مكانة المسجد وفضل بنائه وعمارته

 

أولا : فضل بناء المساجد :

يقول د/ سعود بن محمد البشر رحمه الله:
لقد نوه الله تعالى في كتابه الكريم بالمسجد ورفع قدره وأعلى مكانته وعظم شأنه واختاره بيتا له وأضافه إلى نفسه وأمر أن يرفع ويذكر فيه اسمه وجعله أحب البلاد إليه كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه  {أحب البلاد إلى الله مساجدها... } () إلخ، واعتبر عمارة المساجد من علامات الإيمان وسببا للهداية قال تعالى: {                         } () . وقد أثنى الله على عمار بيوته سواء كانت عمارتهم لها ببنائها وصيانتها ونظافتها أم كانت بإقامة الصلاة وذكر الله فيها، فكلا المعنيين مقصود بالعمارة () ... وكما نوه القرآن العظيم بمكانة المسجد أشادت السنة كذلك بما للمسجد من مكانة عظيمة يتجلى ذلك في حب رسول الله  للمسجد، فقد بدأ ببناء مسجده أول ما وصل إلى المدينة، لتنطلق منه الدعوة الإسلامية وليكون مدرسة ومعهدا وجامعه يتلقى فلها أصحابه تعليم القرآن الكريم والسنة المطهرة.

 

ويقول الشيخ/عبدالله بن صالح الفوزان:

( ورد في بناء المساجد أو المساهمة في بنائها أدلة كثيرة، تدل على أن ذلك من أجل الطاعات، وأفضل القربات؛ لأن المساجد بيوت الله تعالى، وهي الوسيلة لإقامة صلاة الجماعة، ولها وظائف عظيمة في نظر الإسلام.

قال تعالى: إنما يعمر مساجد الله منءامن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وءاتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين().

وقوله: يعمر مساجد الله شامل للعمارة بالبناء والعمارة بالعبادة؛ لأن باني المسجد يتقرب إلى الله تعالى ببنائه، فهو يعمر المسجد لطاعة الله تعالى.

وعن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – قال: إني سمعت رسول الله e يقول: "من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة" وفي رواية: "بنى الله له مثله في الجنة"().

وعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: "من بنى لله مسجداً ولو مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة" وفي رواية:  "ولو كمفحص قطاة"()، وفي حديث جابر – رضي الله عنه –  بلفظ:  "كمفحص قطاة أو أصغر . ."().

ومفحص القطاة: هو الموضع الذي تفحص التراب عنه، أي: تكشفه وتحيه لتبيض فيه(). وخصّ القطاة بهذا؛ لأنها لا تبيض في شجرة ولا على رأس جبل، إنما تجعل مجثمها على بسيط من الأرض. فلذلك شبه به المسجد().

قال في فتح الباري: (وحمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة؛ لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه لتضع بيضها وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة فيه، ويؤيده رواية جابر هذه، وقيل: بل هو على ظاهره، والمعنى: أن يزيد في مسجد قدراً يحتاج إليه، تكون الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد، فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر . . . )().

وتنبغي العناية ببناء المسجد بتهيئة المساحة الكافية، والاهتمام بتحديد جهة القبلة، وأن يتولى البناء أيد مسلمة أمينة، وأن تبنى بما يتناسب مع البنيان الحديث .

 

ويقول الشيخ/ سعيد بن علي القحطاني:

جاء فيه – أي عمارة المساجد-  نصوص كثيرة تدل على العناية بها، كقول الله :
 إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الـْمُهْتَدِينَ (). وتكون عمارة المساجد ببنائها، وتنظيفها، وفرشها، وإنارتها، كما تكون عمارتها: بالصلاة فيها، وكثرة التردد عليها لحضور الجماعات، وتعلم وتعليم العلوم النافعة، وأعظم العلم النافع تعلُّم القرآن وتعليمه، وغير ذلك من أنواع الطاعات()، وإخلاص هذه العبادات كلها لله تعالى، كما قال :  وَأَنَّ الـْمَسَاجِدَ لله فَلا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا ().

وقال الله :  فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَالله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ().

