتابهم، فعن البراء بن عازب، قال: مر على النبي -صلى الله عليه وسلم- بيهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟"، قالوا: نعم، فدعا رجلًا من علمائهم، فقال: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم" قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم ([19])، وبهذا قد اتضح لعامة اليهود ساعتها حكم هذه المسألة، وحري أن يسلِّموا ويقتنعوا بها.

وهذي الوسيلة من وسائل المحاصرة الإقناعية الإلزامية لا تكون فقط مع من جحد وعاند، بل تكون أيضًا مع من جهل وتشكك فسأل واستفسر، وبالمثال يتضح المقال؛ فهذا أعرابي يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرته، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل لك من إبل؟" قال: نعم، قال: "ما ألوانها؟" قال: حمر، قال: "فهل فيها من أورق؟" قال: نعم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فأنى هو؟" قال: لعله يا رسول الله يكون نزعه عرق له، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وهذا لعله يكون نزعه عرق له"([20]).

ولا أرى إلا أن هذا الرجل قد اقتنع أيما اقتناع وسلَّم أيما تسليم، وكيف لا وإنما استخرج -صلى الله عليه وسلم- الحجة من لسانه وطبقًا لما يؤمن هو به.

فاجتهد -أيها الخطيب- ما استطعت إلى ذلك سبيلًا أن تحاصر سامعيك ومخاطبيك باستخراج دليلهم منهم، وباستخدام مسلَّماتهم، وإتيانهم مما يؤمنون به ويثقون فيه، فإن فعلت فقد حاصرتهم إقناعيًا وكسبتهم تأثيريًا.

الوسيلة الرابعة: المحاصرة بالأسئلة التقريرية والتهكمية:

قد فعلها نبي الله إبراهيم فحاصر قومه متسائلًا: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) [الشعراء: 72-73]، فتحيروا في الجواب ولم يجدوا إلا أن يقولوا: (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [الشعراء: 74]، وهذي حجة المفلس الذي لا حجة له!

ومثله قوله -تعالى-: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس: 34-35]، ويا لها من حجة! ويا له من حصار إقناعي!

ولقد أجاد ابن القيم هذا الفن عندما خاطب من يعبدون المسيح -عليه السلام- قائلًا في قصيدة طويلة رائعة كلها تساؤلات تقريرية تهكمية تحاصرهم محاصرة إقناعية:

أعباد المسيح لنا سؤال *** نريد جوابه ممن وعاه

إذا مات الإله بصنع قـوم***أماتوه فما هذا الإله؟

وهل أرضاه ما نالوه منه؟ ***فبشراهم إذا نالوا رضاه

وإن سخط الذي فعلوه فيه***فقوتهم إذا أوهت قواه

وهل خلت العوالم من إله***يدبرها، وقد سمرت يداه؟

وكيف تخلت الأملاك عنه ***بنصرهم وقد سمعوا بكاه؟ ([21])

فإن نجحت في حصار مستمعيك فقد مالت كفة الميزان الإقناعي إلى جانبك، وقد امتلكت أسلوبًا إقناعيًا جديدًا، وقد تقدمت خطوة في طريق كونك: "خطيبًا مقنعًا".

 

والآن أخي الخطيب: نفع الله بك، وألقاك مع أسلوب إقناعي جديد.

—-

([1]) البخاري (1741)، ومسلم (1679).

([2]) شرح النووي على مسلم (11/169)، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1392.

([3]) البخاري (5967)، ومسلم (30).

([4]) شرح النووي على صحيح مسلم (1/231)، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ.

([5]) النسائي (5438)، والدارمي (3482)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن النسائي).

([6]) البخاري (6442).

([7]) البخاري عن أبي سعيد الخدري (5015)، ومسلم عن أبي الدرداء (811).

([8]) مسلم (2608).

([9]) البخاري (61)، ومسلم (2811).

([10]) تفسير القرطبي (11/302)، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة الثانية، 1384هـ.

([11]) تفسير ابن كثير (2/57)، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1420هـ.

([12]) تفسير القرطبي (4/107).

([13]) تفسير القرطبي (11/279).

([14]) تفسير الخازن (3/276)، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.

([15]) تفسير الخازن (1/193(.

([16]) تفسير القرطبي (3/286(.

([17]) البداية والنهاية لابن كثير (4/310)، الناشر: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

([18]) البخاري (7543)، ومسلم (1699).

([19]) مسلم (1700).

([20]) البخاري (5305)، ومسلم (1500).

[21])) إغاثة اللهفان لابن القيم (2/292)، الناشر: مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية، والقصيدة طويلة رائعة مفيدة، قد انتقينا منها أبياتًا معدودة.

 

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.