أحداث غزوة بني قريظة

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسَلين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فقد اتَّخذ البعضُ من الجهلة وأصحاب النيات المَقِيتة ممَّا جرى يومَ قُريظةَ وسيلةً ينالون بها من الإسلام ونبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم، وينعتون المسلمين بأوصافٍ لا تليق؛ كممارسة الإبادة الجماعية، والتطهير الديني للأقليات، دون الخوض في العمق ورصد الأحداث، ثم تحليلها تحليلًا علميًّا مبنيًّا على الواقعية، وبعيدًا عن المزايدة، ما حدا بي لكتابة هذه السطور والرد على الملاحدة الذين افتَرَوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42]، والله حسبي وعليه أتوكل.
إلى قريظة:
لفهمِ ما جرى يوم قريظةَ لا بد من التعريجِ إلى غزوة الخندق، والتوقف عند أحداثها؛ ليفهم البعضُ جزءًا من القصة، بل ولا بد من العودة إلى هجرةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، فمِن هنا يفهم المسلمُ أصلَ القصة.
هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة:
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، لَمَّا أسلم الأنصار وبايعوه بيعةَ العقبة الثانية، وقد عانى من قسوةِ أهل مكة واضطهادِهم وأذيتِهم لأصحابه، بل قتلهم لبعضهم؛ كسميَّةَ بنت خياط، وحارثة بن أبي هالة، لا لشيء إلا أنهم قالوا: ربنا الله، ورفضوا الانحناء للأوثان المنحوتة.
ولَمَّا وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين المسلمين، وعاهد اليهود.
ظل المسلمون متمسكين بالعهود، إلا أن اليهود كلما برقت لهم بارقةُ أملٍ نكثوا العهد، هُزِمت قريشٌ يوم بدر وصُرع صناديدُ الكفر، فذهب كعب بن الأشرف - الشاعر اليهودي - يُحرِّض قريشًا على الثأر لقتلاها، واشتد أذاه للمسلمين، فبدأ يشبِّب بنسائهم، ما حدا برسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتدبَ له مَن يقتله، فقال في ملأٍ من أصحابه: "مَن لكعب بن الأشرف؛ فقد آذى الله ورسوله؟"، فقال محمد بن مَسْلَمَةَ: أنا له يا رسول الله، وخرج إليه هو وأبو نائلة في سرية من المسلمين، فأتَوا برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يردعْ ذلك اليهود، بل قام بنو قَيْنُقاع بالبكاء على قتلى قريش يوم بدر، وبدؤوا التحرش بالمسلمين، فتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابتُه، مسرعين إلى حصون قينقاع، وكانت النتيجة إجلاء بني قينقاع، بعد أن شفع فيهم عبدالله بن أُبَي.
هدأ اليهود بعد تلك الواقعة وأظهروا تمسُّكهم بالعهد، إلى أن قَتَل عمرو بن أمية الضمري - الناجي الوحيد من مأساة بئر معونة - عامريَّينِ؛ ظنًّا منه أنه يثأر بذلك لأصحابه، ودون أن يعلم بعهدهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلتَ قتيلينِ، لَأَدِيَنَّهما"، وكان من بنود العهد مع اليهود: أن يُعينَ اليهودُ المسلمين في الملمَّات، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النَّضير - إحدى قبائل اليهود المجاورة للمدينة - يستعينهم في دِيَة العامريينِ، فأظهَروا تمسكهم بالعهد، ثم أرسلوا عمرو بن جحاش ليعلوَ الحصن ويُلقي عليه صلى الله عليه وسلم صخرةً؛ ظنًّا منهم أنه سيقتله، في تنصُّل واضح من العهود المبرَمة، فما كان إلا أن أعلم جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما بيَّت اليهود من الغدر به، فخرج من ديارهم، وأرسل إليهم يدعوهم للخروج من المدينة، وألَّا يُساكنوه فيها وقد همُّوا بما همُّوا به من الغدر، وأجَّلهم ثلاثة أيام، مَن وجده بعد ذلك منهم ضرب عنقه، فهموا بالرحيل، بَيْدَ أن إخوانهم من شياطين الإنس والجن أشاروا عليهم بألا يخرجوا، ووعدوهم ومنَّوْهم بالنصر، بَيْدَ أن إرادة الله غالبةٌ.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه إليهم، لَمَّا جاءه منهم البلاغ أنهم لن يخرجوا، وليفعل ما بدا له، فلما رأى اليهود أن المسلمين مصرِّين على إخراجهم، نزلوا عند حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وما ذاك إلا ليقينِهم بعدلِه، فاصطلحوا أن لهم ما حمَلت الإبل إلا السلاح، فخرجوا مهزومين، واتجهوا إلى خيبر، وبعضهم ذهب إلى الشام.
يقول الملاحدة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استفرد بقبائلِ اليهود واحدةً واحدة، وإلا لَمَا تمكن من إخراجهم من المدينة، متناسين مَعيَّة الله ونصرَه للمؤمنين على قلة عددهم، وعدْل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شمل الصاحبَ والعدوَّ، دليلُه القرآن: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ ﴾ [الأنعام: 164]، وجاهلين بما جاء في وثيقةِ الصلح بين المسلمين واليهود - الذي جسَّد الآية الكريمة -: "أنه لا يأثم امرؤ بحليفه".
بقِيَتْ قريظةُ بأمان مع المسلمين بعد خروج بني النَّضير، وعاملهم المسلمون بمقتضى العهد، إلى أن خرج رؤوسُ بني النضير الذين أُجلوا من المدينة إلى قريش، وألَّبوا الأحزاب ضد المسلمين، وخرج 10000 مقاتل لغزو المدينة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع أصحابه واستشارهم، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق - كما هو معلوم من كتب السيرة - فلما رأى الأحزاب الخندق حائلًا دون اقتحام المدينة، قرَّروا فرض الحصار عليها، ومن المعلوم أن خطةَ النبي صلى الله عليه وسلم الحربيةَ هي حفرُ الخندق ووضع حراسات عليه، ثم أرسل النساء والأطفال إلى حصن المدينة، وأفرغها من المقاتلينَ.