وقوله تعالى:  أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ : أي أمر الله ببنائها، ورفعها، وأمر بعمارتها، وتطهيرها، وقيل: أمر الله بتعاهدها، وتطهيرها من الدنس، واللغو، والأقوال، والأفعال التي لا تليق فيها(). وذكر الإمام الطبري رحمه الله أن معنى:  أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ  أي: أذن الله أن تُبنى، وقال بعضهم: ((أذن الله أن تعظم...)). ثم رجح القول الأول فقال: ((وأولى القولين عندي بالصواب القول الذي قاله مجاهد، وهو أن معناه: أذن الله أن ترفع بناءً، كما قال جل ثناؤه:

وقال العلامة السعدي - رحمه الله -:  فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ  هذا مجموع أحكام المساجد، فيدخل في رفعها: بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسات والأذى، وصونها من المجانين والصبيان، الذين لا يتحرزون من النجاسات، وعن الكافر، وأن تصان عن اللغو فيها، ورفع الأصوات بغير ذكر الله))().

وعن عمرو بن ميمون - رحمه الله - قال: ((أدركت أصحاب رسول الله ، وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره))().

 

ثانيا : الحث على بناء المساجد :

يقول الشيخ/ سعيد بن علي القحطاني:

حثّ النبي  على بناء المساجد ورغَّب في ذلك، فعن عثمان بن عفان عن النبي  أنه قال: ((من بنى مسجداً)) قال بكير: حسبت أنه قال: ((يبتغي به وجه الله)) ((بنى الله له مثله في الجنة)). ولفظ مسلم: ((من بنى مسجداً لله)) قال بكير: حسبت أنه قال: ((يبتغي به وجه الله تعالى، بنى الله له بيتاً في الجنة))().

وذكر ابن حجر رحمه الله أن قوله : ((من بنى مسجداً)) التنكير فيه للشيوع فيدخل فيه الكبير والصغير))(). ووقع في رواية أنس عن النبي  أنه قال: ((من بنى لله مسجداً صغيراً أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة))(). وجاء من حديث أبي ذر عن النبي  قال: ((من بنى لله مسجداً ولو قدر مفحص قطاة() بنى الله له بيتاً في الجنة))().

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله -: ((وحمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة؛ لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه؛ لتضع فيه بيضها، وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة فيه، وقيل: هو على ظاهره، والمعنى أن يزيد في مسجد قدراً يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد، فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر، وهذا كله بناء على أن المراد بالمسجد ما يتبادر إلى الذهن، وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد موضع السجود وهو ما يسع الجبهة فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر، لكن قوله: ((بنى)) يشعر بوجود بناء على الحقيقة، ويؤيده قوله في رواية أم حبيبة رضي الله عنها: ((من بنى لله بيتاً)) أخرجه سمويه في فوائده بإسناد حسن... لكن لا يمنع إرادة الآخر مجازاً إذ بناء كل شيء بحسبه، وقد شاهدنا كثيراً من المساجد في طرق المسافرين يحوطونها إلى جهة القبلة، وهي في غاية الصغر، وبعضها لا تكون أكثر من قدر موضع السجود، وروى البيهقي في الشعب من حديث عائشة نحو حديث عثمان، وزاد: قلت: وهذه المساجد التي في الطرق؟ قال: نعم، وللطبراني نحوه من حديث أبي قرصافة وإسنادهما حسن))().

أما قوله : ((من بنى مسجداً لله)) فمعناه: ((أي مخلصاً في بنائه لله تعالى))(). وذكر ابن حجر رحمه الله عن ابن الجوزي - رحمه الله - أنه قال: ((من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيداً من الإخلاص))().ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد المخصوص؛لعدم الإخلاص،وإن كان يؤجر في الجملة على حسب إخلاصه،لكن الإخلاص الكامل لا يحصل إلا من المتطوع().

أما قوله  في حديث عثمان : ((بنى الله له مثله في الجنة)) فقال القرطبي - رحمه الله -: ((هذه المثلية ليست على ظاهرها... وإنما يعني أنه بنى له بثوابه بناءً أشرف وأعظم، وأرفع))(). وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى -: ((يحتمل قوله: (( مثله)) أمرين: أحدهما أن يكون معناه: بنى الله تعالى له مثله في مسمى البيت، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها أنها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

الثاني: ((أن معناه أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا))().

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله -:((ومن الأجوبة المرضية،أيضاً أن المثلية هنا بحسب الكمية،والزيادة حاصلة بحسب الكيفية،فكم من بيت خير من عشرة بل من مائة))().وهذا هو الاحتمال الأول عند النووي. ولا شك أن التفاوت حاصل قطعاً بالنسبة إلى ضيق الدنيا، وسعة الجنة؛لأن موضع شبر فيها خير من الدنيا وما فيها().

وجاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته:علماً علَّمه ونشره،وولداً صالحاً تركه،ومصحفاً ورَّثه،أو مسجداً بناه،أو بيتاً لابن السبيل بناه،أو نهراً أجراه،أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته))().

 

ثالثاً: أنواع عمارة المساجد والموازنة بينهما:

يقول الشيخ / عبدالله بن محمد العسكر:

( لقد حرص الشرع المطهر على بناء المساجد وعمارتها ، ورتب عظيم الأجور لعمّارها ؛ لما لذلك  من أثر فعال وإيجابي في حياة المسلمين ، وعمارة المساجد وبناؤها المأمور بها في الشرع تنحصر في جانبين :

الأول : العمارة الحسية

ويعنى بها بناء مكان يأوي إليه الناس ليصلوا فيه ويتعبدوا ربهم تحت جدرانه .

وقد ثبت جملة من النصوص الشرعية تحث على بناء المساجد والعناية بشؤونها وحفظها من الأوساخ والأدران ، ومنع السفهاء والغوغاء من الإضرار بها ، فمن تلك النصوص :

  1. قال تعالى : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المفلحين )() .

  2. وحذر من إفسادها فقال: ( ومن أظلم ممن منع مساجد أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزيٌ وفي الآخرة عذابٌ       عظيم )()  

  3. عن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب " ()  .

  4. عن جابر بن عبد الله _رضي الله عنهما_ قال : قال _ صلى الله عليه وسلم _ :      " من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة () بنى الله له بيتاً في الجنة " ()

 

قال ابن حجر : " حمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه لتضع فيه بيضها وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة فيه " ( )

الثاني : العمارة المعنوية

والمراد بها أداء الصلاة فيها والاعتكاف وقراءة القرآن وذكر الله ، واتخاذا منطلقاً للتوجيه والتربية ونحو ذلك . فالبناءان ( الحسي والمعنوي ) لا ينفكان عن بعضهما .

أما مجرد عمارة المسجد وزخرفته والتباهي بحسن بنائه وتصميمه مع خلوه من العباد والمصلين فليس مراداً في الشرع كما هو حاصل في كثير من بلاد الإسلام اليوم ، ولله درّ القائل :

منائركم علت في كل حيٍّ      ومسجدكم من العبّاد خالي

وجلجلة الأذان بكل فجٍّ       ولكن أين صوتٌ من بلالِ()   

ومما جاء من النصوص الشرعية التي تحث وترغب في عمارة المسجد بالمفهوم المعنوي السالف الذكر :

  1. قال تعالى :( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار)()

  2. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : " من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً كلما غدا أو راح" ()

  3. عن أني هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ قلنا : بلى يا رسول الله .قال : " إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط " ()

  4. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم :" إذا توضأ أحدكم فأحسن وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة حتى يدخل المسجد ، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه ، وتصلي عليه ( يعني الملائكة ) ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه : اللهم اغفر له اللهم ارحمه مالم يحدِث فيه "()

   والنصوص في هذا الباب متوافرة شهيرة ، وليس المقام مقام تقصٍّ  وتتبُّع ؛ وإنما هو إشارة ومَلَْمح

 

ويقول د. عبد المجيد البيانوني   :

وازن القرآن الكريم بين نوعين من العمارة : العمارة الحسّيّة والعمارة المعنويّة ، ورجّح العمارة المعنويّة الإيمانيّة على العمارة الحسّيّة الظاهريّة ، لأن العمارة الحسّيّة المادّيّة هي من قبيل الوسائل والمقدّمات ، والعمارة المعنويّة الإيمانيّة هي من قبيل المقاصد والغايات ، ولاشكّ أنّ " عمارة المساجد بالعبادة والعلم والإيمان مقدّمة على تثبيت الأركان وتعلية الجدران ، والإكثار من الزخارف والألوان " () .

ويترتّب على هذه الموازنة بين هذين النوعين من العمارة ، وترجيح العمارة المعنويّة التي هي غاية ومقصد ، على العمارة الحسيّة التي هي مقدّمة ووسيلة يترتّب على ذلك جملة من الحقائق ، تلاحظ فيما شرع الإسلام من  أحكام المساجد ، ويجمع هذه الحقائق قاعدة عامّة نستخلصها :

" أن الإسلام يأمر في العمارة الحسيّة ـ على درجات متفاوتة من الأمر ، وقد تصل إلى الوجوب ـ بكلّ ما يحقّق العمارة المعنويّة ، أو يزيد في تأثيرها ، أو يؤيّد نشاطها وامتدادها ، كما ينهى في المقابل في العمارة الحسيّة ـ على درجات متفاوتة من النهي ، وقد تصل إلى الإثم والتحريم ـ عن كلّ ما يعطّل العمارة المعنويّة ، أو ينقص من تأثيرها ، أو يعوّق نشاطها وامتدادها " .