طال الحصار دون أملٍ للأحزاب، وقُتِل أحدُ أعظم محاربيهم عمرو بن عَبْدِ وُدٍّ، في مبارزة مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لحظَتَها قرَّر قادة الأحزاب أن يأتوا المسلمين من مأمنِهم، فذهب حُيَي بن أخطب وبعضٌ من قادة اليهود إلى حصن بني قريظة؛ حيث استقبلهم كعب بن أسد - سيد بني قريظة - وبعد حديثٍ انضموا إلى الأحزاب، فعلم بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأرسل سعدَ بن معاذ، وسعدَ بن عُبادة، ومحمد بن مَسْلمة؛ ليتيقنوا له من الخبر، وأمرهم أنهم إن وجدوهم على العهد فليُعْلِنوها بين الناس، وإلا همسوا له همسًا خفيفًا، فلما جاء النفرُ إلى اليهود رأَوا منهم ما يدل على الغدر، وأسمعوهم ما يكرهون في رسول الله صلى الله عليه وسلم!
خذَّل نُعَيْمٌ الأحزابَ، وأرسل الله عليهم ريحًا اقتلعت خيامهم، وزلزلهم زلزالًا شديدًا، ما جعلهم يفرُّون للنجاة بجلودهم.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتِه ليستريح بعد فترة من مناجزة الأحزاب، فجاءه جبريل بالأمر الإلهي: أَوَضَعْتَ سلاحَك يا محمد؟! فإن الملائكة لم تَضَعْ أسلحتها بعدُ، وأمره بالمسير إلى قريظةَ؛ لتأديبها على غدرها، فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم النفيرَ العامَّ بين أصحابه: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يُصلِّينَ العصر إلا في بني قُريظة".
اجتمع المسلمون حول حصونِ بني قريظة، وما إن رأوهم حتى دب الرعب في قلوبهم، فنزلوا عند حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشفع فيهم الأوس؛ حفاظًا على مودة قديمة بينهم - وهم الذين أرادوا الفتكَ بالمسلمين في أحلك الأوقات، متناسين العهود وتلك المودة - فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأوسِ: "أترضَوْنَ أن يحكم فيهم رجلٌ منكم؟"، قالوا: نعم، قال: "فذاك إلى سعد بن معاذ".
يسأل البعض: لماذا سعد بن معاذ دون غيره؟
فالجواب: لأن سعدًا كان سيِّدَ الأوس، وهو الذي انتدبه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمكانتِه في قومه إلى اليهود، ليرشدهم إلى حفظ العهد، فلم يرعوا له إلًّا ولا ذمَّة.
ما هو حكم سعد؟
حكَم سعدٌ بقتل المقاتِلة، وسَبْي النساء والذرية، وتقسيم أموالهم غنيمةً بين المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمتَ فيهم بحكمِ الله من فوق سبع سموات".
ولنتأمَّل الحُكم:
مَن الذين حكَم بقتلهم؟
هم المقاتِلة، والمقاتِلة - في الاصطلاح - هم الذين قاتَلوا وحملوا السلاح؛ جزاءً وفاقًا.
وتوافينا كتب السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك عمرو بن سُعْدَى القُرَظي؛ لأنه لم يُقِرَّهم على نقض العهد، وشفع أحد أصحابه في الزبير بن باطا، فتركه له رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن اليهودي أصرَّ على اللحاق ببني قومه القتلى، فألحقه الأنصاري بهم!
فأين المأساة إذًا؟
وأين هي الإبادة المزعومة؟ 600 -700 مقاتل غير شريف، ينكثون العهود في أحلك الأوقات، ويهجمون على نساء وأطفال المسلمين في حصن المدينة، ولا يلقون بالًا للمقدسات الدينية، لاقوا جزاءَ غدرهم، ثم يتحدث البعض عن إبادة؟!
نساء وأطفال وشيوخ تُركوا في حصن المدينة دون حراسة، لاشتغال المسلمين بدفع عدوهم، يستفزهم هؤلاء، ولولا تلك الشجاعة التي أبدَتْها صفية بنت عبدالمطلب - عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لقتَلَهم اليهود، أو أرسلوهم قَرَابين لقريشٍ، وقد حدث مثل ذلك من بعض مشركي العرب الذين هم أكثر وفاءً من هؤلاء.
المسلمون أخذوا بحق الرد الذي كفله لهم القرآن: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 194، ولم يُمثِّلوا بقتلاهم، بل دفنوهم في مقابر جماعية.
اصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسِه منهم ريحانة، وأكرمها، بل تروي بعض المصادر أنه عرَض عليها الزواج، إلا أنها رأت أن بقاءها أَمَةً أشرفُ لها، فتركها وما اختارت، ووزَّع بين أصحابه دون أن يكره أحدًا منهم على اعتناق الإسلام.
لم توافِنا كتب السير عن مصير هؤلاء بعد السَّبي، هل افتداهم ذَوُوهم من يهود خيبر، أم ظلوا في عهدة المسلمين؟
إلا أن المصادر متَّفِقة أن المدينة لم تخلُ تمامًا من اليهود، كما يصور الذين يزعمون أن المسلمين مارسوا التطهير العِرقي بحق اليهود، بل توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعُه موهونة عند يهودي، وفي زمان أمير المؤمنين عمر كان اليهودُ لا يزالون بالمدينة.
 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.