وهذه الموازنة وهذا الموقف ، مما يمتاز به الإسلام على موقف أصحاب الديانات الأخرى ، سماويّة في أصلها كانت أم وضعيّة ، ولا نشكّ أن ذلك مما حرّفوه من الدين الحقّ ، إذ إنّهم يجعلون من أساليب العمارة المادّية كاتّخاذ التصاوير والتماثيل ، والاهتمام بالزخارف ، وطرق الإنارة وألوانها ، وإدخال الموسيقى على دور العبادة ، وفي أثناء أدائها ، يجعلون من ذلك كلّه ما يسيطر على أتباعهم ، ويوحي إليهم بما يملون عليهم من مشاعر نفسيّة غامضة ، واستسلام لعقائد تتناقض مع الفطرة السويّة ، ولا تلتقي مع منطق العقل ولا أحكامه () .

وقد عاب الله تعالى على المشركين تفاخرهم بما يقومون به من عمارة حسّية ، تفتقد العمارة المعنويّة ، ولا تغني عنها ، لأنها لا تقوم على أساسها ، ولا تحقّقها ، فقال سبحانه : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِالَهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ ، وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) } [ التوبة ] ، كما بيّن سبحانه أن العمارة المعنويّة المقصودة هي من شأن المؤمنين وحدهم ، وهي من دلائل إيمانهم بالله واليوم والآخر ، وخشية الله ، والاجتهاد في طاعته ، ولا يعقل أن تكون من المشركين ، فقال سبحانه : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ، أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ، وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ، وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ، فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ (18) } [ التوبة ] .

 

ويقول الشيخ ابن جبرين رحمه الله:

وصف الله من يعمر المساجد بالإيمان بالله واليوم الآخر، والصلاة والزكاة وخشية الله وحده، والاهتداء الكامل، أي أن المؤمنين بالله حقًا هم الذين يحملهم إيمانهم على عمارة المساجد، وأكثر أهل العلم على أن المراد عمارتها بالصلاة والذكر والقراءة والعلم، وأنواع العبادة، فهي العمارة الحقيقية، ولهذا أورد الإمام أحمد بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبي  قال: { إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، لأن الله يقول: {           } () } رواه الترمذي وقال: حسن غريب.

 

ويقول الشيخ / عبدالله الجارالله:

( إن من أجل الأعمال وأعظمها منزلة عند الله، عمارة المساجد -بيوت الله وأحب البقاع إليه- عمارة حسية: بالبناء، والترميم، والتنظيف، وعمارة معنوية: بالصلاة فيها، وتلاوة القرآن، والذكر، والدعاء فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ()، التي جعلت عمارتها من أبين الأدلة على صدق الإيمان إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ() الآية. لقد أشاد الإسلام بفضل عمارة المساجد، وما تعود به زيارتها على النفوس من أثر فعال، وأضافها الله إلى نفسه إضافة تشريف فقال: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا() ولا غرابة! فعمارة المساجد كالمرآة الصافية لعكس أحوال الناس، وبيان مدى رغبتهم في الخير، وبزيارة المسلمين لها في اليوم والليلة خمس مرات؛ يتضح المؤمن من المنافق، يقول رسول الله : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان»() ويقول عبد الله بن مسعود: «ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض»(). فالمساجد مزارات ضيوف الله، وحق على المزور أن يكرم من زاره، وهو تعالى أكرم الأكرمين، ومن المساجد تصعد الأعمال الصالحة.

 

رابعا: منع عمارة المساجد وتعطيلها ومحاربتها :

يقول د/ سعود بن محمد البشر رحمه الله:

ومن أقبح القبائح وأظلم الظلم، المنع من عمارة المساجد وتعطيلها وصد الناس عنها ومحاربة عمارها أو تخريبها أو تحويلها لغير ما بنيت له من العبادة، قال تعالى: {              } () ، وكتب الخزي الدنيوي، وتوعد بالعذاب الأخروي من يفعل ذلك قال تعالى مخبرا عن ذلك: {                   } () .

 

سادساً : بناء المساجد على القبور :

يقول الشيخ / محمد بن رزق بن طرهوني:

لا يجوزُ بناءُ المسجدِ على القبورِ ، واتخاذُها أوثاناً ، والطوافُ بها ، واستلامُها ، والصلاةُ إليها . ويجبُ هدمُ المسجدِ الذي بني على قبرٍ ، لأن الوقفَ لا يصحُّ إذا خالفَ الشرعَ ، ولذلك لم يصحَّ وقفُ مسجدِ الضِّرارِ ، بل أمرَ بتحريقِه ، فهذا المسجدُ أولى للَعْنِ النبي  فاعل ذلك() إذا اتُّخِذَ مكاناً للشِّرْكِ ، وكذلك إذا دُفِنَ ميتٌ في  المسجدِ فينْبَشُ .

ويقول الشيخ / محمد صالح المنجد:

تشييد المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وآثارهم مما جاءت الشريعة الإسلامية الكاملة بالمنع منه والتحذير عنه ، ولعن من فعله ؛ لكونه من وسائل الشرك والغلو في الأنبياء والصالحين ، والواقع شاهد بصحة ما جاءت به الشريعة ، ودليل على أنها من عند الله عزوجل ، وبرهان ساطع وحجة قاطعة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن الله وبلغه الأمة ، وكل من تأمل أحوال العالم الإسلامي وما حصل فيه من الشرك والغلو بسبب إشادة المساجد على الأضرحة وتعظيمها وفرشها وتجميلها واتخاذ السدنة لها علم يقينا أنها من وسائل الشرك ، وأن من محاسن الشريعة الإسلامية المنع منها والتحذير من إشادتها. ومما ورد في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ( 1330 )  ومسلم ( 529 )رحمة الله عليهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "  قالت عائشة : يحذِّر ما صنعوا . قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " .

في الصحيحين أيضا أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال صلى الله عليه وسلم: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله " . (خ/ 427 ، م/ 528) 

وفي صحيح مسلم (532) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " .

 والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وقد نص الأئمة من علماء المسلمين من جميع المذاهب الأربعة وغيرهم على النهي عن اتخاذ المساجد على القبور وحذروا من ذلك . عملا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونصحا للأمة وتحذيرا لها أن تقع فيما وقع فيه من قبلها من غلاة اليهود والنصارى وأشباههم من ضلال هذه الأمة .

وقد تعلق بعض الناس في هذا الباب بقوله عز وجل في قصة أهل الكهف :( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا )الكهف/21 

والجواب عن ذلك أن يقال : إن الله سبحانه وتعالى أخبر عن الرؤساء وأهل السيطرة في ذلك الزمان أنهم قالوا هذه المقالة ، وليس ذلك على سبيل الرضا والتقرير لهم وإنما هو على سبيل الذم والعيب والتنفير من صنيعهم ، ويدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنزلت عليه هذه الآية وهو أعلم الناس بتأويلها قد نهى أمته عن اتخاذ المساجد على القبور، وحذرهم من ذلك ولعن وذم من فعله .

ولو كان ذلك جائزا لما شدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك التشديد العظيم وبالغ في ذلك حتى لعن من فعله ، وأخبر أنه من شرار الخلق عند الله عز وجل ، وهذا فيه كفاية ومقنع لطالب الحق ، ولو فرضنا أن اتخاذ المساجد على القبور جائز لمن قبلنا لم يجز لنا التأسي بهم في ذلك ؛ لأن شريعتنا ناسخة للشرائع قبلها ورسولنا عليه الصلاة والسلام هو خاتم الرسل وشريعته كاملة عامة وقد نهانا عن اتخاذ المساجد على القبور ، فلم تجز لنا مخالفته ، ووجب علينا اتباعه والتمسك بما جاء به وترك ما خالف ذلك من الشرائع القديمة ، والعادات المستحسنة عند من فعلها ؛ لأنه لا أكمل من شرع الله ولا هدي أحسن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

المراجع :

  • ( إمام المسجد مقوماته العلمية والخلقية ) للشيخ سعود بن محمد البشر رحمه الله

  • (أحكام حضور المساجد) للشيخ عبدالله بن صالح الفوزان

  • ( المساجد .. ) د سعيد بن علي القحطاني

  • (أحكام حضور المسجد) للشيخ عبدالله بن محمد العسكر

  • ( تذ كرة العابد بحقوق المساجد) للدكتور: عبد المجيد البيانوني  

  • ( فصول ومسائل تتعلق بالمسجد) الشيخ : عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين

  • ( رسالة إلى أئمة المساجد والمؤذنين والمأمومين) للشيخ عبدالله بن جارالله الجارالله

  • جمع الفوائد اختصار إصلاح المساجد للقاسمي : محمد بن رزق بن طرهوني

  • مجموع فتاوى ومقالات متنوعة الشيخ ابن باز رحمه الله ( 1 / 434 ) نقلا عن موقع الإسلام سؤال وجواب

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.